وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
(59)
قولُهُ تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ} جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ نَزَلَ مَعَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ، هَذِهِ هي اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ. وَيُقَالُ: مِفْتَاحٌ وَيُجْمَعُ مَفَاتِيحُ. وَالْمِفْتَحُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَحُلُّ غَلْقًا، مَحْسُوسًا كَانَ كالقُفْلُ على البيتِ أوِ مَعْقولاً كَالنَّظَرِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ)). وَهُوَ فِي الآيَةِ اسْتِعَارَةٌ عَنِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْغُيُوبِ كَمَا يُتَوَصَّلُ فِي الشَّاهِدِ بِالْمِفْتَاحِ إِلَى الْمُغَيَّبِ عَنِ الإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ افْتَحْ عَلَيَّ كَذَا، أَيْ أَعْطِنِي أَوْ عَلِّمْنِي مَا أَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِهِ.
فهذه الآيةُ العَظيمةُ، مِنْ أَعْظَمِ الآياتِ تَفْصيلاً لِعِلْمِهِ المحيطِ، وأَنَّهُ شاملٌ للغُيوبِ كلِّها، التي يُطْلِعُ على ما شاء منها مَنْ يشاءُ مِنْ خَلْقِه. وقد طوى الكثيرَ مِنْ عِلْمِ هذِه الأشياءِ عنِ الملائكةِ المُقرَّبين، والأَنْبياءِ المُرسلين، فضلاً عنْ غيرِهم مِنَ العالمين.
قال العلامة الألوسيُّ: ومن بابِ الإشارةِ في قولِه: "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ" اعْلَمْ أنَّ بعضَ ساداتِنا الصُوفيَّةِ، قدَّسَ اللهُ تعالى أسرارَهم، ذَكروا أَنَّ للغيبِ مَراتِبَ، أُولاها: غيبُ الغُيوبِ، وهو عِلْمُ اللهِ تعالى المُسمّى بالعِنايَةِ الأُولى. وثانيتُها: غيبُ عالَمِ الأَرْواحِ، وهو انتقاشُ صُورَةِ كُلِّ ما وُجِدَ وسَيُوجَدُ مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبَدِ في العالَمِ الأوَّلِ العَقْلِيِّ الذي هو رُوحُ العالَمِ المُسَمَّى بِأُمِّ الكِتابِ على وَجْهٍ كُلِّيٍّ، وهو القَضاءُ السابقُ. وثالثَتُها: غيبُ عالَمِ القُلوبِ، وهو ذلك الانْتِقاشُ بعينِهِ مُفَصَّلاً تَفْصيلاً عِلْمِيّاً كُلِّيّاً وجُزْئِيّاً في عالَمِ النَّفْسِ الكُلِّيَّةِ التي هي قلبُ العالَمِ المُسَمَّى باللَّوحِ المحفوظِ. ورابِعَتُها: غَيْبُ عالَمِ الخَيالِ وهو انْتِقاشُ الكائناتِ بأَسْرِها في النُفوسِ الجُزْئِيَّةِ الفَلَكِيَّةِ مُنْطَبِعَةً في أجْرامِها مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً مُقارِنَةً لأَوْقاتِها على ما يَقَعُ بِعَيْنِهِ. وذلكَ العالَمُ هو الذي يُعَبَّرُ عنْه بالسَّماءِ الدُنْيا إذْ هو أَقْرَبُ مَراتِبِ الغُيوبِ إلى عالَمِ الشَّهادَةِ ولَوْحِ القَدَرِ الإلهيِّ الذي هو تفصيلُ قضائِهِ سُبْحانَه، وذَكَروا أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعالى الذي هو العِنايَةُ الأُولى، عبارةٌ عنْ إِحاطَتِهِ سُبْحانَهُ بالكُلِّ حُضوراً، فالخَزائنُ المُشْتَمِلَةُ على جميعِ الغُيوبِ حاضرةٌ لِذاتِه وليس هُناك شيءٌ زائدٌ، ولا يَعلَمُها إلاَّ هو سبحانَه. وكذا أَبوابُ تلكَ الخَزائنِ مُغْلَقَةٌ ومَفاتيحُها بِيَدِهِ تَعالى لا يَطَّلِعُ على ما فيها أَحَدٌ غيرُهُ عَزَّ وَجَلَّ، وقدْ يَفْتَحُ مِنْها ما شاءَ لمنْ يَشاءُ.
