وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
(53)
قَوْلُهُ سبحانَهُ وتَعَالَى: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ كَمَا فَتَنَّا مَنْ قَبْلَكَ كَذَلِكَ فَتَنَّا هَؤُلاءِ. وَالْفِتْنَةُ الاخْتِبَارُ، أَيْ عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِينَ. يَعْنِي الأَشْرَافَ وَالأَغْنِيَاءَ المُتَكَبِّرِينَ فقد اختَبَرَهُمُ اللهُ سبحانَه بِسَبْقِ الضُّعَفَاءِ إلَى الإِسْلاَمِ.
قولُه: {لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} أَهؤُلاءِ: يَعْنِي الضُّعَفَاءَ وَالْفُقَرَاءَ. لِيَقُولَ الكُبَرَاءُ عَنِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ سَاخِرِينَ منهم مُسْتَهْجِنين: أَهَؤُلاَءِ الذِينَ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالهِدَايَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَاتِّبَاعِ الحَقِّ وسلوكِ طريقِهِ؟. وَهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ أنَّ اللهَ مَا كَانَ لِيَهْدِيَ هَؤُلاَءِ المُسْتَضْعَفِينَ إلى الخَيْرِ وَيَدَعَ كُبَرَاءَ قُرَيْشٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْمُشْكِلِ، لأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ فُتِنُوا لِيَقُولُوا هَذِهِ الآيَةَ؟ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنْكَارًا فَهُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى اخْتُبِرَ الأَغْنِيَاءُ بِالْفُقَرَاءِ أَنْ تَكُونَ مَرْتَبَتُهُمْ وَاحِدَةً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولُوا عَلَى سَبِيلِ الاسْتِفْهَامِ لا عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ: "أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وَالْجَوَابُ الآخَرُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتُبِرُوا بِهَذَا فَآلَ عَاقِبَتُهُ إِلَى أَنْ قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ، وَصَارَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} القصص: 8.
وقولُه: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُسْتَنْكِرًا هَذا القَوْلَ وَهَذا الاعْتِقَادَ : أَلَيْسَ اللهُ هُوَ الأَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ فَيُوَفِّقَهُمْ، وَيَهْدِيَهمْ سَبِيلَ السَّلاَمِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ ويَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِالإِيمَانِ دُونَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ اللهُ مِنْهُمُ الْكُفْرَ؟.
وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: "أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وقل: الْمَعْنَى أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ مَنْ يَشْكُرُ الإِسْلامَ إذا هَدَيْتُه إليْه.
قولُه تَعالى: {وكذلك فَتَنَّا} الكافُ في محلِّ نَصْبٍ على أنَّها نَعْتٌ لِمَصدرٍ محذوفٍ والتقديرُ: ومِثْلُ ذلكَ الفُتُونِ المُتَقدِّمِ الذي فُهِمَ مِنْ سِياقِ أَخْبارِ الأُمَمِ الماضِيَةِ فَتَنَّا بَعضَ هذِهِ الأُمَّةِ بِبَعْضٍ، فالإِشارةُ بذلك إلى الفُتونِ المَدلولِ عليْه بقولِه: "فَتَنَّا". قيل إنَّ الإِشارةَ بذلك إلى ما ذُكِرَ مِنْ طَلَبِهم أنْ يَطْرُدَ الضَعَفَةَ. ولا يَنْتَظِمُ ذلك، إذْ يَصيرُ التَقديرُ: مِثلَ طلبِ الطَرَفِ فتَنَّا بَعْضَهم ببَعْضٍ، والمُتَبادِرُ إلى الذِهنِ مِنْ قولِكَ: "ضربْتُ مثلَ ذَلك" المُماثَلَةُ في الضَرْبِ، أيْ: مثلَ ذلكَ الضَرْبِ لا أنْ تَقَعَ المُماثَلَةًُ في غيرِ الضَرْبِ، وقد تقدَّمَ غيرَ مَرَّةٍ أنَّ سِيبَوَيْهِ يجعلُ مثلَ ذلك حالاً مِنْ ضميرِ المَصدرِ المُقَدَّرِ.
