وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ
(9)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا} وَلَوْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الرَّسُولَ مَلَكًا، لَجَعَلَهُ مُتَمَثِّلاً بِصُورَةِ رَجُلٍ مِنَ البَشَرِ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ رُؤْيَتِهِ، وَلِيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ مُخَاطَبَتِهِمْ وَالحَدِيثِ مَعَهُمْ، لِيُبَلِّغُهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِ. وَلَوْ جَعَلَ اللهُ المَلَكَ الرَّسُولَ فِي صُورَةِ البَشَرِ لالْتَبَسَ الأَمْرُ عَلَيْهِم لاعْتِقَادِهِمْ أنَّهُ بَشَرٌ، لأنَّهُمْ لاَ يُدْرِكُونَ مِنْهُ إلاَّ صُورَتَهُ وَصِفَاتِهِ البَشَرِيَّةَ التِي يَتَمَثَّلُ لَهُمْ بِهَا، كَمَا يَلْتَبِسُ الأَمْرُ عَلَيهِم الآنَ فِي قَبُولِ رَسُولٍ مِنَ البَشَرِ، ولاخَتلَطَ الأمرُ عَلَيْهِمْ ولَعادوا إلى السؤالِ ذاته. لأَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَسُّمِ بِالْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، لِأَنَّ كلَّ جِنْسٍ يَأْنَسُ بِجِنْسِهِ وَيَنْفِرُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الرَّسُولَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لخافوا منه، فقد أَنزَلَ اللهُ المَلَكُ على صورةِ البَشَرِ ومع ذلك فقد أثارَ الخوفَ والهلع كما حَدَثَ مَعَ خَليلِ اللهِ إبْراهيمَ ـ عليْه السلامُ ـ فكيف لو رأوه على حقيقته؟ يقولُ تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} الحجر: 51 ـ 53. إذًا لقد أَنزَلَ اللهُ الضَيْفَ مِنَ المَلائكةِ على إبراهيم ـ عليه السلامُ ـ فخافَ منهم بعدَ أنْ قرَّبَ العِجْلَ ضيافةً لهم فرآهم لا يأكلون. إلى أنْ قالوا لَه ما يُطَمْئِنُه مِنْ خَبَرٍ ببِشارةٍ مِنَ اللهِ، بأنْ يُولَدَ لَهُ الغلامُ "إسْحاقُ" مِنْ زَوجِهِ "سارة" بعدَ أنْ رَزَقَهُ اللهُ مِنْ قَبْلُ "إسْماعيلَ" مِنْ زوجِهِ "هاجرَ". وكذلك فقد أَنْزَلَ الحَقُّ إلى مَرْيَمَ البَتولِ مَلَكًا وتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا لِيُنْبِئَها بحَمْلِها بِـ "عيسى" ـ عليه السلامُ. ومع ذلك فإنها خافت واستعاذت بالله منه فقالت: {إنّي أَعُوذُ بالرحمنِ منك} إذًا فالمَلَكُ يَتَجَسَّدُ في صُورَةٍ بَشَرِيَّةٍ عندما يُرْسِلُهُ اللهُ في مُهِمَّةٍ إلى البَشَرِ؛ لأنَّ المَلَكَ لا يَأتي إلى البَشَرِ على حَقِيقَتَه، وإلَّا لَنَفَرُوا مِنْ مُقَارَبَتِهِ، وَلَمَ يأَنَسُوا بِهِ، ولَداخَلَهمْ مِنَ الرُّعْبِ مِنْ كَلَامِهِ وَالِاتِّقَاءِ لَهُ مَا يَكْفِهِمْ عَنْ كَلَامِهِ، وَيَمْنَعْهُمْ عَنْ سُؤَالِهِ، فَلَا تَعُمُّ الْمَصْلَحَةُ وَلَوْ نَقَلَهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مِثْلِ صُورَتِهِمْ لِيَأْنَسُوا بِهِ وَلِيَسْكُنُوا إِلَيْهِ لَقَالُوا: لَسْتَ مَلَكًا وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ فَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَعَادُوا إِلَى مِثْلِ حَالِهِمْ. وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَأَتَوْا إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَتَى جِبْرِيلُ النبيَّ ـ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ وكان جميل الصورة جدًا إيناسًا لقلبِ نَبيِّهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم. أَيْ لَوْ أُنْزِلَ ملكٌ لَرَأَوْهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْ نَزَلَ عَلَى عَادَتِهِ لَمْ يَرَوْهُ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ رَجُلًا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ وقالوا لك: هَذَا سَاحِرٌ مِثْلُكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى "وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ" أَيْ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ كَمَا يَلْبِسُونَ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ فَرْقٌ فَيَلْبِسُونَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَيُشَكِّكُونَهُمْ، فَأَعْلَمَهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ لَوَجَدُوا سَبِيلًا إِلَى اللَّبْسِ كَمَا يَفْعَلُونَ. وَاللَّبْسُ الْخَلْطُ، يُقَالُ: لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ أُلْبِسَهُ لَبْسًا أَيْ خَلَطْتُهُ، وَأَصْلُهُ التَسَتُّرُ بالثوبِ ونحوِهِ وقال: "لَلَبَسْنا" بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى جِهَةِ الْخَلْقِ، وَقَالَ: "مَا يَلْبِسُونَ" فَأَضَافَ إِلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الِاكْتِسَابِ.
والذي يَلْفِتُ النظرَ ويسترعي الانْتِباهَ أَنَّ ما وَرَدَ مِنْ تَمَثُّلِ المَلائكةِ ـ عليهم السلامُ ـ كان كلَّهُ في صورةِ رَجُلٍ ولم يَأتِ في أَيٍّ مِنْ هذِهِ الحالاتِ بِصُورَةِ امْرَأَةٍ. كما أنَّ إيثارَه ـ سبحانَه وتعالى: "رجلًا" على "بَشَرًا" إيذانٌ بأنَّ الجَعْلَ إنَّما هو بطريقِ التَمثيلِ وليس بِطريقِ قَلْبِ الحَقيقةِ، وتَعْيينٌ لِما سيَكونُ التمثيلُ به. وفيه أيضًا إشعارٌ بأنَّ الرَسولَ لا يَكونُ امرأةً، وهو أمرٌ مُتَّفَقٌ عليهِ بيْنَ العُلماءِ، وإنَّما الاخْتِلافُ في نُبُوَّتِها، فمِنهم مَنْ قالَ تكونُ، ومنهم مَنْ قالَ لا تَكون.
قولُه تَعالى: {مَا يَلْبِسُونَ} ما: هنا إمَّا هي مَوصولةٌ بمَعنى الذي، أي: ولَخَلَطْنَا عليهم ما يَخلطونَ على أنْفُسِهم، أو على غيرِهم، وعليه فـ "ما" في محلِّ نصبٍ مفعولًا به. أو هي مَصْدَرِيَّةٌ، والمعنى: ولَلَبَسْنا عليهم مِثلَ ما يَلْبِسون على غيرِهِم.
قَرَأَ الجمهورُ: "ولَلَبَسْنا" بِلامَيْن الأُولى واقعةٌ في جَوابِ "لو" والثانيةُ هي فاءُ الفِعْلِ.
وقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "ولَبَسْنا" بِلامٍ واحدةٍ هي فاءُ الفِعْلِ، ولم يأتِ بِلامٍ في الجَوابِ اكْتِفاءً بِها في المَعْطوفِ عليْه "لَجَعَلْناهُ".
وقرأَ الزُّهْرِيُّ: و"لَلَبَّسْنا" بِلاميْنِ كالقراءةِ الأولى لكنّه شدَّدَ الباءَ على تَكْثيرِ الفِعْلِ.