is
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
(81)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّه: {وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} كَيْفَ: استفهامٌ إِنْكَارِيٌّ وتعجُّب من حالِ المشركين مِنْ قومِ إبراهيمَ، عليْه السلامُ، فقد أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَخْوِيفَهُمْ إِيَّاهُ بِالأَصْنَامِ والنجوم التي هي مواتٌ لا حياةَ لها، وجمادٌ ليس بقادرٍ على نفعٍ أو ضَرَرٍ، بينما هُمْ يشركون بالله الحيِّ القيوم خالقِ كلِّ شيءٍ والقادِرِ على كلِّ شيءٍ ولا يَخَافُونَ أنْ يصيبهم وعيدُه بعِقابهم وتعذيبهم على كفرهم به وإشراكهم له غيرَه، ممن خلقَ، في مُلْكِهِ وتَصَرُّفِه به.
قولُه: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} أَيْ حُجَّةً، وَقَدْ وَرَدَ السُلْطانُ
بمعنى الحُجَّةِ في آياتٍ مِنَ القرآنِ الكَريمِ، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} النجم: 23. ف “مِن سُلْطَان” هنا لاسْتِغراقِ النَفْيِ، أيْ ما لمْ يُنَزِّلُ بِهِ سُلْطانًا أيَّ سُلْطانٍ كان، والتَعبيرُ عن الحُجَّةِ هنا بالسلطانِ، إشارةٌ إلى أَنَّه لا دليلَ يُسَوِّغُ عِبادَتَها، وأنَّها: لا قوَّةَ لَها، ولا سُلْطان لها على غيرِها من المخلوقاتِ، لتُصيبَ أحداً بِسوءٍ أو بِنِعْمَةٍ، إنَّما هي أوهامُكم.
قولُه: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} فأيُّ: الفاءُ هنا للإفصاحِ عن الشَرْطِ المُقَدَّرِ، أيْ إذا كنتم تَلْجؤون إلى مَنْ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ، وتَحْسَبونَ أنَّهُ يَمَسُّ مَنْ لا يَعْتَقِدُ بِه، وإبْراهيمُ يلجأُ إلى اللهِ تَعالى الذي يملُكُ كلَّ شيءٍ، فأَيْ الفريقين أحقُّ بالأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللهِ: الْمُوَحِّدُ أَمِ الْمُشْرِكُ؟ أِهُوَ الذي يَلْجَأُ إلى اللهِ القادِرِ على كلِّ شيءٍ أمِ الذي يَلْجَأُ في عبادتِه إلى أَصنامٍ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ؛ وعلَّقَ، سبحانَه وتعالى، الحُكمَ على العِلْمِ؛ لأنَّهُ لا حُكمَ مِنْ غيرِ عِلْمٍ.
قولُهُ: {إنْ كنتم تعلمون} علماً يقينيّاً لا شَكَّ فيه ولا ريبَ، أيْ إنْ كنتم تُدركونَ حقيقةَ الأُمورِ دونَما سَيْطَرةٍ عَلَيْكم لِوَهْمٍ أوْ شَكٍّ، ولا ريبَ في أنَّ الحُكْمَ واضِحٌ بين مَنْ هُمْ يَعبُدون اللهَ وَحْدَهُ، ولا يَلْجَؤون إلاَّ إليْه وبين الفريق الآخر الذي يشرك بالله تعالى ويلجأ إلى سواه.
قولُهُ تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ للإنكارِ ونَفْيِ وقوع الخوفِ بالكُلِّيَّةِ عنْ سيِّدِنا إبراهيمَ، عليه السلامُ، بحسبِ زَعْمِ الكَفَرَةِ بالطَريقِ الإلْزاميِّ بعدَ نَفْيِهِ عنْهُ بحسَبِ الوَاقعِ؛ وفي توجُّهِ الإنكارِ إلى كيفيَّةِ الخوفِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في تَوجيهِهِ إلى الخوفِ نَفْسِهِ، كأنْ يُقالَ: أأخافُ؟ مثلاً. وكُلُّ موجودٍ لا يخلو عن كَيْفِيَّةٍ فإذا انْتَفى جميعُ كَيْفِيَّاتِهِ فقدْ انْتَفى وُجودُه مِنْ جميعِ الجِهاتِ بالطَريقِ البُرهانِيِّ، و”كَيْفَ” حالٌ والعاملُ فيها “أَخَافُ” أي أخافُ، كيف؟. وقد تقدَّمَ الكَلامُ على “كيف” في أوَّلِ البَقَرَةِ مفَصّلاً وهذِه نَظيرتُها. و”ما” إمّا موصولةٌ اسميَّةٌ، أوْ نَكِرَةٌ مَوْصوفَةٌ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، والعائدُ على الأوَّلَيْنِ محذوفٌ، أيْ: ما أَشْرَكْتُموهُ باللهِ، أوْ إشراكَكُم باللهِ غيرَهُ.
