قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} خطابٌ للنبيِّ مُحَمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: يَا أَيُّها الرَّسُولُ قُلَ للمُكَذِبِينَ من قَوْمِكَ الجَاحِدِينَ لِرِسَالَتِكَ، المُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَتِكَ: لِمَنْ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ، وَمَنْ خَلَقَها؟ لأنَّهم كَانُوا يُقِرُّونَ بِأنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأنَّه مَالِكُهَا المُتَفَرِّدُ فيها، وَأَنَّ الخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبيدُهُ، لذلك فَإنهم سَيَقُولُونَ: إنَّهُ اللهُ، وَهَذَا لاَ خِلاَفُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فِيهِ، فَقُلْ لَهُمْ: إنَّ اللهَ الذِي تُقِرُّونَ بِمُلْكِهِ لِلْكَوْنِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بِخَلْقِهِ، إذْ أَفَاضَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَمِنْ مُقْتَضَى رحْمَتِه بخلقهِ التي كَتَبَها عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ الرَّحْمَةَ وَأَوْجَبَها، تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، أنْ لا يُعَجِّلَ لهم العُقُوبَةَ، إفساحًا لهم في المَجالِ ليتوبوا وأنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ، إذَا تَابُوا وَعَمِلُوا أَعْمَالًا صَالِحَةً، وَأَنَّهُ سَيَجْمَعُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ جميعًا، وَهُوَ يَوْمٌ آتٍ قَرِيبٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ رَيْبَ، لِلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ، لِيَنَالَ كُلَّ وَاحِدٍ الجَزَاءَ العَادِلَ عَنْ عَمَلِهِ، إنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإنْ شَرًّا فَشَرًّا.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أنْ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ هَذَا، لِيَحْذَرُوا، وَليُحْسِنُوا العَمَلَ، فَلَوْلاَ خَوْفُ النَّاسِ مِنَ العِقَابِ وَالحِسَابِ لَسَادَ الفَسَادُ فِي الأَرْضِ، وَلانْتَشَرَ الظُّلْمُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أنَّ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيا بِالكُفْرِ، وَالتَّقْلِيدِ
وَالتَّرَدُّدِ، فأَهْلَكُوهَا وَغَبَنُوهَا بِالكُفْرِ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، لأنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِيمَا خَلَقَهَا اللهُ لَهُ مْنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالاتِّعَاظِ.
وهَذَا أَيْضًا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، فإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ ـ سبحانه ـ ما في السمواتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ خَالِقُ الْكُلِّ إِمَّا بِاعْتِرَافِهِمْ أَوْ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَاجِلَهُمْ بِالْعِقَابِ وَيَبْعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَكِنَّهُ "كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" ووَعَدَ بِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا، ولِذَلِكَ أَمْهِلَهم، وَذِكْرُ النَّفْسِ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهِ وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ، وَارْتِفَاعُ الْوَسَائِطِ دُونَهُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ الِاسْتِعْطَافُ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُتَوَلِّينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَيَقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ. ففِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)). وفي رواية: "سَبَقَتْ" مسلم:2751. وفي روايةِ البخاري: 1509 ((لمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلقَ ...)). أَيْ لَمَّا أَظْهَرَ قَضَاءَهُ وَأَبْرَزَهُ لِمَنْ شَاءَ أَظْهَرَ كِتَابًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِيمَا شَاءَهُ مُقْتَضَاهُ خَبَرُ حَقٍّ وَوَعْدُ صِدْقٍ ((إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)). أَيْ تَسْبِقُهُ وَتَزِيدُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لَيُمْهِلَنَّكُمْ وَلَيُؤَخِّرْنَ جَمْعَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ أَيْ فِي الْقُبُورِ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ. وَقِيلَ: "إِلى" بِمَعْنَى "فِي"، أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى
نَفْسِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، أَيْ أَنْ يَجْمَعَكُمْ.
قولُهُ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} لَا شَكَّ فِي هذا اليوم أو لا شكَّ في هذا الوعيد.
قولُه: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ لَيَجْمَعَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، بعدمِ إيمانهم بيوم الجزاءِ رغم إيمانِهم بالله تعالى، وذلك لسوء أَعمالهم وضعف عقولهم.
