وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ.
(80)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {وَحاجَّهُ قَوْمُهُ} أيْ وَجَادَلَ إِبْرَاهِيمَ قَوْمُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيهِ مِنَ توْحِيدِ اللهِ، وخاصَموهُ في أَمْرِ تَوْحيدِهِ بالأدِلَّة الفاسدةِ تارةً
وبالتخويفِ والتهديد أُخْرى. وَنَاظِرُوهُ بِشُبَهٍ مِنَ القَوْلِ، وَبَيَّنُوا لَهُ أَوْهَامَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَمْرِ اللهِ، وَفِي أنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ. وَمِنَ الدَّلاَئِلِ عَلَى بُطْلاَنِ اعْتِقَادِهمْ بأَنَّ هَذِهِ الأَصْنَامُ آلِهَةٌ تَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ، أَنَّهَا لاَ تَسْتَطِيعُ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً لأَحَدٍ، وَأَنَه، عليه السلامُ، لاَ يخَافُهَا، وَلاَ يُبَالِي بِهَا.
قولُه: {قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ} فقال لهم: كَيْفَ أَلْتَفِتُ إلَى أَقْوَالِكُمْ وَحُجَجِكُمُ وقَدْ بَصَّرَنِي رَبِّي بِالحَقِّ، وَهَدَانِي إِلَيْهِ، وَأَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ، البَاطِلَةِ.
قولُهُ: {وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} لأَنَّهُ لا يَنْفَعُ وَلا يَضُرُّ إِلاَّ اللهُ. و وَكَانُوا قد خَوَّفُوهُ بِكَثْرَةِ آلِهَتِهِمْ. فقال لهم إذا كَانَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الكَيْدِ وَالإِيذَاءِ، فَكِيدُونِي بِهَا، وَلاَ تُنْظِرُونَ. أَمَّا الذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، حَقِيقَةً، فَهُوَ اللهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، فأَنَا لاَ أَخَافُ الضَّرَرَ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبِّي ذَلِكَ، وَلَقْدَ أَحَاطَ رَبِّي بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً، فَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكَيْفَ لا تَتَذَكَّرُونَ ذَلِكَ، وَلاَ تُدْرِكُونَ أَنَّ الحَجَرَ العَاجِزَ لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ.
قولُهُ: {إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً} ويقدِّرُه، أَيْ إِلاَّ أنْ يشاءَ ربي أنْ يَلْحقَني شيءٌ مِنَ الْمَكْرُوهِ بِذَنْبٍ عَمِلْتُهُ فَتَتِمُّ مَشِيئَتُهُ. وإذا قضتْ مَشيئتُه تعالى شيئاً، بإصابَةٍ بمكروهٍ لي مِنْ جِهَتِها، فيكون ذلك إنَّما هو من جهتِهِ تعالى دون دَخْلٍ لآلهتِكم في إيجادِهِ وإحداثِهِ.
وفي التَعَرُّضِ لِعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مَعَ الإضافةِ إلى ضَميرِهِ، عليْهِ السَّلامُ، إشارةٌ إلى أنَّ مَشيئتَه تِلكَ إنْ وَقَعَتْ غيرَ خاليةٍ عن مَصْلَحَةٍ تَعودُ إليْهِ بالتَرْبِيَةِ أوْ إظهارٍ منْهُ، عليه الصلاةُ والسلامُ، لانْقيادٍ لحكْمِهِ، سبحانَه وتعالى، واسْتِسلامٍ لأَمرِهِ واعْتِرافٍ بكونِهِ تحتَ مَلَكُوتِهِ ورُبوبِيَّتِهِ.
قولُهُ: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي وسِعَ عِلمُهُ كلَّ شيءٍ. وقد تقدم.
قولُه: {أَفَلا تتذكَّرون} أيْ أتُعْرِضونَ بعدَما أَوْضَحْتُهُ لكم عنِ التَأَمُّلِ في أنَّ آلهتَكُمْ بمَعْزِلٍ عنِ القدرةِ على شيءٍ ما مِنَ النَّفْعِ أَوِ الضَرِّ أفلا تَتَذَكَّرون أَنَّها غيرُ قادرةٍ على إضراري. وفي إيرادِ التَذَكُّرِ دونَ التَفَكُّرِ ونحوِهِ إشارةٌ إلى أَنَّ أَمْرَ آلهتِكم مَرْكوزٌ في العُقولِ لا يَتوقَّفُ إلاَّ على التَذْكيرِ.