هذا وقد يُقالُ: حَقَّقَ كثيرٌ مِنَ الرّاسخين في العِلْمِ أَنَّ حقائقَ الأَشياءِ وماهياتُها ثابتةٌ في الأَزَلِ، وهي في ثبوتِها غيرُ مجْعولَةٍ وإنَّما المَجْعولُ الصُوَرُ الوُجودِيَّةُ، وهي لا تتبَدَّلُ ولا تَتَغيَّرُ، ولا تتَّصِفُ بالهَلاكِ أَصْلاً، كما يُشيرُ إليْهِ قولُهُ تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} القصص: 88. بناءً على عَوْدِ الضَمِيرِ إلى الشيءِ وتفسيرِ الوَجْهِ بالحَقيقةِ، وعِلْمُ اللهِ تعالى بها حُضُورِيٌّ وهيَ كالمَرايا لِصُوَرِها الحادثةِ فتَكونُ تِلكَ الصُوَرُ مَشهودةً للهِ تعالى أَزَلاً مَعَ عَدَمِها في نَفْسِها ذِهْناً وخارجاً، وقد بَيَّنُوا انْطِواءَ العِلْمِ بها في العِلْمِ بالذاتِ بجميعِ اعْتِباراتِهِ التي مِنْها كونُه سُبحانَهُ مَبْدَأً لإفاضةِ وُجوداتِها عليْها بمُقتَضى الحِكْمَةِ. فيُمْكِنُ أَنْ يُقالَ: إنَّ المَفاتِحَ بمَعنى الخزائنِ إشارةً إلى تلك الماهِيَّاتِ الأَزَلِيَّةِ التي هي كالمرايا لما غابَ عنّا مِنَ الصُوَرِ، وتلكَ حاضرةٌ عندَه تَعالى أَزَلاً، ولا يَعْلَمُها عِلْماً حُضُوريّاً غيرَ محتاجٍ إلى صُورةٍ ظِلِّيَّةٍ إلاَّ هوَ جَلَّ وعَلا، وهذا ظاهرٌ لمنْ أَخَذَتِ العِنايَةُ بِيَدِهِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خمسٌ لا يَعلَمُها إلاَّ اللهُ، لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلا اللهُ، ولا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلا اللهُ، ولا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ إِلا اللهُ، ولا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللهُ، ولا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللهُ)). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ السيدةِ عائِشَةَ رضيَ اللهُُ عنها قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ} سورة النمل، الآية: 65.
فَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ، وَبِيَدِهِ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، لا يَمْلِكُهَا إِلاَّ هُوَ، فَمَنْ شَاءَ اللهُ إِطْلاعَهُ عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ، وَمَنْ شَاءَ حَجْبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ. ولا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِفَاضَتِهِ إِلاَّ عَلَى رُسُلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} آل عمران، الآية: 179. وَقَالَ: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} سورة الجِنّ، الآيتان: 26 و 27. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَفَاتِحِ خَزَائِنُ الرِّزْقِ. وقيلَ: خَزَائِنُ الأَرْضِ. وَهَذَا مَجَازٌ، عُبِّرَ عَنْهَا بِمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِهِ. وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَيْ عِنْدَهُ الآجَالُ وَوَقْتُ انْقِضَائِهَا. وَقِيلَ: عَوَاقِبُ الأَعْمَارِ وَخَوَاتِمُ الأَعْمَالِ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ الأَقْوَالِ. وَالأَوَّلُ الْمُخْتَارُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وأَنَّهُ يَعلَمُ ما في البراري والقِفارِ، مِنَ الحَيَوانات، والأشجارِ، والتراب، والحصى، والرِمالِ، وما في البحارِ من حيَواناتها، ومعادِنها، وصيدِها، وغيرِ ذلك مما تحتويهِ أَرْجاؤها، ويَشْتَمِلُ عليْه ماؤها.