وقولُهُ: “ولا تخافون” يَجوزُ في هذه الجملةِ أنْ تَكونَ عطفَ نسقٍ على “أخاف” فتَكون داخلةً في حَيِّزِ التَعَجُّبِ والإِنْكارِ، ويجوزُ أنْ تَكونَ حاليَّةً، أيْ: وَكيفَ أَخافُ الذي تُشْرِكونَ حالَ كونِكِمْ أَنْتُمْ غيرَ خائفين عاقبةَ إشْراكِكُمْ، ولا بُدَّ مِنْ إضمارِ مُبْتَدَأٍ قبلَ المُضارِعِ المَنْفِيِّ ب “لا“، لِما تقدَّم غيرَ مَرَّةٍ، أيْ: كيفَ أَخافُ الذي تُشْركونَ، أوْ يُخافُ إشْراكُكُم حالَ كونِكِمْ آمنينَ مِنْ مَكْرِ اللهِ الذي أَشْرَكْتُمْ به غيرَهُ. وهذِهِ الجُملةُ، وإنْ لم يَكنْ فيها رابطٌ يَعودُ على ذِي الحالِ، لا يَضُرُّ ذلك لأنَّ الواوَ بنَفْسِها رابطةٌ، وانْظُرْ إلى حُسْنِ هذا النَظْمِ السَوِيِّ، حيثُ جَعَلَ مُتَعَلَّقَ الخوفِ الواقعَ مِنْهُ بالأَصْنامِ، ومُتَعَلَّقَ الخَوْفِ الواقِعِ مِنْهمْ إشراكُهم باللهِ غيرَه، تَرْكاً لأنْ يُعادَلَ الباري تَعالى بِأَصنامِهِم، لو أنَّهُ أَبْرَزَ التركيبَ على هذا فقال: “ولا تخافونَ اللهَ” مقابلةً لِقولِهِ: “وكيفَ أَخافُ مَعبوداتِكم”. وأتى ب “ما” في قولِه: “ما أشركتم” وفي قولِهِ: “مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً” لأنَّهم غيرُ
عُقلاء، إذْ هي حجارةٌ وجمادٌ، حيثُ كانوا يَنْحِتُونَها ويَعْبُدونَها.
قولُهُ: {ما لم يُنَزِّلْ} مَفعولٌ ل “أَشْرَكْتُم” وهي مَوْصولَةٌ اسْمِيَّةٌ، أوْ نَكِرَةٌ، ولا تَكونُ مَصْدَرِيَّةً لِفَسادِ المَعنى، و”به” و”عليكم” مُتَعَلِّقان ب “يُنَزِّل“، ويجوزُ أنْ يكونَ “عليكم” حالاً مِنْ “سلطاناً” لأنَّه لو تَأَخَّرَ عَنْهُ لجازَ أنْ يَكونَ صَفَةً له.
وقولُهُ: {فأيُّ الفريقين أحقُّ} لم يَقُلْ: أيُّنا أَحَقُّ، نحنُ أمْ أنتمْ إلْزاماً لِخَصْمِهِ بما يَدَّعيهِ عَلَيْهِ، ولأنَّه لا يُزَكِّي القائلُ نَفْسَهُ، وهذا بخلافِ قولِ الشاعر:
فلئِنْ لقيتُكَ خالِيَيْنِ لتعلمَنْ ……………… أيّي وأيُّكَ فارسُ الأَحزابِ
فللَّهِ فصاحةُ القُرآنِ وآدابُه.
وقولُهُ: {إن كنتم} جوابُهُ محذوفٌ، أي: فأخبروني، ومُتَعَلَّقُ العِلْمِ محذوفٌ، ويجوزُ أَنْ لا يُرادَ لَهُ مفعولٌ، أي: إنْ كنتمْ مِنْ ذوي العِلْمِ.
وقرأ الجُمهورُ “سُلْطاناً” بسكونِ اللامِ إتباعاً لحركةِ ما قبلَها حيثُ وَقَعَ في القرآنِ الكريمِ. وقُرِئَ بِضَمِّها، وقيلَ: هي لُغةٌ يَثْبُتُ بها بناءُ “فُعُلَ” بضمِّ الفاءِ والعينِ.