فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ
(43)
قوله تعالى شأنُه: {فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا} لومٌ وعِتَابٌ منه تعالى عَلَى تَرْكِ الدُّعَاءِ وحضٌّ عليه، وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا حِينَ نُزُولِ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا تَضَرَّعُوا تَضَرُّعَ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ، أَوْ تَضَرَّعُوا حِينَ لابَسَهُمُ الْعَذَابُ، وَالتَّضَرُّعُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ نَافِعٍ. وَالدُّعَاءُ مَأْمُورٌ بِهِ حَالَ الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر: 60. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي} غافر: 60. أيْ دُعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} غافر: 60. وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. والبأسُ هنا الشِدَّةُ. وهي أُكثرُ ما تَكون في شدَّةِ الحربِ. ولأواءِ القِتالِ، ويُطْلَقُ البأسُ أيضًا على شدَّةِ الفقرِ والبُؤسِ في العيش.
قولُه: {وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ صَلُبَتْ وَغَلُظَتْ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فإنَّ القلوبَ إذا تَراكَمَتْ عليْها الذُّنوب فطمس الله عليها، وأصابها العمى فلم تعدْ بصائرُهم تميِّزُ الصوابَ مِنَ الخطإ، فهي كما قال الله تبارك وتعالى: {كلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون} المطففين: 14، وفي هذا المعنى قال رسولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنَّ القلوبَ لَتَصْدَأُ كما يَصْدَأُ الحديدُ، وجِلاؤها كتابُ الله)) مسلم(144). وروى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ العبدَ إذا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكتَةٌ سَوداءُ، فإذا هُو نَزَعَ واسْتَغُفَرَ اللهَ، وتابَ صُقِلَ قَلبُه، فإنْ عادَ زِيدَ فيها حتى تَعلُو على قَلْبِهِ، وهو الرانُ الذي ذَكَرَ اللهُ في كتابهِ: كلاّ بَلْ رانَ على قلوبهم ما كانوا يَكْسِبون)). وقال التِرمِذِيُّ هذا حَديثٌ حَسَنٌ صحيح.
وقولُه: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ" أَيْ أَغْوَاهُمْ فرَأوا أعمالهم القبيحةَ من كفر ومَعصيةٍ وإعراضٍ عن الله تعالى ودينه ونبيه، وما يفعلونه مِنْ مَيْسِرٍ وربًا وزِنًا، ومعاقرةِ الخمرةِ، وأكلِ السُحْتِ، وقتلِ النفسِ التي حَرَّمَ اللهُ بغيرِ حَقٍّ، وغيرِ ذلك مِنْ كُفْرٍ وفُسوقٍ وفُجورٍ، كلُّ ذلك برَّرَه لهم شيطانهم وجعله حسنًا في نَظَرِهْم فاسْتَمْرَؤوه، واسْتَحْسَنوه.
قولُه تعالى: {فلولا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} لولا: حرفُ نَفْيٍ وتحريضٍ، أيْ فلَم يَتَضَرَّعوا حينئذٍ مَعَ وُجُودِ المُقتَضي وانتفاءِ المانِعِ الذي به يُعذَرون، و"إذ" مَنْصوبٌ بـ "تَضرَّعوا" فَصَلَ بِهِ بين حَرْفِ التَحْضيضِ وما دَخَلَ عليْه، وهو جائزٌ حتى في المَفْعولِ بِه، تقول: "لولا زيدًا ضَرَبْتَ" وتَقَدَّمَ أنَّ حَرْفَ التَحْضِيضِ مَعَ الماضي يَكونُ مَعْناهُ التوبيخَ.
والتضرُّع: على وزن "تَفَعُّل" من الضَّراعة، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال: ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال:
لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ ................... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولَةِ والتَذلُّلِ المفهومةِ مِنْ هَذه المادَّةِ اشْتَقُّوا مِنْها للثَدْيِ اسماً فقالوا له: "ضَرْعًا".
قولُهُ: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} لكنْ: هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ، وهما اللِّينُ والقَسْوَةُ؛ وذلك أنَّ قولَه: "تَضَرَّعوا" مُشْعِرٌ باللِّينِ والسُهولَةِ، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضَراعةَ عبارةً عن الإِيمان، والقسوة عبارة عن الكفر، وعَبَّرتَ عنِ السَببِ بالمُسبِّبِ وعنِ المسبِّب بالسَبَبِ، أَلا تَرى أنَّك تقول: آمَنَ قلبُه فتضرَّع، وقَسا قلبُه فَكَفَرَ، وهذا أَحْسَنُ مِن قولِ أبي البقاء: "ولكن" اسْتِدراكٌ على المعنى، أيْ ما تضرَّعوا ولكنْ "يَعني أنَّ التَحضيضَ في معنى النَفْيِ، وقد يَتَرَجَّحُ هذا بما قالَه الزمخشريَّ فإنَّه قال: معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنَّه قيل: لم يتضرَّعوا إذْ جاءهم بأْسُنا، ولكنَّه جاءَ بـ "لولا" لِيُفيدَ أنَّه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّعِ إلاّ قَسْوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم.
قولُه: {وَزَيَّنَ لَهُمُ} هي استنافيَّةٌ، أَخبر تعالى عنهم بذلك، وهو الظاهر. أو هي داخلةٌ في حَيِّزِ الاسْتِدارك فهي نسقٌ على قوله: "قَسَتْ قُلُوبُهُمْ" وهذا رأيُ الزمخشري فإنَّه قالَ: لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرُّع
إلاَّ قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم. وقد تقدَّمَ ذلك.
وقولُه: {مَا كَانُواّ} ما" يحتَمَلُ أنْ تَكونَ مَوصولَةً اسميَّةً أي: الذي كانوا يَعملونَه وأنْ تَكونَ مَصدرية، أي: زَيَّن لهم عملَهم، كقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} النمل: 4. ويَبْعُد جَعْلُها نَكِرَةً مَوصوفَة.