وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. (69)
قولهُ تعالى جَدُّهُ: {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وَلَيْسَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ شَيءٌ مِنْ حِسَابِ الخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اللهِ، فَلا يُحَاسَبُونَ عَلَى خَوْضِهِمْ فِيهَا، وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعَمْالِهِمْ، إذْ هُمْ تَجَنَّبُوهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ، كَمَا أَمَرُوا. وَلَكِنَّ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ هَؤُلاءِ الخَائِضِينَ امْتَثَالاً لأَمْرِ اللهِ، وَتَذْكِيراً لِهَؤُلاَءِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَيَجْتَنِبُونَ الخَوْضَ حَيَاءً أَوْ كَرَاهَةً لِمَسَاءَتِهِمْ. قال أبو جَعْفَر: يقولُ تعالى ذِكْرُهُ: ومَنْ اتَّقى اللهَ فخافَهُ، فأَطاعَهُ فيما أَمَرَهُ بِهِ، واجْتَنَبَ ما نهاهُ عنْه، فليس عليْه بتركِ الإعراضِ عنُ هؤلاءِ الخائضين في آياتِ اللهِ، في حالِ خوضِهم في آياتِ اللهِ، شيءٌ مِنْ تَبِعَةٍ فيما بَيْنَهُ وبينَ الله، إذا لم يَكنْ تَرْكُهُ الإعْراضَ عنْهم رِضًا بما هُمْ فيهِ، وكانَ للهِ بحقوقِهِ مُتَّقِيًا، ولا عليْهِ مِنْ إثمِهم بذلِكَ حَرَجٌ، ولكنْ لِيُعْرِضوا عَنْهم حينئذٍ ذِكْرى لأمْرِ اللهِ "لعلهم يتقون"، يقول: ليَتَّقوا. وقالَ أيْضاً: لمَّا نَزَلَتْ {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} الأنعام: 68. قالَ المسلمون لئن كنَّا نقومُ كلَّما اسْتَهْزَأَ المُشْرِكون بالقرآن لم نَسْتَطعْ أنْ نجلِسَ في المَسْجِدِ الحَرامَ ولا نَطوفُ بالبيتِ فَنَزَلَتْ، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رضيَ اللهُ عنْهُما: لَمَّا نَزَلَ لا تَقْعُدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لا يُمْكِنُنَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. "وَلكِنْ ذِكْرى" أَيْ فَإِنْ قَعَدُوا يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ فَلْيُذَكِّرُوهُمْ. "لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" اللهَ فِي تَرْكِ مَا هُمْ فِيهِ. ثُمَّ قِيلَ: نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. وَإِنَّمَا كَانَتِ الرُّخْصَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ وَكَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ تَقِيَّةٍ. وَأَشَارَ بقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} إلى قول: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً}. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالأَظْهَرُ أَنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً. وَالْمَعْنَى: ما عليكم شيءٌ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ، فَعَلَيْكُمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَزَجْرِهِمْ فَإِنْ أبوا فحسابهم على اللهِ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّه يَنْبَغي أنْ يَسْتَعْمِلَ المُذَكِّرُ مِنَ الكلامِ، ما يكونُ أَقْرَبَ إلى حُصولِ مقصودِ التَقْوى. فإنَّ اللهَ تعالى أَخَذَ على أَوْلِيائهِ التَذْكِرَةَ لِعِبادِه، كما أَخَذَ التَبْليغَ على أَنْبيائهِ، صلواتُ اللهِ عليهم أَجمعين. فعلى أَوْلياءِ اللهِ أَنْ يَدُلُّوا عليْه، فمَتى قَعَدوا عنْ ذلك كانوا مُقَصِّرين. وفيهِ دليلٌ على أنَّه إذا كان التذكيرُ والوَعْظُ، ممَّا يَزيدُ الموْعوظَ شَرّاً إلى شَرِّهِ، فإنَّ تَركَه هو الواجِبُ لأنَّه إذا ناقَضَ المَقصودَ، كانَ تركُهُ مَقْصودًا.