قولُهُ تعالى: {أتحاجونِّي في الله} في الله: متعلِّقٌ ب "أتحاجُّوني" لا ب "حاجَّه"، والمسألةُ مِنْ بابِ التَنازُعِ، وأَعْمَلَ الثاني لأنَّهُ لما أَضْمَرَ في الأَوَّلِ حَذَفَ، ولو أَعْمَلَ الأَوَّلَ لأَضْمَرَ في الثاني مِنْ غيرِ حَذْفٍ، ومثلُه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} النساء: 176، وفيه نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ إنَّ المَعنى ليسَ على تَسَلُّطِ "وَحَاجَّهُ" على قولِهِ: "في الله"؛ إذِ الظاهرُ انْقِطاعُ الجُمْلَةِ القَوْلِيَّةِ ممَّا قَبْلها. وقولُهُ "في اللهِ" أيْ في شأنِه ووَحْدانِيَّتِهِ.
قولُه: {وَقَدْ هَدَاني} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والأظهرُ أنَّ صاحِبَها هو التاءُ في "أتحاجونني" أيْ: أَتُجادِلُونَني فيهِ حالَ كَوْني مَهْدِيّاً مِنْ عِنْدِهِ. ويُمْكِنُ أَنْ يَكونَ مِنَ "الله" أيْ: أَتُخاصِمونَني فيهِ حالَ كونِهِ
هادياً لي، فحُجَّتُكم لا تُجْدي شَيْئاً لأنَّها داحضةٌ.
قولُهُ: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} هذِهِ الجُملةُ يجوزُ أَنْ تَكونَ مُستَأْنَفَةً، أَخْبرَ عليه السلامُ بأنَّه لا يَخافُ ما يُشرِكونَ بِه ربَّه ثقةً بِهِ، وكانوا قدْ خَوَّفُوه مِنْ ضَررٍ يحصُلُ لَه بِسَبَبِ سَبِّ آلهتِهم، ويُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ في مَحَلِّ نصبٍ على الحالِ باعتبارين أحدُهما: أنْ تَكونَ ثانيةً عطفاً على الأُولى، فتَكون الحالان من الياء في "أتحاجونِّي". والثاني: أنها حالٌ مِنَ الياءِ في "هداني" فتكون جملةً حاليَّةً مِنْ بعضِ جملةٍ حاليَّةٍ فهي قريبةٌ مِنَ الحالِ المُتداخِلَةِ، إلاَّ أَنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ مُبْتدأٍ على هذا الوَجْهِ قبلَ الفِعْلِ المُضارِعَ، لما تَقدَّمَ مِنْ أنَّ الفعلَ المُضارِعَ المنفيَّ ب "لا" حُكمُهُ حكمُ المُثبتَ مِنْ حيثُ إنَّه لا تُباشِرُهُ الواوُ. و"ما" يجوز فيها الأوْجُهُ الثلاثة: أنْ تكونَ مَصْدَرِيَّةً، وعلى هذا فالهاء في "به" لا تعودُ على "ما" عندَ الجُمهورِ، بلْ تَعودُ على الله تعالى، والتقديرُ: ولا أَخافُ إشراكَكم باللهِ، والمَفْعولُ محذوفٌ أيْ: ما تُشْرِكونَ غيرَ اللهِ بِه، وأَنْ تَكونَ بمعنى الذي، وأنْ تَكونَ نَكِرةً مَوْصوفةً، والهاءُ في "بهِ" على هذين الوجهين تعودُ على "ما"، والمعنى: ولا أَخافُ الذي تُشرِكونَ اللهَ بِه، فحَذَفَ المَفعولَ أيضاً كما حذَفَهُ في الوَجْهِ الأَوَّلِ، وقدَّرَ أبو البقاءِ قبلَ الضميرِ مُضافاً فقال: ويجوزُ أنْ تكونَ الهاءُ عائدةً على "ما" أيْ: ولا أَخافُ الذي تُشركونَ بِسَبَبِهِ. ولا حاجةَ إلى ذلك.
