اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(98)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} وَاعْلَمُوا، يَا أيُّهَا المُخَالِفُونَ لأمْرِ اللهِ، أيْ تَيَقَّظوا لأَحْكامِ اللهِ، وكونوا طَوْعَ ما يريد، فمَنْ يُخالِفُ اللهَ فعلَيْه أنْ يَعْرِفَ أنَّه سبحانه وتعالى شديد العقاب. وأنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَعَلاَنِيَتَكُمْ، وَأنَّهُ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، صَغِيرًا كَانَ أوْ كَبِيرًا، وَأنَّهُ تَعَالَى شَدِيدَ العِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ، وَاسْتَمَرَّ فِي عِنَادِهِ، وَأنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ إليهِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَرَجَعَ إلَى اللهِ. تَخْوِيفٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى ـ ووعيدٌ لِمَنْ انْتَهَكَ مَحارِمَهُ أوْ أَصَرَّ على ذلك. والعِقابُ كما قِيلَ هو الضَرَرُ الذي يُقارِنُه اسْتِخْفافٌ وإِهانَةٌ، وسُمِّيَ عِقابًا لأنَّه يَسْتَحِقُّ عُقَيْبَ الذَنْبَ.
وقولُه: {وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تَرْجِيَةٌ ووَعْدٌ لِمَنْ حافَظَ على مُراعاةِ حُرُماتِهِ ـ تَعالى ـ وأَقْلَعَ عَنِ الانْتِهاكِ. ووَجْهُ تقديمِ الوَعيدِ ظاهرٌ. فمن كان يُطيعُ اللهَ فلْيَعلمْ أنَّهُ ـ سبحانَه ـ غفورٌ رحيمٌ. جاءَ بصفةٍ مِنْ صفاتِ الجَلالِ لِتَتَقابَلَ مَعَ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفاتِ الجَمالِ، فصِفَةُ: "شَدِيدُ العقاب" تتقابَلُ مَعَ صِفَتَيْ: "غَفُورٌ رَّحِيمٌ" لأنَّ كلَّ النّاسِ لَيْسُوا أَخْيارًا، وليس كلُّ الناسِ أَشرارًا، لِذلك جاءَ للأَخيارِ بِما يُناسِبُهم مِنَ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ، وجاءَ للأشرارِ بما يُناسِبُهم مِنْ شِدَّةِ العِقابِ، وغَلَبَتْ رَحمتُه ومَغفِرَتُه غَضَبَهُ وعِقابَه. ونَلحَظُ ذلك مِنْ مَجيءِ صِفَةٍ واحدةٍ مِنْ صِفاتِ الجَلالِ: "شَدِيدُ العقاب" ويُقابِلُها صِفتَانِ مِنْ صِفاتِ الجَمالِ وهُما: "غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
وفي الآيَةِ عِباراتٌ تُنْبِئُ عنِ التَشديدِ فيما اشتَمَلَتْ عليْهِ، فابتُدِأَتْ بالأمْرِ الحازِمِ "اعْلَمُوا" وفي ذلك تَنْبيهٌ شديدٌ وإيقاظٌ للضَمِيرِ، لِيَكونَ ما يُنَبَّهُ إليْهِ مِنْ بَعْدُ، أَوْثَقَ في القَلْبِ وأَشَدَّ تَثبيتًا، ثمَّ أَكَّدَ الخَبَرَ بـ "أنَّ" ووصْفِهِ ـ تعالى ـ بِشِدَّةِ العِقابِ، ثمَّ وصفَ ذاتَه العليَّةَ بالغفرانِ والرَّحمة، ثمَّ تَكَرَّرَ ذِكْرُ لَفْظِ الجَلالَةِ لِتَرْبِيَةِ المَهابةِ في النَّفسِ، وتَوْكِيدِ شِدَّةِ عِقابِهِ ـ سبحانَه، وتَوكيدِ غُفرانِه ورَحمَتِهِ. والغُفْرانُ سَتْرُ الذُنوبِ، والرَّحمةُ الثَوابُ، وأنَّ ذلكَ عَدْلُ اللهِ ـ تَعالى ـ فَلا يَسْتَوي مَنْ يُحْسِنُ وَمَنْ يُسِيءُ.