قَالَ العُلَمَاءُ: أَضَافَ سُبْحَانَهُ عِلْمَ الْغَيْبِ إِلَى نَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ إِلاَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا وَجَزَمَ فَهُوَ كَافِرٌ، أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ ادَّعَاهَا أَمْ لا، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ وَقَالَ: إِنَّ النَّوْءَ يُنْزِلُ اللهُ بِهِ الْمَاءَ عَادَةً، وَأَنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَادَةً، وَأَنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ لَمْ يَكْفُرْ. وهذا كثيراً ما يحدُثُ في أيامِنا هذِه، مِنَ المُتَنَبِّئينَ بحسبِ مُعْطياتِ عِلْمِ النَوْءِ وما تُعطيهِ صُوَرُ الأقْمارِ الاصْطِناعيَّةِ التي تُصوِّرُ أَماكِنَ تَكَاثُفِ الغُيومِ وتَشَكُّلِها، وتَرْصُدُ اتِّجاهَ حَرَكَةِ الرِّياحِ وسُرْعَتْها وتَبْني على ذلك معلوماتِها، لكنْ تبْقى هذه المعلوماتُ في حُدودِ التَكَهُّنِ وليست قطعيةً إذ كثيراً ما حدثَ العكسُ، وللهِ سبحانَه أنْ يُغَيِّرَ اتِّجاهَ الرياحِ أوْ سُرْعَتَها مَتى شاءَ وكيفَ شاءَ، ولِذلك لا بأسَ أَنْ نَنْظُرَ إلى المَسألَةِ من هذه الزاوية وفي هذِه الحدودِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَهُوَ كَافِرٌ، وقد يقول قائلٌ: لقد توصَّل الطب الحديث إلى تصوير الجنين في الرحم ومعرفة الذكر من الأنثى داخل الرحمِ، وفي الإجابة عن ذلك نقول: إنَّ هذه المعرفة تبقى قاصرةً لأنها لا تتمُّ إلاَّ بعدَ تَشَكُّلِ الجنين ذكراً أو أنثى بينما معرفة الله مطلقة غير محدودة بوقت أو كيفية إذ هو سبحانه الذي يشكل الجنين وهو الذي يحدد نوعه وصفته، ثمَّ إنَّ هذِهِ المعلومةَ تبقى غيرَ قطعيةٍ لأنها تحتمل الخطأ وإن بنسبة ضئيلة. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ: إِذَا كَانَ الثَّدْيُ الأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْيِ الأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ يَفْسُقْ. وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى الْكَسْبَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمُرِ فَهُوَ كَافِرٌ. أَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُجَمَلَةِ أَوِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ أَنْ تكون فلا ريبة فِي كُفْرِهِ أَيْضًا. فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ قَالَ العُلَمَاءُ: يُؤَدَّبُ وَلا يُسْجَنُ. أَمَّا عَدَمُ تَكْفِيرِهِ فَلأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حَسَبَ مَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ} سورة يس، الآية: 39. وَأَمَّا أَدَبُهُمْ فَلأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ، إِذْ لا يُدْرِكُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ، فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدَهُمْ أو أنثى وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدَهُمْ فِي الْيَقِينِ فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلا يُعْلِنُوا بِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ (أَيْضًا) مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)). وَالْعَرَّافُ هُوَ الْحَازِرُ وَالْمُنَجِّمُ الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ. وَهِيَ مِنْ الْعَرَافَةِ وَصَاحِبُهَا عَرَّافٌ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ عَلَى الأُمُورِ بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَاتٍ يَدَّعِي مَعْرِفَتَهَا. وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطُّرُقِ وَالنُّجُومِ، وَأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا الْفَنُّ هُوَ الْعِيَافَةُ (بِالْيَاءِ). وَكُلُّهَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْكِهَانَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَالْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (كِتَابِ الْكَافِي): مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا الرِّبَا وَمُهُورُ الْبَغَايَا والسُحْتُ والرِّشاءُ وَأَخْذُ الأُجْرَةِ عَلَى النِّيَاحَةِ وَالْغِنَاءِ، وَعَلَى الْكِهَانَةِ وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الزَّمْرِ وَاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ كُلِّهِ. وَكُلُّ ذلك من الكبائر، لقول عليه الصلاةُ والسلام: ((لم تقبل لصلاة أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)). فَكَيْفَ بِمَنِ اتَّخَذَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَقْوَالِهِمْ. رَوَى مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ أُنَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: ((إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ)) فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِئَةَ كِذْبَةٍ)). قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لَيْسَ لِيَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (أَيْضًا) مِنْ حَدِيثِ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السمع فتسمعه فتوجيه إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِئَةَ كِذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)).
قولُهُ: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْبَشَرِ، أَيْ يَعْلَمُ مَا يَهْلِكُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَيُقَالُ: يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الدَّوَابِّ وَرِزْقِ مَا فِيهَا.
قولُه: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} أيْ مِنْ أَشجارِ البرِّ والبَحْرِ،
والبُلْدانِ والقَفْرِ، والدُنيا والآخِرَةِ.
قولُهُ: {وَلا حَبَّةٍ} مِنْ حُبوبِ الثِمارِ والزُروعِ، وحُبوبِ البُذورِ التي يَبْذُرُها الخلقُ؛ وبُذورِ النَوابِتِ البرِّيَّةِ التي يُنْشِئُ منها أصنافَ النباتات. روى يَزيدُ بْنُ هارونَ عنْ نافعٍ عن محمَّدٍ بْنِ إسحاقَ عنْ نافعٍ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما، عَنِ النبي صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا مِنْ زَرْعٍ عَلَى الأَرْضِ وَلا ثِمَارٍ عَلَى الأَشْجَارِ وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ إِلاَّ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم رزقُ فلانٍ بْنِ فُلانٍ)). وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: "وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ".
حَكَى النَّقَّاشُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَرَقَةَ يُرَادُ بِهَا السِّقْطُ مِنْ أَوْلادِ بَنِي آدَمَ، وَالْحَبَّةَ يُرَادُ بِهَا الَّذِي لَيْسَ بِسِقْطٍ، وَالرَّطْبَ يُرَادُ بِهِ الْحَيُّ، وَالْيَابِسَ يُرَادُ بِهِ الْمَيِّتُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الرُّمُوزِ، وَلا يَصِحُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى "وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ" أَيْ مِنْ وَرَقَةِ الشَّجَرِ إِلاَّ يَعْلَمُ مَتَى تَسْقُطُ وَأَيْنَ تَسْقُطُ وَكَمْ تَدُورُ فِي الْهَوَاءِ، ولا حَبَّةٍ إِلاَّ يَعْلَمُ مَتَى تَنْبُتُ وَكَمْ تُنْبِتُ وَمَنْ يَأْكُلُهَا.
وقولُهُ: {في ظُلُماتِ الأَرْضِ} أي في بُطُونُهَا وَهو الأَصَحُّ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ وَهُوَ مُقْتَضَى الآيَةِ. وَقِيلَ: "فِي ظُلُماتِ الأَرْضِ" يَعْنِي
الصَّخْرَةَ الَّتِي هِيَ أَسْفَلَ الأَرَضِينَ السَّابِعَةِ.