قولُه: {إلاَّ أَنْ يشاءَ} الأظهر أنَّه استثناءٌ مُتَّصلٌ، واختلفوا في
المستثنى منه، فجعلَهُ الزمخشريُّ زماناً فقال: إلاَّ وقتَ مَشيئةِ ربي شيئاً يُخافُ، فحَذَفَ الوقتَ، يَعني: لا أَخافُ معبوداتِكم في وقتٍ قَطُّ؛ لأنَّها لا تَقْدِرُ على مَنْفَعةٍ ولا تقدِرُ على مَضَرَّةٍ إلاَّ إذا شاءَ ربي. وجَعَلَه أبو البقاءِ حالاً فقال: تقديرُه إلاَّ في حالِ مشيئةِ ربي، أي: لا أَخافُها في كلِّ حالٍ إلاَّ في هذِه الحالِ. ويُمكنُ أنْ يَكون اسْتِثْناءً مُنْقطِعاً، وممَّن ذهب إليه ابْنُ عطيَّة والحوفيُّ وأبو البَقاءِ في أَحَدِ الوَجْهَيْنِ عنه، فقالَ الحُوفيُّ: تقديرُه: لكنَّ مَشيئةَ اللهِ إيّايَ بِضُرٍّ أَخافُ، وقال ابنُ عطيَّة: اسْتثناء ليس مِنَ الأَوَّلِ ولمَّا كانتْ قوَّةُ الكلامِ أنَّه لا يَخافُ ضَرّاً اسْتَثْنى مَشيئَةَ رَبِّهِ في أنْ يُريدَهُ بِضُرٍّ.
قولُه: {شيئاً} الأظهرُ: أنَّهُ مَنصوبٌ على المَصدَرِ والتقديرُ: إلاَّ أّنْ يشاءَ ربي شيئاً مِنَ المَشيئةِ، وإنَّما كان الأَظهرَ لأنَّ الكلامَ المؤكَّدَ أَقوى وأَثْبَتُ في النفسِ مِنْ غيرِ المؤكَّدِ. أو لأنَّه قد تَقَدَّمَ أنَّ مفعولا المشيئةِ والإِرادةِ لا يُذْكران إلاَّ إذا كان فيهِما غَرابةٌ كقولِ إسحاقٍ الخُريمي مولى بَني خُريمٍ وهو مِنْ شعراءِ عصرِ الرَّشيدِ:
ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه ........... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ
وهو من رثايَّةٍ له مطلعها:
قضى وطرًا منك الحبيب المودِّع .......... وحل الذي لا يُستطاع فيُدفعُ
ويمكن أنْ يكونَ "شيئاً" مفعولاً به لِ "يشاء"،
وقولُهُ: {عِلْماً} الأظهرُ فيه أنَّه منصوبٌ على التَمييزِ، وهو مُحَوَّلٌ
عن الفاعلِ والتقديرُ: وَسِع علمُ رَبّي كُلَّ شيءٍ، كقولِه تعالى: {واشْتَعَلَ الرأسُ شَيْباً} مريم: 4. ويمكن أن يكونَ مَنصوباً على المفعولِ المُطلَقِ؛ قيلَ لأنَّ وَسِعَ بمعنى عَلِمَ، لأنَّ ما يَسَعُ الشيءَ فقدَ أَحاطَ بِهِ، والعالِمُ بالشيءِ محيطٌ به بعلمِهِ. وهذا الذي ادَّعاهُ مِنَ المجازِ بَعيد. و"كلَّ شيءٍ" مفعولٌ لِوَسِعَ على كِلا التقديرين.
وقولُهُ: {أفلا تتذكرون} جملةٌ اسْتِئنافيَّةٌ للتقريرِ والتَوبيخِ، لا محلَّ لها من الإعراب.
