قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أَنَّ النفسَ بالنفسِ} النفس: مذكر أينَما وَرِدَتْ في كلامِهم إذا أُريدَ منْها الإنسانُ بعينِه، فيقالُ: ثلاثةُ أَنْفُسٍ على معنى ثلاثةِ أَشْخاصٍ، وإذا أُريدَ بِها الرُّوحُ فهي مُؤَنَّثةٌ لا غيرُ، وتَصغيرُها نُفَيْسَةٍ لا غيرُ، والعينُ بمعنى الجارحةِ المَخصوصةِ مؤنثةٌ، وإطلاقُ القولِ بالتأنيثِ لا يَظهرُ لَه وجْهٌ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: هذه عَيْنُ هؤلاءِ الرِّجالِ، وأَنتَ تُريدُ الخِيارَ منهم، والأُذُنُ مِثلُها، والأَنْفُ مُذَكَّرٌ لا غيرُ، والسِنُّ تُؤنَّثُ ولا تُذَكَّرُ وإنْ كانتِ السِنُّ مِنَ الكِبَرِ لكنَّ ذَكَرَ ابْنُ الشِحْنَةِ أَنَّ السِنَّ تُطْلَقُ على الضِرْسِ والنّابِ، وقدْ نَصّوا على أنَّهُما مُذكَّران، وكذا الناجِذُ والضاحِكُ والعارِضُ، ونَصَّ ابْنُ عُصفورٍ على أَنَّ الضِرْسَ يَجوزُ فيه الأَمرانِ، ونَظَمَ ما يَجوزُ فيه ذلك بقولِه:
وهاكَ مِنَ الأعضاءِ ما قَدْ عَدَدْتُهُ ................ تُؤنَّثُ أَحيانًا وحِينًا تُذَكَّرُ
لِسانُ الفَتى والإبْطُ والعُنْقُ والقَفا .......... وعاتِقُهُ والمَتْنُ والضِرْسُ يُذْكَرُ
وعِندي الذِّراعُ والكِراعُ مَعَ المِعى ....... وعَجُزُ الفَتَى ثُمَّ القَريضُ المُحَبَّرُ
كذا كلُّ نَحْوِيٍّ حَكى في كِتابِهِ ........... سِوى سِيبَوَيْهِ وهوَ فِيهمْ مُكْبَرُ
يَرى أَنَّ تأنيثَ الذِراعِ هو الذي ......... أَتَى وهو للتَذكيرِ في ذلكَ مُنْكِرُ
وقد شاعَ أنَّ ما مِنْهُ اثْنانِ في البَدَنِ كاليَدِ والضِلْعِ والرِجْلِ مُؤنَّثٌ، وما مِنْهُ واحدٌ كالرأسِ والفَمِ والبَطْنِ مُذَكَّرٌ، وليسَ ذاكَ بِمُطَّرِدٍ، فإنَّ الحاجِبَ والصَدْغَ والخَدَّ والمِرْفَقَ والزَّنْدَ كلٌّ منها مُذَكَّرٌ مَعَ أنَّ في البَدَن منْه اثنينِ، والكَبِدُ والكُرْشُ فإنَّهُما مُؤنَّثانِ وليس مِنْهما في البَدَنِ إلَّا واحدٌ.