وقولُه: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} هذا عمومٌ بعدَ خُصوصٍ.
وقولُه: {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الكتابُ المبينُ هنا هو اللوحُ المحفوظ، كَتَبَها (ضمَّها) جميعاً لِتَعْتَبِرَ الْمَلائِكَةُ بِذَلِكَ، لا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ ذَلِكَ لِنِسْيَانٍ يَلْحَقُهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَتَبَهُ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لِتَعْظِيمِ الأَمْرِ، أَيِ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلا عِقَابٌ مَكْتُوبٌ، فكيف بما فيه ثواب وعقاب. فقد حواها جميعاً، واشْتَمَلَ عليها، وبعضُ هذا المذكورِ، يُبْهِرُ عقولَ العُقلاءِ، ويُذْهِلُ أَفئدةَ النُبَلاءِ، فَدَلَّ هذا على عَظَمَةِ الرَّبِّ العظيم وسَعَتِهِ، في أوْصافِه كلِّها. وأنَّ الخلقَ مِنْ أوَّلهم إلى آخرِهم لو اجْتَمَعوا على أنْ يحيطوا ببعضِ صِفاتِه، لم يَكُنْ لهم قُدْرَةٌ ولا وُسْعٌ في ذلك، فتَباركَ اللهُ رَبُّ العرشِ العظيمِ، الواسعُ العليمُ، الحميدُ المجيدُ، الشهيدُ، المحيطُ. وجَلَّ مِنْ إلهٍ، لا يحصي أَحَدٌ عليه ثناءً، بلْ كما أَثْنى هو على نَفْسِهِ، فوقَ ما يُثْني عليْه عِبادَه، فقد دلَّتْ هذه الآيةُ على عِلْمِهِ المحيطِ بجميعِ الأشياءِ، وكِتابِه المحيطِ بجميعِ الحَوادِثِ.
قولُهُ تعالى: {مَفَاتِحُ} هو جمعُ مِفْتَحٍ بكسْرِ الميمِ والقَصْرِ، وهو الآلةُ التي يُفتَحُ بها نحو: مِنْخُلٌ ومَنَاخِل. أوْ هُو جمع مَفْتَحٍ بفتحِ الميمِ، وهو المكان، ويُؤيِّدُه تفسيرُ ابْنِ عبَّاسٍ، رضي اللهُ عنهما، هي خزائنُ المَطَرِ. أوْ هو جمعُ مِفتاحٍ بكسرِ الميمِ والأَلِفِ، وهو الآلةُ أيضاً، إلاَّ أنَّ هذا فيه ضعفٌ مِنْ حيثُ إنَّه كان يَنْبَغي أَنْ تُقْلَبَ أَلِفُ المُفْرَدِ ياءً فيُقالُ: مَفاتيح كدنانير، ولكنَّه قدْ نُقِلَ في جمعِ مِصباحٍ على مَصابِحَ، وفي جمعِ مِحْرابٍ على مَحارِبَ، وفي جمع قُرْقُرٍ على قراقِرَ، وهذا كما أَتَوْا بالياءِ في جمعِ ما لا مَدَّةَ في مُفرَدِهِ كقولهم: دراهيمَ وصَياريفَ في جمعِ دِرْهَم وصَيْرَف، قال الشاعر (قيل هو للفرزدق):
تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ ......... نَفْيَ الدارهيمِ تَنْقادُ الصَّياريفِ
وقالوا: عِيِّلٌ وعَياييلٌ. قال الراجزُ حَكيمُ بْنُ مُعَيَّةَ الرَّبَعِيِّ يصِفُ قَناةً نَبَتَتْ في مَوضِعٍ مَحفوفٍ بالجِبالِ والشَّجَرِ:
حُفَّتْ بأَطوارِ جِبالٍ وحُظُرْ .............. في أَشِبِ الغِيطالِ مُلتَفِّ السَّمُرْ
فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ ...
