وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
(84)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} أَيْ جَزَاءً لإبراهيم وهبناهُ فضلاً مِنَّا وكَرَماً وعِوضاً عَنْ قومِهِ لَمَّا اعْتَزَلَهم؛ وهبناه “إسحاق” وهوَ ولدُهُ مِنْ زَوْجِهِ سارة، و”يعقوب” هو ابْنُ إسحاقَ لِتَقَرَّ عيْنُهُ ببقاءِ عَقِبِهِ؛ إذ في رُؤيةِ أَبناءِ الأبناءِ سُرورٌ للنَّفْسِ، وراحةٌ للفُؤادِ.
وقوله: {كُلاًّ هَدَيْنَا} أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُهْتَدٍ، أي: كلاًّ مِنْ إسْحاقَ ويَعقوبَ هَديناهُ الهِدايةَ الكُبْرى بلُحُوقِهِما بِدَرَجَةِ أَبيهِما في النُبُوَّةِ. ولفظ “كُلاًّ” مفعولٌ لِما بعدَهُ وقُدِّمَ لإفادةِ اخْتِصاصِ كُلٍّ منهُما بالهِدايةِ على سبيلِ الاسْتِقْلالِ والتَنْويهِ بِشَأنِهِما.
وقولُه: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أيْ: وهَدَيْنا نوحاً مِنْ قَبْلِ إبراهيمَ
إلى مِثْلِ ما هَدَيْنا إليْهِ إبراهيمَ وذُرِّيَّتَهُ مِنَ النُبُوَّةِ والحِكْمَةِ. وهذا لوْنٌ آخَر مِنْ تَشريفِ إبْراهيمَ حيثُ أنَّهُ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ إلى وصفِ اللهِ له بالهدايةِ، ولا شكّ أَنَّ شَرَفَ الآباءِ يَسْري على الأَبْناءِ. وكلٌّ منهُما لَهُ خُصوصِيَّةٌ عَظيمةٌ. أمَّا نوحٌ فإنَّ اللهَ لَمَّا أَغْرَقَ أهلَ الأرضِ إلاَّ مَنْ آمَنَ بِه وهُمُ الذين صَحِبوهُ في السفينةِ، جعلَ اللهُ ذُرِّيَّتَه هُمُ الباقين، فالناسُ كلُّهم مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وأَمَّا الخَليلُ إبْراهيمُ فلَم يَبْعَثِ اللهُ بعدَهُ نَبِيّاً إلاَّ مِنْ ذُرِّيَّتِه كما قال ـ تعالى ـ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُبُوَّةَ والكتاب} ثمَّ قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنينَ وَزَكَرِيَّا ويَحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين}.
قولُه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} قَالَ الْفَرَّاءُ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ والْقُشَيْرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ يُونُسُ وَلُوطٌ وَمَا كَانَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ لُوطٌ ابْنَ أَخِيهِ. وَقِيلَ: ابْنُ أُخْتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا مُضَافُونَ إِلَى ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تَلْحَقْهُ وِلَادَةٌ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، لِأَنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْعَمَّ أَبًا كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ}. وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّ يَعْقُوبَ. وَعُدَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ الْبِنْتِ العذراءِ مريم عليهم السلامُ جميعاً. كما أنَّ أَوْلَادَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ذُرِّيَّةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ رَأَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الوَلَدِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ـ رضي اللهُ عنهما: مَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ وَلَدِهِ وَوَلَدُ بَنَاتِهِ مَا تَنَاسَلُوا. وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَالْقَرَابَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ. وَيَسْقُطُ عِنْدَهُ ابْنُ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَابْنُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُحَرَّمِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَرَابَةُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَهُ ابْنُ الْعَمِّ وَلَا غَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ البنات. وقول الواقِفِ: لِقَرابتي وعَقِبي كقوله: لِوَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي. يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَمَنْ يَرْجِعُ إِلَى عَصَبَةِ الْأَبِ وَصُلْبِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي “آلَ عِمْرانَ”. والحجةُ لهما قولُهُ سُبْحَانَهُ: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فَلَمْ يَعْقِلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ إِلَّا وَلَدَ الصُّلْبِ وَوَلَدَ الِابْنِ خَاصَّةً. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى} فَأَعْطَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَرَابَةَ مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَامِهِ دُونَ بَنِي أَخْوَالِهِ. فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْبَنَاتِ لَا يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ بِالنَّسَبِ، وَلَا يَلْتَقُونَ مَعَهُ فِي أَبٍ.
قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَحُجَّةُ مَنْ أَدْخَلَ الْبَنَاتِ فِي الْأَقَارِبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ)). وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ فِي وَلَدِ الْبَنَاتِ إِنَّهُمْ وَلَدٌ لِأَبِي أُمِّهِمْ. وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّوَلُّدِ وَهُمْ مُتَوَلِّدُونَ عَنْ أَبِي أُمِّهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّوَلُّدَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَالتَّوَلُّدِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إِلَى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ ابْنُ ابْنَتِهِ.
قولُهُ تعالى: {وَوَهَبْنَا} الصحيحُ أنَّها مَعطوفةٌ على الجُملةِ الاسْمِيَّةِ مِنْ قولِهِ: {وتلك حُجَّتنا} وعَطْفُ الاسْمِيَّةِ على الفِعْلِيَّةِ وعَكْسُهُ جائزٌ. وجوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكونَ نَسَقاً على {آتيناها}، ورَدَّهُ الشيخُ بأنَّ {آتيناها} لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ: إمَّا الخَبَرُ، وإمَّا الحالُ، وهذِهِ لا مَحَلَّ لها لأنَّها لو كانَتْ معطوفةً على الخَبَرِ أوِ الحالِ لاشْتُرِطَ فيها رابطٌ. و”كلاً” مَنْصوبٌ ب “هَدَيْنا” بعدَهُ، والتقدير: وكلَّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ المَذكورين.
قولُهُ: {ومن ذريَّته} ذريته: الهاءُ تَعودُ على نوحٍ لأنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكورٍ، ولأنَّ إبراهيمَ ومَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأنْبياءِ كلِّهم مَنسوبون إليه. أو يَعودُ على إبراهيمَ لأنَّه المُحَدَّثُ عنْه والقِصَّةُ مَسوقةٌ لِذِكْرِهِ وخَبَرِه.
وقال أبو سليمان الدمشقي: “ووهبنا لَهُ لُوطاً” في المعاضدة والمناصرة، فعلى هذا يكون “لوطاً” منصوباً ب “وهبنا” مِنْ غيرِ قيدٍ بِكونِهِ مِنْ ذُرَّيَّتِه، وقولُه: “داود” وما عُطِفَ عليْهِ مَنْصوبٌ: إمَّا بِفِعْلِ الهِبَةِ وإمَّا بِفِعْلِ الهِدايَةِ. و”مِنْ ذريته” يَجوزُ متعلِّقٌ بذلك الفِعْلِ المَحذوفِ، وتكونُ “مِنْ” لابتداءِ الغايةِ. أو هي حالٌ أيْ: حالَ كونِ هؤلاءِ الأنْبِياءِ مَنْسوبين إليه.
قولُهُ: {وكذلك نجزي} الكافُ في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لِمَصْدَرٍ محذوفٍ، أيْ: نَجزيهم جَزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ أيْ: الأمرُ كذلك، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ} الأنعام: 75.