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ.
(99)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} أَيْ لَيْسَ لَهُ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَلَا الثَّوَابُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْبَلَاغُ. وقد بَلَّغَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ولم يَأْلُ جُهدًا في تَبْليغِ ما أُمِرَ بِتَبْليغِهِ، فأيُّ عُذْرٍ لكم بعدُ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قولُه: {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أَيْ تُظْهِرُونَهُ، فيُعامِلُكم بِما تَسْتَحِقُّونَه في ذلك. يُقَالُ: بَدَا السِّرُّ وَأَبْدَاهُ صَاحِبُهُ يُبْدِيهِ إذا أَظْهَرَهُ.
قولُه: {وَما تَكْتُمُونَ} أَيْ مَا تُسِرُّونَهُ وَتُخْفُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ من الكفر والنفاق.
وقولُه تعالى: {إِلاَّ البلاغُ} فاعلٌ بالجارِّ قبلَهُ لاعْتِمادِهِ على النَّفْيِ، أي: ما استقرَّ على الرسولِ إلَّا البَلاغُ. أو هو مُبتَدَأٌ، وخبرُه الجَارُّ قَبْلَهُ وعلى الوجهين فالاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ.
والبَلاغُ اسْمٌ أُقيمَ مَقامَ المَصْدَرِ، وأَصلُ الْبَلَاغِ الْبُلُوغُ، وَهُوَ الْوُصُولُ، مِنْ بَلَغَ يَبْلُغُ بُلُوغًا، وَأَبْلَغَهُ إِبْلَاغًا، وَتَبَلَّغَ تَبَلُّغًا، وَبَالَغَهُ مُبَالَغَةً، وَبَلَّغَهُ تَبْلِيغًا، وَمِنْهُ الْبَلَاغَةُ، لِأَنَّهَا إِيصَالُ الْمَعْنَى إِلَى النَّفْسِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مِنَ اللَّفْظِ. وَتَبَالَغَ الرَّجُلُ إِذَا تَعَاطَى الْبَلَاغَةَ وَلَيْسَ بِبَلِيغٍ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ أَيْ كِفَايَةٌ، لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ.
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
(100)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} لفظٌ عامٌّ في جميعِ الأُمورِ مِنَ المَكاسِبِ والأَعمالِ والنَّاسِ وغيرِ ذلك، وقيلَ الْخَبِيثُ الْحَرَامُ وَالطَّيِّبُ الْحَلَالُ، قالَهُ الحسنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الطيبُ الْمُؤْمِنُ والخبيثُ الْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. وَقِيلَ: الرَّدِيءُ وَالْجَيِّدُ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، يُتَصَوَّرُ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالنَّاسِ، وَالْمَعَارِفِ مِنَ الْعُلُومِ وَغَيْرِهَا، فَالْخَبِيثُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ لَا يُفْلِحُ وَلَا يُنْجِبُ، وَلَا تَحْسُنُ لَهُ عَاقِبَةٌ وَإِنْ كَثُرَ، وَالطَّيِّبُ وَإِنْ قَلَّ نَافِعٌ جَمِيلُ الْعَاقِبَةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} الأَعْرافُ: 58. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ص: 28. وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الجاثية: 21، فَالْخَبِيثُ لَا يُسَاوِي الطَّيِّبَ مِقْدَارًا وَلَا إِنْفَاقًا، وَلَا مَكَانًا وَلَا ذَهَابًا، فَالطَّيِّبُ يَأْخُذُ جِهَةَ الْيَمِينِ، وَالْخَبِيثُ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ، وَالطَّيِّبُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْخَبِيثُ فِي النَّارِ وَهَذَا بَيِّنٌ. وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ وَضِدُّهَا الِاعْوِجَاجُ.