قولُه: {لِيَقُولوا} اللامُ، لامُ كيْ وهو الأَظْهرُ وعليْه أَكثرُ المُعْرِبين والمُفَسِّرين، والتَقديرُ: ومَثلُ ذَلك الفُتُونِ فَتَنَّا لِيَقولُوا هذِه المقالَةَ ابْتِلاءً مِنَّا وامْتِحانًا. أو أَنَّها لامُ الصَيرورَةِ أيْ العاقِبَةِ كما جاءَ في الخَبرِ أنَّ لله مَلَكًا يُنادي كلَّ يومٍ ببابٍ مِنْ أَبوابِ السماءِ: يا بَني آدمَ لِدُوا للمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ. ورُويَ عنْ كَعْبِ الأحبارِ رَضيَ الله عنْه أنَّ طيرًا اسمُه ورشانُ صاحَ عندَ نبيِّ اللهِ سُليمانَ بْنِ داوودَ عليْهما السلامُ، فقال: أَتدرونَ ما يَقولُ؟: قالوا: لا، فقالَ سيدُنا سليمان: إنَّه يقولُ: يا بَني آدَمَ لِدوا للموتِ وابْنوا للخَرابِ. وقد نَظَمَ أَحَدُ الشُّعَراءِ هذا المعنى فقالَ:
له ملكٌ يُنادي كلَّ يومٍ .................... لِدوا للموتِ وابْنوا للخَرابِ
وقدْ نَسَبَ البَغْداديُّ هذا البَيْتَ في خِزانَةِ الأَدَبِ إلى سيدِنا عَلِيٍّ بْنِ أبي طالبٍ كَرَّمَ اللهُ وجهَهُ. ومِنْ ذَلك قولُهُ تَعالى: {فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} القصص: 8. ويَكونُ قولُهم "أهؤلاءِ" إلى آخرِهِ، صادرًا على سَبيلِ الاسْتِخفافِ.
قولُهُ: {أَهَؤلاءِ} الأظْهَرُ أنَّهُ مَنصوبُ المحَلِّ على الاشْتِغالِ بِفِعْلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُهُ الفِعْلُ الظاهِرُ، العاملُ في ضميرِهِ بوِساطَةِ "على"، ويَكونُ التفسيرُ مِنْ حيثُ المعنى لا مِنْ حيثُ اللَّفْظِ، والتقديرُ: أفَضَّلَ اللهُ هؤلاءِ مَنَّ عَليْهم، أوْ اخْتارَ هؤلاءِ مَنَّ عَلَيْهم، ولا محلَّ لجملةِ: "مَنَّ الله عَلَيْهِم" لكونها تفسيريَّةً، وإنما رَجَّحَ إضمارَ الفِعلِ هُنا لأنَّهُ وَقَعَ بَعدَ أَداةٍ يَغلِبُ إيلاءُ الفعلِ لها. وهناك وجه ثانٍ في إعراب "أَهَؤلاءِ" وهو أنَّه مَرفوعُ المحَلِّ على أنَّهُ مُبتَدأٌ والخَبرُ جملةُ "مَنَّ اللهُ عليهم"، وهذا وإنْ كان سالماً مِنَ الإِضْمارِ الموجودِ في الوَجْهِ الأوَّلِ، إلاَّ أَنَّه مَرْجوحٌ لما تَقَدَّمَ، و"عليهم" مُتَعلِّقٌ بِ "مَنَّ".
وقولُهُ: {مِنْ بَيْنِنَا} يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، أي: مَنَّ عليهم مُنْفَردينَ، ويجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِِ "مَنَّ"، أي: ميَّزَّهُمُ اللهُ علينا، والجُمْلَةُ مِنْ قولِه: "أهؤلاءِ مَنَّ الله" في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ.
وقولُهُ: {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} الفرقُ بين الباءين أنَّ الأُولى لا تعلُّقَ لها لكونها زائدةً في خبرِ "لَيْسَ" والثانية مُتَعلِّقَةٌ بأَعْلَمَ، وتَعَدِّي العِلْمِ بها لِما ضُمِّن مِنْ مَعنى الإِحاطةِ، وكثيرًا ما يَقَعُ ذلك في عبارةِ العُلَماءِ فيَقولونَ: عَلِمَ بِكذا، والعِلْمُ بِكذا.