قوله تعالى: {لِمَن مَّا فِي السموات} لمَنْ: خَبرٌ مُقدَّمٌ واجِبُ التَقديمِ؛ لاشْتِمالِه على ما لَه صَدْرُ الكَلامِ فإنَّ "مَنْ" استفهاميَّةٌ والمُبْتَدَأُ "ما" وهي بمَعنى الذي، والمعنى: لِمَنْ اسْتَقَرَّ الذي في السماوات.
وقولُهُ: {قُل للهِ} قيلَ: إنَّما أَمَرَ اللهُ ـ سبحانَه ـ رسولَه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أنْ يُجيبَ وإنْ كانَ المَقصودُ أنْ يُجيبَ غيرُه؛ ليكونَ أوَّلَ مَنْ بادَرَ الاعترافَ بِذلك، وقيل: لمَّا سألَهم كأنَّهم قالوا: لِمَنْ هو؟ فقالَ الله: قُلْ للهِ، ذَكَرَه الجُرجانيُّ. فقولُه: "قل لله" جوابٌ للسؤالِ المُضْمَرِ الصادِرِ مِنْ جِهَةِ الكُفَّارِ، وهذا بعيدٌ، لأنَّهم لم يَكونوا يَشُكُّونَ في أَنَّهُ لله، وإنَّما هو سؤالُ تَوبيخٍ وتَبكيتٍ، ولو أَجابوا لمْ يَسَعْهَم أَنْ يُجيبوا إلَّا بِذلِك. وقولُهُ "لله" خبرُ مُبتَدأٍ مَحذوفٍ، أيْ هو أَو ذلك لله.
قوله: {كَتَبَ على نَفْسِهِ } قيلَ: مَعناهُ القَسَمُ، وعلى هذا فقولُه: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جوابُه؛ لِما تَضَمَّنَ مِنْ معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا تَوَقُّفَ على قولِه: "الرحمة" قال الزجاج: إنَّ الجُملَةَ مِنْ قولِه: "لَيَجْمَعَنَّكُمْ" في محلِّ النَّصْبِ على أَنَّها بَدَلٌ مِنَ "الرحمة"، لأنَّه فَسَّرَ قولَه "لَيَجْمَعَنَّكُمْ" بأنَّه أَمْهَلَكم وأَمَدَّ لكم في العمرِ والرِزْقِ مَعَ كُفرِكم، فهو تَفسيرٌ للرحْمَةِ. وقد ذَكَرَ الفَرَّاءُ هذيْن الوَجْهَيْن: أَعْني أَنَّ الجُملةَ تَمَّتْ عندَ قولِهِ "الرحمة" أو أنَّ "لَيَجْمَعَنَّكم" بدلٌ منها فقال: إنْ شئتَ جعلتَ الرحمةَ غايةَ الكلامِ ثمَّ اسْتَأنَفتَ بعدَها "ليجمعنكم" وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَها في مَوْضِعِ نَصْبٍ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} الأنْعامُ: 54. قلتُ: واسْتِشْهادُه بهذِه الآيةِ حَسَنٌ جِدًّا.
ورَدَّ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذا بِأنَّه يَلزَمُ دُخولُ نُونِ التَوكيدِ في الإِيجابِ، قال: وإنَّما تَدْخُلُ على الأمرِ والنَهْيِ وجَوابِ القَسَمِ. ورَدَّ الشيخُ أبو حيّان التوحيدي حَصْرَ ابْنِ عَطيَّةَ ورَدَ نُونَ التَوكيدِ فيما ذُكِرَ. وهو صحيحٌ، وردَّ كونَ "ليجمعنَّكم" بَدَلًا مِنَ الرَحْمَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وهو أنَّ "ليجمعنَّكم" جوابُ قَسَمٍ، وجُمْلَةُ الجَوابِ وحدَها لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإِعْرابِ، إنَّما يُحْكَمُ على مَوْضِعِ جُملَتَيِ القَسَمِ والجَوابِ بِمَحَلِّ الإِعْرابِ. وقد خَلَطَ مَكِيٌّ المَذْهبيْن وجَعَلَهُما مَذْهَبًا واحدًا فقال: "ليجمعنَّكم" في مَوضِعِ نَصْبٍ على البَدَلِ مِنَ "الرحمة" واللامُ لامُ القَسَمِ. فهي جَوابُ "كتب" لأنَّه بِمَعنى: أَوْجَبَ ذلكَ على نَفْسِهِ، ففيهِ مَعْنى القَسَمِ، وقدْ يَظْهَرُ جَوابٌ عمَّا أَوْرَدَهُ الشَيْخُ على غيرِ مَكِّي، وذلك أنَّهم جَعلوا "لَيَجْمَعنَّكم" بَدَلًا مِنَ "الرحمة"، يَعني هي وقَسَمِها المَحذوفِ، واسْتَغْنَوا عن ذِكْرِ القَسَمِ بِها؛ لأنَّها مَذكورةٌ في اللَّفظِ، فكأنَّهم قالوا: وجُمْلَةُ القَسَمِ في مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الرَّحْمَةِ، وكما يَقولونَ جُمْلَةَ القَسَمِ ويَسْتَغنونَ بِهِ عنْ ذِكْرِهِم جُمْلَةَ الجَوابِ كذلك يَسْتَغنون بالجَوابِ عنْ ذِكرِ القَسَمِ لاسيَّما وهو غيرُ مَذْكورٍ. وأمَّا مَكِّيّ فلا يُظهِرُ هذا جَوابًا لَه؛ لأنَّه نَصَّ على أنَّه جوابٌ لـ "كَتَبَ" فَمِنْ حيثُ جعلَه جوابًا لكَتَبَ لا مَحلَّ له، ومنْ حيثُ جَعَلَه بَدَلًا كان مَحَلُّهُ النَّصْبُ فتَنافَيا. والذي يَنبَغي في هذه الآيةِ أنْ يَكونَ الوَقْفُ عندَ قولِه: "الرحمة"، وقولُه: "ليجمعنَّكم" جوابُ قَسَمٍ مَحْذوفٌ، أي: واللهِ لَيَجْمَعَنَّكم، والجُمْلةُ القَسَمِيَّةُ لا تَعَلُّقَ لَها بما قبلَها مِن حيث الإِعراب، وإنْ تعلَّقَتْ به مِنْ حيثُ المعنى. و"إلى" على بابِها، أي: لَيَجْمَعَنَّكم مُنْتَهين إلى يومِ القيامَةِ. وقيل: هي بمعنى اللّامِ كقولِه: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} آل عمران: 9. وقيل: بمعنى "في" أي: لَيَجْمَعَنَّكم في يوم القيامَةِ. وقيل: هي زائدةٌ أي: لَيَجْمَعَنَّكم يومَ القيامة، وقدْ يَشهَدُ لَه قراءةُ مَنْ قَرَأَ {تهوى إليهم} بفتحِ الواوِ أنَّه ضَرورةٌ هنا إلى ذلك.
قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} هذه الجُملةُ حالٌ مِنْ "يومَ"، والضميرُ في "فيه" يعودُ على اليومِ، وقيل: يَعودُ على الجَمْعِ المَدلولِ عليْه بالفِعلِ لأنَّه رَدٌّ على مُنْكِرِي الحَشْرِ، وقد تقدَّمَ نَظيرُه في أَوَّلِ البَقَرةِ.
قوله: {الذين خسروا} هو منصوبٌ بإضمارِ "أَذُمُّ". أوْ أنَّه مُبتَدأٌ أُخبِرَ عنْه بقولِه: "فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" وزِيدتِ الفاءُ في خَبَرِهِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ مَعنى الشَرطِ، كأنَّهُ قيلَ: مَنْ يَخْسَرْ نفسَه فهو لا يؤمِنُ. وقيلَ هو مجرورٌ على أنَّه نعتٌ للمُكَذِّبين، أو هو بدلٌ منهم، وهذان الوجهانِ بعيدان. وقيلَ إنَّه منصوبٌ على البَدَلِ مِنْ ضميرِ المُخاطَبِ. وقال الزَمخشَرِيُّ هوَ مَرفوعٌ على الذمِّ، وعِبارتُه فيه وفي الوجه الأول: نَصْبٌ على الذمِّ أو رفعٌ، أي: أُريدَ الذين خَسِروا أَنْفُسهم، أوْ أَنتم خَسروا أَنفسَهم، وإنَّما قَدَّرَ المُبْتَدأَ "أنتم" لِيَرْتَبِطَ مَعَ قولِهِ "لَيَجْمَعَنَّكم".
وقوله: {خسروا أنفسهم} مِنْ مُراعاةِ المَوصولِ، ولو قال: "أنتم الذين خسروا أنفسهم" مُراعاةً للخِطابِ لَجَازَ، تقول: أنتَ الذي قعد، وإنْ شئتَ قلتَ: "أنت الذي قَعَدْت".