قولُه تعالى: {وَمَا عَلَى الذين} يجوز أنْ تكونَ "ما" حجازيَّةً فيكون "من شيء" اسمَها، و"من" مَزيدَةً فيه لتأكيدِ الاسْتِغْراقِ، و{عَلَى الذين يَتَّقُونَ} خبرَها عندَ مَنْ يُجيزُ إعْمالَها مُقدَّمَةَ الخَبَرِ مُطْلَقاً، أوْ يَرى ذلكَ في الظَرْفِ وعَديلِهِ. و{مِنْ حِسَابِهِم} حال من "شيء"؛ لأنَّه لو تَأَخَّرَ لَكانَ صِفَةً لَه، ويجوزُ أنْ تَكونَ مُهْمَلَةً: إمَّا على لغةِ تميمٍ وإمَّا على لُغَةِ الحِجازِ لِفواتِ شرطٍ وهو تقديم خَبَرِها وإنْ كان ظَرْفاً، وتحقيقُ ذلك ممَّا تَقَدَّمَ في قولِهِ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّنْ شَيْءٍ} الأنعام: 52.
قولُه: {ولكن ذكرى} ذكرى: منصوبةٌ على المصدرِ بفعلٍ مُضْمرٍ، قدَّرَهُ بعضُهم أَمراً أي: ولكن ذكِّروهم ذكرى، وبعضُهم قدَّرَهُ خبراً أي: ولكن يُذَكِّرونهم ذكرى. ويمكن أن تكون "ذكرى" مُبتَدَأً خبرُه محذوفٌ أي: ولكن عليهم ذكرى، أو عليكم ذكرى أي: تذكيرُهم. أو هي خبرٌ لمُبتَدَأٍ محذوفٍ أي: هي ذكرى أو هو ذكرى أي: النهيُ عن مجالَسَتِهم، والامتناعُ منها ذكرى، ويمكن أن يكون عطفاً على مَوْضِعِ "شيء" المجرورِ ب "مِنْ"، أي: ما على المتِّقين مِْن حِسابهم شيءٌ ولكنْ عليهم ذِكرى، فيكونُ مِنْ عطفِ المُفرداتِ، وأَمَّا على الأوْجُهِ السابقةِ فمِنْ عَطْفِ الجُمَلِ، قالَ الزمخشريُّ: ولا يجوزُ أنْ يَكونَ عطفاً على محلِّ "منْ شيءٍ" كقولِك: "ما في الدار من أحد ولكن زيدٌ" لأنَّ قولَه "من حسابهم" يأبى ذلك. فردَّ عليه الشيخ أبو حيّان التوحيدي قائلاً: كأنَّه تخيَّلَ أنَّ في العطفِ يَلْزَمُ القَيْدُ الذي في المعطوفِ عليه وهو "مِنْ حِسابهم" فهو قيدٌ في "شيء"، فلا يجوزُ عندَه أنْ يَكونَ مِنْ عَطْفِ المُفْرَداتِ عَطفاً على "من شيء" على المَوْضِعِ؛ لأنَّه يَصيرُ التَقديرُ عندَهُ: ولكنْ ذِكرى مِنْ حِسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تخيَّلَهُ ليسَ بِشَيْءٍ، لا يَلْزَمُ في العطفِ ب "ولكن" ما ذَكَرَ، تقولُ: ما عندنا رجلُ سوءٍ ولكن رَجلُ صِدْقِ، وما عندنا رجلٌ مِنْ تميمٍ ولكنْ رجلٌ مِنْ قُريْشٍ، وما قام مِنْ رَجُلٍ عالمٌ ولكنْ رجلٌ جاهلٌ، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوزُ أنْ يكونَ مِنْ عطفِ الجُمَلِ كما تَقدَّمَ، وأَنْ يَكونَ مِنْ عَطفِ المُفرداتِ، والعطفُ بالواوِ، و"لكن" جيء بها للاستدراكِ. وقولُه، تقولُ: ما عندَنا رجلُ سوءٍ ولكنْ رجلُ صِدْقٍ إلى آخرِ الأمثِلَةِ التي ذَكَرَها لا يَرُدُّ على الزمخشريِّ؛ لأنَّ الزّمخْشَرِيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ اللِّسانِ والأُصولِيِّين يَقولونَ: إنَّ العطفَ ظاهرٌ في التَشريكِ، فإنْ كانَ في المعطوفُ عليه قيدٌ فالظاهرُ تقيُّدُ المعطوفِ بذلك القَيْدِ، إلاَّ أنْ تجيءَ قرينةٌ صارِفَةٌ فيُحالُ الأمرُ عليْها.