الأصل: عيايِلُ ونمورٌ، فزاد في ذاك ونَقَّصَ مِنْ هذا.
وقد قُرِئ "مفاتيح" بالياءِ وهي تؤيِّدُ أنَّ مفاتِحَ جمعُ مِفتاحٍ، وإنَّما حُذِفَتْ مَدَّتُه. وجَوَّزَ الواحِدِيُّ أنْ يَكونَ مِفاتحٌ جمعَ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الميمِ على أنَّهُ مَصْدَرٌ، قالَ بعدَ كلامٍ حَكاهُ عن أبي إسحاقِ: "فعلى هذا مفاتِحُ جمعُ المَفْتَحِ بمعنى الفَتْحِ، كأنَّ المعنى: "وعنده فتوح الغيب" أي: هو يَفتَحُ الغيبَ على مَنْ يشاءُ مِنْ عِبادِه. وقال أبو البقاءِ: "مفاتِحُ جمعُ مَفْتَحٍ، والمَفْتَحُ الخِزانَةُ، فأمَّا ما يُفتَح بِه فهو المِفْتاحُ، وجمعُه مَفاتِيحُ وقدْ قيلَ مَفْتَحٌ أيضاً". يريدُ جمعَ مَفتحٍ أيْ بفتحِ الميم. وقوله: وقد قيل: مَفْتَح يَعني أنها لُغةٌ قليلةٌ في الآلَةِ والكَثيرُ فيها المَدُّ، وكان يَنْبَغي أنْ يُوضِّحَ عبارتَه فإنَّها مُوهِمَةٌ ولِذلك فقد شرحتُها.
قولُه: {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ "مفاتح"، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تضمَّنَهُ حَرْفُ الجَرِّ لِوُقوعِهِ خَبراً. وقال أبو البقاء: "نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ بهِ مَفاتح" أي: إنْ رَفَعتَه بِهِ فاعِلاً، وذلك على رأيِ الأخفشِ، وتَضَمُّنُه للاسْتِقْرارِ لا بُدَّ مِنْهُ على كُلِّ قولٍ، فلا فَرْقَ بين أَنْ تَرْفعَ بِهِ الفاعلَ أوْ تجعَلَه خَبراً.
قولُه: {مِن وَرَقَةٍ} فاعل "تَسْقُط" و"مِنْ" زائدةٌ لاسْتِغْراقِ الجِنْسِ.
وقولُه: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} حالٌ مِنْ "ورقة" وجاءتِ الحالُ مِنَ النَكِرَةِ لاعْتِمادِها على النَفْيِ، والتقدير: ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ عالماً هو بها، كما لو قلتَ: "ما أكرمْتُ أَحَداً إلاَّ صالحاً"، ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ نَعْتاً لـ "ورقة" وإذا كانوا أَجازوا في قولِهِ: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} الحجر: 4. أنْ تَكونَ نعتاً لِقريَةٍ في قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} الحُجُر: 4. مع كونها بالواوِ، ويَعتَذِرون عن زيادةِ الواوِ، فأَنْ يُجيزوا ذلك هنا أَوْلى، وحينئذٍ فيَجوزُ أنْ تَكونَ في مَوْضِعِ جَرٍّ على اللَّفْظِ أوْ في محَلِّ رَفعٍ على المَحَلَّ.
قولُهُ: {وَلاَ حَبَّةٍ} عطفٌ على لَفْظِ "وَرَقَةٍ" ولو قُرِئ بالرفعِ لَكانَ عطفاً على الموضِعِ. و"في ظُلُماتِ" صِفةٌ لحَبَّةٍ.
وقولُه: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} معطوفان أيضاً على لفظِ "ورقة"، وقرأَهما ابْنُ السُمَيْفَعِ والحَسَنُ وابْنُ أبي إسحاقَ بالرَّفْعِ على المحلِّ، وهذا هو الظاهرُ، ويجوزُ أنْ يكونا مُبتَدأيْنِ، والخبرُ قولُه: "إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" ونقلَ الزَمخْشَرِيُّ أنَّ الرَفعَ في الثلاثةِ أَعْني قولَه: "ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ" وذَكَرَ وَجْهَي الرَّفعِ المًتَقَدِّمين، ونَظَّرَ للوَجْهَ الثاني بقولهم: "لا رجلٌ
منهم ولا امرأةٌ إلاَّ في الدَّارِ.
قولُهُ: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} في هذا الاسْتِثْناءِ غُموضٌ، قال الزمخشريُّ: وقولُه: "إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" كالتكريرِ لِقوْلِه: "إِلاَّ يَعْلَمُهَا" لأنَّ معنى "إلاَّ يعلمها" ومعنى "إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ" واحدٌ، والكتابُ عِلْمُ اللهِ أَوِ اللَّوحُ" وقال أبو حيّان التوحيديّ في عبارةٍ قريبةٍ مِنْ هذِهِ: وهذا الاستثناءُ جارٍ مجرى التوكيدِ لأنَّ قولَه: "ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس" معطوفٌ على "مِنْ ورقة" والاستثناءُ الأَوَّلُ مُنْسَحِبٌ عليْها كما تقول: "ما جاءني مِنْ رَجُلٍ إلاَّ أَكْرَمْتُهُ، ولا امرأةٍ" فالمعنى: إلاَّ أَكْرَمْتُها، ولكنَّه لَمَّا طالَ الكلامُ أُعيدَ الاسْتِثناءُ على سبيلِ التَوكيدِ، وحَسَّنَهُ كونُه فاصلَةٌ. وواضِحٌ أنَّ عِبارةَ الشيخِ التوحيديِّ أَحْسَنُ من عِبارة أبي القاسم. وجَعَلَ بعضهم الكلامَ تامَّاً عندَ قولِهِ: "ولا يابِسٍ" ثمَّ استَأنَفَ خَبراً آخَرَ بِقولِه: "إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" بمعنى: وهو في كتابٌ مُبينٌ أَيْضاً. لأنَّك لو جَعَلْتَ قولَه: "إِلاَّ فِي كِتَابٍ" مُتَّصِلاً بالكلامِ الأوَّلِ لَفَسَدَ المعنى. وإنَّما كانَ فاسداً عندَ مَنْ قالَ بذلك مِنْ حيثُ اعْتَقدَ أَنَّه اسْتِثْناءٌ آخرُ مستقلٌّ، أمَّا لَوْ جَعَلَهُ استثناءً مُؤكِّداً للأوَّلِ لم يَفْسُدِ، وكيف يُتَصَوَّرُ تمامُ الكلامِ على قولِهِ تعالى: "وَلاَ يَابِسٍ" ويُبْتَدَأ بـ "إلاَّ" وكيف تَقَعُ "إلاَّ" هَكذا؟
وقال أبو البَقاءِ: "إلاَّ في كتابٍ مبينٍ" أيْ: إلاَّ هو في كتابٍ مُبينٍ، ولا يجوزُ أنْ يَكونَ اسْتِثناءً يَعْمَلُ فيه "يَعْلَمُها"؛ لأنَّ المعنى يَصيرُ: وما تَسقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُها إلاَّ في كتابٍ ، فيَنْقَلِبُ مَعناه إلى الإِثباتِ أي: لا يَعْلَمُها في كتاب، وإذا لم يَكُنْ إلاَّ في كتابٍ وَجَبَ أَنْ يَعْلَمُها في الكِتابِ، فإذاً يكون الاسْتِثْناءُ الثاني بَدَلاً مِنَ الأَوَّلِ أيْ: وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ هي في كتابٍ وما يَعْلَمُها. وجَوابُه ما تَقدَّمَ مِنْ جَعْلِ الاسْتِثْناءِ تأكيداً.