قالَ بَعْضُ العلماءِ: إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ، فَيَسْتَوِي فِي إِمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا، وَيُرَدُّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُبْتَاعِ إِنْ كَانَ قَبَضَهُ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ بِشُبْهَةِ عَقْدٍ. وَقِيلَ: لَا يُفْسَخُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا فُسِخَ وَرُدَّ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ وَغَبْنٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَتَكُونُ السِّلْعَةُ تُسَاوِي مِئَةً وَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَهِيَ تُسَاوِي عِشْرِينَ، وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فيما رواه مسلم: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). ورواه الحاكم (1\95) وصححه من حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ ورواه غيرُ واحدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الحديثِ، وقد تَقدَّمَ. وَإِذَا تُتُبِّعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَعَدَّدَتْ وَكَثُرَتْ، فَمِنْ ذَلِكَ الْغَاصِبُ. إِذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ المغصوبةِ أوْ غَرَسَ إنَّه يَلْزَمُهُ قَلْعُ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، لِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَرَدُّهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُقْلَعُ وَيَأْخُذُ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ في الصحيح: (( مَنْ أَحيا مَواتًا مِنَ الأَرْضِ فهي له، لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ)). رواه البخاريُّ ومُسْلمٌ عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبيْرِ ـ رَضيَ اللهُ عنهما ـ مُرْسَلًا، جامع الأحاديث (41/ 387). قَالَ هِشَامٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَغْرِسَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِيَسْتَحِقَّهَا بِذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ كُلُّ مَا أُخِذَ وَاحْتُفِرَ وَغُرِسَ فِي غَيْرِ حَقٍّ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فزَرَعها، أوْ أكْراها، أوْ دارًا فسَكَّنَها أَوْ أَكْرَاهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَبُّهَا أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ كِرَاءَ مَا سَكَنَ وَرَدَّ مَا أَخَذَ فِي الْكِرَاءِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يَسْكُنْهَا أَوْ لَمْ يَزْرَعِ الْأَرْضَ وَعَطَّلَهَا، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مذهبِهِ أنَّه ليس عليْه فيه شيءٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ كِرَاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَاخْتَارَهُ الْوَقَّارُ ـ وهو زَكريا بْنُ يَحيى المَصري ـ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وأنَّها لَتُضْرَبُ أُصولُها بالفُؤوسِ حَتَّى أُخْرِجَتْ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ، (وعُمٌّ: أيْ تامَّةٌ. في طولِها والْتِفافِها). وَهَذَا نَصٌّ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُخَيَّرًا عَلَى الظَّالِمِ، إِنْ شَاءَ حَبَسَ ذَلِكَ فِي أَرْضِهِ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ نَزَعَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَجْرُ النَّزْعِ عَلَى الْغَاصِبِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أمِّ المُؤمنين السيدةِ عَائِشَةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ بَنَى فِي رِبَاعِ قَوْمٍ بِإِذْنِهِمْ فَلَهُ الْقِيمَةُ وَمَنْ بَنَى بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَهُ النَّقْضُ)). رواه البيهقيُّ والدارقطنيُّ وابنُ عديٍّ عن عمرَ بْنِ عبدِ قيسٍ المكيِّ (ضعيف)، والرِباعُ جمعُ رَبْعٍ: وهو المَنْزِلُ. وإِنَّمَا تَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مَوْضِعٍ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ. وَذَلِكَ كَمَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِشُبْهَةٍ فَلَهُ حَقٌّ، إِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا، وَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلَّذِي بَنَى أَوْ غَرَسَ: ادْفَعْ إِلَيْهِ قِيمَةَ أَرْضِهِ بَرَاحًا، والبراحُ المُتَّسَعُ مِنَ الأَرضِ لا زَرْعَ فيه ولا شَجَرَ، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ. وَتَفْسِيرُ اشْتِرَاكِهِمَا أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ بَرَاحًا، ثُمَّ تُقَوَّمُ بِعِمَارَتِهَا فَمَا زَادَتْ قِيمَتُهَا بِالْعِمَارَةِ عَلَى قِيمَتِهَا بَرَاحًا كَانَ الْعَامِلُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيهَا، إِنْ أَحَبَّا قَسَمَا أَوْ حَبَسَا. فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْعِمَارَةِ وَأَخَذَ أَرْضَهُ كَانَ لَهُ كِرَاؤُهَا فِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِذَا بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إِخْرَاجُهُ، فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ مَقْلُوعًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((فَلَهُ الْقِيمَةُ)). وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} قِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْجِبُهُ الْخَبِيثُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالخِطابِ النبيُّ نَفْسُهُ، وَإِعْجَابُهُ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَالِ الْحَلَالِ. وهذه قضيَّةٌ كونِيَّةٌ مَثَلُها تَمامًا مَثَلُ عدمِ تَساوي الأعْمى والبَصيرِ، وعَدَمِ اسْتِواءِ الظُلُماتِ والنورِ. والحقُّ ـ تبارك وتعالى ـ يضربُ المثلَ بالمَحسوسِ لِيُوضِّحَ لَنَا المعنويَّ. ولِذلك يُحذِّرُنا أَنْ نَغْتَرَّ بِكَمِّياتِ الأشياءِ ومقدارِها، فإنَّ الطيِّبَ القليلَ هو أَربى وأَعظمُ وأَفضَلُ مِنَ الكثيرِ الخَبيثِ. والأَمْرُ الطَيِّبُ قد يَرى الإنسانُ خيرَه في الدنيا، ومِنَ المُؤكَّدِ أنَّ خيرَهُ في الآخِرَةِ أَكثرُ بِكثيرٍ ممّا يَتَصَوَّرُ أَحَدٌ؛ لأنَّ عُمْرَ الآخرَةِ لا نهايةَ لَهُ، أَمَّا عُمْرُ الدُنيا فهو مَحدودٌ.
وقولُه: {فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فاتّقوا اللهَ: في تَحَرِّي الخبيثِ وإنْ كَثُرَ وآثِروا عليه الطَيِّبَ وإنْ قَلَّ، فإنَّ مَدارَ الاعْتِبارِ هو الخَيْرِيَّةُ والرَّداءةُ لا الكَثْرَةُ والقِلَّةُ، وفي الأَكثَرِ أَحْسَنُ كلِّ شيءٍ أَقَلُّهُ. وللهِ دَرُّ أبي بكرٍ مُحَمَّد بْنِ الحَسَنِ بْنِ دُريْدٍ الأَزْدِيِّ حيثُ قال:
والنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهمْ كَواحِدٍ .................... وواحدٌ كالأَلْفِ إنْ أَمْرٌ عَنَا
وقيل إنَّ في الآيةِ إشارةٌ إلى غَلَبَةِ أَهْلِ الإسْلامِ وإنْ قَلُّوا.
وجاء في سببِ نُزولِها أنَّ المُسلمين أرادوا أنْ يُوقِعوا بِحُجَّاجِ اليَمامَةِ ـ وكان معهم تِجارةٌ عَظيمَةٌ ـ فنُهوا عن ذلك. وقيل: نَزَلَتْ في شُريحٍ بْنِ ضَبَّةَ البَكْرِيِّ سَأَلَ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّ الخَمْرَ كانت تِجارتي وإنِّي جَمَعْتُ مِنْ بَيْعِها مالًا فهل يَنفَعُني مِنْ ذلك المال إنْ عَمِلْتُ فيه بِطاعةِ اللهِ تعالى؟ فقالَ النبيُّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنْ أَنْفَقْتَهُ في حَجٍ أوْ جِهادٍ أوْ صَدَقَةٍ لم يَعْدِلْ جناحَ بَعوضَةٍ، إنَّ اللهَ طيبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا الطَيِّبِ)).
قولُه تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ} والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر وجوابُها محذوفٌ أيْ: ولو أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيثِ لَما اسْتَوى مَعَ الطَيِّبِ، أو: لَما أَجدى شيئًا في المُساواة. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل {لاَ يَسْتَوِى} أيْ لا يستويان كائنيْن على كلِّ حالٍ مَفروضٍ. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدَلالةِ الثانيةِ عليْها دَلالةً واضحةً فإنَّ الشيءَ إذا تَحقَّقَ مَعَ المُعارِضِ فلَأَنْ يَتَحَقَّقَ بدونِه أَوْلى. وجوابُ لو مَحذوفٌ في الجُملتيْنِ لِدَلالَةِ ما قبلها عليه.