قولُه: {أَتحاجُّوني} قَرَأَ نافعٌ وابْنُ ذَكْوانَ وهِشامٌ بخلافٍ عنْه بنونٍ خفيفةٍ، والباقون بنونٍ ثقيلةٍ، والأصلُ التَثقيلُ، لأنَّ النونَ الأُولى نُونُ الرَّفْعِ في الأَمْثِلَةِ الخَمْسَةِ، والثانية نونُ الوِقايةِ، فاسْتُثْقِل اجتماعُهُما، وفيها لُغاتٌ ثلاثٌ: الفَكُّ وتَرْكُهُما على حالِهِما، والإِدْغامُ، والحَذْفُ، وقد قُرِءَ بهذه اللُّغاتِ كُلِّها في قولِهِ تَعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُروني أَعْبُدُ} الزمر: 64، وهُنا لم تُقْرَأْ إلاَّ بالحَذْفِ أوِ الإِدْغامِ، وفي سورةِ الحجر: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} الحجر: 54، كذلكَ، فقِراءةُ ابْنِ كَثيرٍ بالإِدْغامِ، ونافعٌ بالحَذْفِ، والباقون يَفتحونَ النونَ لأنَّها عندَهم نونُ رَفْعٍ، وفي سُورةِ النَّحلِ: {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} النحل: 27، يُقرَأُ بفتحِ النُونِ عندَ الجُمهورِ لأنَّها نونُ رَفْعٍ، ويَقرؤهُ نافعٌ بِنُونٍ خَفيفةٍ مَكْسورةٍ على الحذْفِ، فَنَافِعٌ حَذَفَ إحْدى النُونين في جميعِ هذِه المَواضِعِ، فإنَّه يَقرَأُ في الزُمُرِ أَيْضاً بحذفِ إحْداهما، وقولُهُ تَعالى: {أتعدانني} الأَحْقاف: 17، قرَأَهُ هشامٌ بالإِدْغامِ، والباقون بالإِظْهارِ دونَ
الحَذْفِ.
واخْتَلَفَ النُحاةُ في أيَّتِهِما المحذوفةُ: فمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ ومَنْ تَبِعَهُ أَنْ المحذوفةَ هي الأُولى، ومَذْهَبُ الأَخْفَشِ ومَنْ تَبِعَهُ أنَّ المحذوفةَ هي الثانيةُ، واسْتَدَلَّ سِيبَوَيْهِ على ذلك بأنَّ نُونَ الرَفْعِ قدْ عُهِدَ حَذْفُها دونَ مُلاقاةِ مِثْلٍ رَفْعاً، وأُنْشِد لأَبي طالبٍ:
فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ ............... سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ
أي: فسَتَحْتَلِبونَها، لا يُقالُ إنَّ النُونَ حُذِفَتْ جَزْماً في جَوابِ الشَرْطِ؛ لأنَّ الفاءَ هُنا واجِبَةُ الدُخولِ لِعَدَمِ صَلاحِيَةِ الجُمْلَةِ الجَزائيَّةِ شَرْطاً، وإذا تَقرَّرَ وُجوبُ الفاءِ، وإنَّما حُذِفتْ ضَرورَةً ثَبتَ أنَّ نُونَ الرَّفْعِ كان مِنْ حَقِّها الثُبوتُ إلاَّ أَنَّها حُذِفَتْ ضَرورةً، وأَنْشَدوا أَيْضاً قولُ الراجِزِ:
أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي ............... وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي
أيْ: تَبيتين وتَدْلُكين، وفي الحديثِ: والذي نَفسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحَابُّوا. ف "لا" الداخلة على "تَدْخُلوا" و"تُؤْمِنوا" نافيةٌ لا ناهيةٌ، لِفَسادِ المَعْنى عليْه، وإذا ثَبَتَ حَذْفُها دونَ مُلاقاةِ "مثل" رَفْعاً فلأَنْ تُحْذَفَ مَعَ مُلاقاةِ "مثل" اسْتِثْقالاً بِطريقِ الأَوْلى والأَحْرَى، وأَيْضاً فإنَّ النونَ نائبةٌ عن الضَمَّةِ، والضَمَّةُ قد عُهِدَ حَذْفُها في فصيحِ الكلامِ كَقِراءَةِ أَبي عَمْرٍو: {يَنْصُرْكُمُ} آل عمران: 160. و{يُشْعِرُكُمْ} الأنعام: 109. و{يَأْمُرُكُمْ} البقرة: 67. وبابُِه بِسُكونِ آخِرِ الفِعْلِ، وقَوْلُ امْرِئِ القيس:
فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ ...................... إثماً من اللهِ ولا واغِلِ
وإذا ثَبَتَ حَذْفُ الأَصْلِ فَلْيَثْبُتْ حَذْفُ الفَرْعِ لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَفْضيلُ فَرْعٍ على أَصْلِهِ، وأَيْضاً فإنَّ ادَّعاءَ حَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ لا يُحْوِجُ إلى حَذْفِ آخَر، وحذفُ نونِ الوِقايَةِ قدْ يُحْوِجُ إلى ذَلك، وبَيانُه أَنَّه إذا دَخَلَ جازمٌ أوْ ناصِبٌ على أَحَدِ هذِه الأَمْثِلَةِ فلو كان المحذوفُ نونَ الوِقايَةِ لَكانَ يَنْبَغي أنْ تُحْذَفَ هذه النونُ لأنَّها نُونُ رَفْعٍ وهي تَسْقُطُ للنّاصِبِ والجازِمِ، بخلافِ ادِّعاءِ حَذْفِ نونِ الرَّفْعِ، فإنَّه لا يُحْوِجُ إلى ذلك لأنَّه لا عَمَلَ لَهُ في التي للوِقايَةِ.
ولقائلٍ أَنْ يَقولَ: لا يَلْزَمُ مِنْ جَوازِ حَذْفِ الأَصْلِ حَذْفُ الفَرْعِ، لأنَّ في الأصلِ قوَّةً تَقتَضي جَوازَ حذفِهِ بخِلافِ الفَرْعِ، ولعلَّ الآخَرِ لَهُ أنْ يَقولَ: هذا مُعارَضٌ بإلغاءِ العامِلِ: وذلك أنَّهُ لو كان المحذوفُ نونَ الرَفْعِ لأَجْلِ نُونِ الوِقايَةِ ودَخَلَ الجازِمُ والنّاصِبُ لم يَجِدْ لَهُ شَيْئاً يَحذِفُهُ؛ لأنَّ النُونَ حُذِفَتْ لِعارِضٍ آَخَرَ. واسْتَدَلُّوا لِسِيبَوَيْهِ أَيْضاً بأنَّ نُونَ الوِقايَةِ مَكْسورةٌ، فبَقاؤها على حالِها لا يَلْزَمُ مِنْهُ تَغييرٌ بخِلافِ ما لَوْ ادَّعَيْنا حَذْفَها فإنَّا يَلْزَمُنا تَغييرُ نُونِ الرَفْعِ مِنْ فَتْحٍ إلى كَسْرٍ، وتَقليلُ العَمَلِ أَوْلى، واسْتَدَلُّوا أَيْضاً بأنَّها قدْ حُذِفَتْ مَعَ مِثْلِها، وإنْ لم يَكُنْ نونَ وقايَةٍ كَقَوْلِ الفَضْلِ بْنِ عبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ:
كلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ ................... بِنِعْمَةِ اللهِ نَقْلِيكُمْ وتَقْلُونا
أيْ: وتَقْلُونَنا، فالمَحذوفُ نُونُ الرَّفْعِ لا نُونُ "ن" لأنَّها بَعْضُ ضَميرٍ،
وعُورِضَ هذا بأنَّ نُونَ الرَّفعِ أيْضاً لها قُوَّةٌ لِدَلالَتِها على الإِعْرابِ، فَحَذْفُها أيضاً لا يجوزُ، وجَعلَ سِيبوَيْهِ المحذوفةَ مِنْ قولِ الشاعِرِ عَمْرٍو بْنِ مَعْدِ يَكْربَ نونَ الفاعل لا نونَ الوقاية، والبيتُ هو:
تَراهُ كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً ........................ يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني
الثِّغامُ: نَبْتٌ لَهُ نَوْرٌ أَبْيَضُ يُشَبَّهُ بِهِ الشَيْبُ. يُعَلُّ: يُطيَّبُ شَيْئاً بَعدَ شيءٍ، وأَصْلُ العَلِّ الشُرْبُ بَعْدَ الشُرْبِ. يَسوءُ الفالِياتِ: يُحْزِنُهُنَّ لأنَّهُنَّ يَكْرَهْنَ الشَيْبَ، والفالِياتُ: جمعُ فالِيَةٍ، وهي التي تَفلي الشَعْرَ، أيْ تُخْرِجُ القَمْلَ مِنْهُ. والبَيْتُ مِنْ أَبياتٍ ثمانِيَةٍ للشاعرِ في امْرَأَةٍ كانَتْ لأَبيهِ تَزَوَّجَها بَعْدَهُ في الجاهِلِيَّةِ. وَوَهِمَ بعضُهم فنَسَبَهُ لِعُمَرَ بْنِ أَبي رَبيعةَ، وتمامُها:
تقولُ حَليلَتي لما فَلَتْني ........................ شرائجُ بينَ كَدْرِيٍّ وجَوْنِ
تَراهُ كالثِّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً ........................ يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني
فزَينُك في شَريطِكِ أُمَّ عَمْرٍو ................... وسابغةٌ وذو النّونين زَيْني
فَلَوْ شَمَّرْنَ ثمَّ عَدَوْنَ رَهْواً ..................... بِكُلِّ مُدَجَّجٍ لَعَرَفْتِ لَوْني
إذا ما قُلْت إنَّ عليَّ دَيْناً ..................... بِطَعْنَةِ فارسٍ قَضَّيْتُ دَيْني
لِقَعْقَعَةِ اللِّجامِ بِرَأْسِ طَرْفٍ ................... أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ تُنْكِحيني
أَخافُ إذا هَبَطْنَ بِنا خُباراً ................. وجَدَّ الرَّكْضُ أَنْ لا تَحْمِليني
فلولا إِخْوَتي وبَنِيَّ مِنْها .................... مَلأْتُ لها بِذي شُطَبٍ يميني
واسْتَدَلَّ الأَخْفَشُ بأنَّ الثُقْلَ إنَّما حَصَلَ بالثانِيَةِ، ولأنَّهُ قد اسْتُغْنِي عنْها، فإنَّهُ إنَّما أُتِيَ بها لِتَقِيَ الفعلَ مِنَ الكَسْرِ، وهو مأمونٌ لِوُقوعِ الكَسْرِ على نُونِ الرَّفْعِ، ولأنَّها لا تَدُلُّ على معنًى بخِلافِ نُونِ الرَّفْعِ، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو: لَيْتَني فيُقالُ: لَيْتي، كقولِ زَيْدِ الخَيْلِ:
كمُنْيَةِ جابرٍ إذْ قالَ لَيْتي ..................... أُصادِفُهُ وأُتْلِفُ بَعْضَ مالي
وحذفُ النُونِ في هذا النَّحوِ جائزٌ فَصيحٌ، ولا يُلْتَفَتُ إلى قولِ مَنْ مَنَعَ ذلك إلاَّ في ضَرورَةٍ أوْ قَليلٍ مِنَ الكَلامِ، ولهذا عِيْبَ على مَكِيٍّ ابْنِ أبي طالبٍ حيثُ قالَ: الحَذْفُ بعيدٌ في العربيةِ قَبيحٌ مَكروهٌ، وإنَّما يَجوزُ في الشِعْرِ للوزْنِ، والقُرآنُ لا يُحْتَمَلُ ذلك فِيهِ إذْ لا ضَرورةَ تَدْعو إليْهِ. وتَجاسَرَ بعضُهم فقالَ: هذهِ القِراءةُ لحُنٌ، أَعْني تَخفيفَ النُّونِ. وهذانِ القولانِ مَردودانِ عَلَيْهِما لِتَواتُرِ ذلك، وقد قَدَّمْتُ الدليلَ على صِحَّتِهِ لُغَةً، وأيْضاً فإنَّ الثِقاتِ نَقَلوا أَنَّها لُغةٌ ثابتةٌ للعَرَبِ وهُم غَطَفان، فلا مَعنى لإِنْكارِها.