و"عليهم": الضميرُ للذين هادُوا، و"فيها" للتوراةِ، و"أَنَّ النَفْسَ بالنَّفْسِ": "أنَّ" واسْمُا وخَبرُها في مَحَلِّ نَصْبٍ على المَفعوليَّةِ بـ "كتبنا" والتقديرُ: وكَتَبْنا عليهم أَخْذَ النفسِ بالنفسِ. وقرأ الكسائي و"العينُ" بالرفع وما عطفها على "النفسَ"، وقرأَ نافع وحمزة وعاصم بنصْبِ الجَميع، وقرأ أبو عَمرو وابنُ كثيرٍ وابْنُ عامر بالنصبِ فيما عَدا "الجروح" فإنَّهم يَرفعونَها. فأما قراءة الكسائي فوجَّهَها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجهٍ، أَوَّلُها: أَنْ تكونَ الواوُ عاطفةً جُملةً اسميَّةً على جُملةٍ فِعليَّةٍ فَتَعْطِفُ الجُمَلَ كما تَعْطِفُ المُفرداتِ، يَعني أنَّ قولَه: "والعين" مبتدأٌ، و"بالعين" خبرُه، وكذا ما بعدَها والجُملةُ الاسْمِيَّةُ عطفٌ على الفِعليَّةِ مِنْ قولِه: "وكتبنا" وعلى هذا فيكون ذلك ابتداءَ تشريعٍ، وبيانَ حكمٍ جديدٍ غيرِ مُنْدَرِجٍ فيما كُتِبَ في التورة، قالوا: وليستْ مُشْرِكَةً للجُملةِ مَعَ ما قَبْلها لا في اللَّفظِ ولا في المعنى. وعَبَّرَ الزمخشريُّ عن هذا الوجْهِ بالاسْتِئنافِ، قال: أو للاستنئافِ، والمعنى: فَرَضْنا عليهم أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفسِ مقتولةٌ بها إذا قَتَلتْها بغيرِ حقٍّ، وكذلك العينُ مفقوءةٌ بالعينِ، والأنفُ مجدوعٌ بالأنفِ، والأُذُنُ مصلومةٌ أو مقطوعةٌ بالأُذُنِ، والسنُّ مقلوعةٌ بالسِنِّ ، والجروحُ قصاصٌ وهو المُقاصَّةُ. وتقديرُه: أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفس، سبَقَه إليْه الفارِسِيُّ، إلَّا أنَّه قَدَّرَ ذلك في جميعِ المَجروراتِ، أي: والعينُ مأخوذةٌ بالعينِ إلى آخرِه، والذي قَدَّره الزمخشري مناسبٌ جدًا، فإنَّه قَدَّرَ متعلَّقَ كلِّ مَجرورٍ بما يُناسِبُه: فالفَقْءُ للعينِ، والقلعُ للسنِّ، والصَّلْمُ للأُذُنِ، والجَدْعُ للأنفِ. إلَّا أنَّ الشيخَ كأنَّه غَضَّ منْه حيثُ قَدَّرَ الخَبَرَ تعلَّقَ بِه المَجْرورُ كونًا مقيَّدًا. والقاعدةُ في ذلك إنَّما يُقدِّرُ كونًا مُطْلَقا، قال: وقالَ الحُوفِيُّ: "بالنفس" يتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه يَجِبُ أوْ يَستقِرُّ، وكذا العينُ بالعينِ وما بعدَها، فقدَّر الكونَ المُطلَقَ، والمعنى: يَستقِرُّ قَتْلُها بقتلِ النفسِ. إلَّا أنَّه قال قبلَ ذلك: ويَنبغي أَنْ يُحملَ قولُ الزَمخشريِّ على تَفسيرِ المَعنى لا تَفسيرِ الإعرابِ. ثمَّ قال: فقدَّرَ (الزمخشريُّ) ما يَقرُبُ مِنَ الكونِ المُطلَقِ وهو: "مأخوذٌ" فإذا قلتَ: بِعْتُ الشياهَ شاةً بِدِرْهَمٍ فالمَعنى: مأخوذةً بدرهمٍ، وكذلك {الحُرُّ بالحُرِّ} أي: مأخوذٌ.
الوجهُ الثاني مِنْ توجيه الفارسيِّ: أنْ تَكونَ الواوُ عاطفةً جُملةً اسْمِيَّةً على الجُملةِ مِنْ قولِه: "أَنَّ النفسَ بالنفسِ" لكنْ مِنْ حيثُ المَعنى لا مِنْ حيثُ اللَّفْظُ، فإنَّ معنى "كَتَبْنا عليهم أنَّ النفسَ بالنفسِ" قلْنا لهم النفسَ بالنفسِ، فالجُمَلُ مُنْدَرِجَةٌ تحتَ الكَتْبِ مِنْ حيثُ المَعنى لا مِنْ حيثُ اللفظُ. وقال ابنُ عطيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ الواوُ عاطفةً على المعنى، وذَكَرَ ما تَقَدَّمَ، ثمَّ قال: ومثلُه لَمَّا كان المعنى في قولِه: {يُطافُ عليهم بكأسٍ مِنْ مَعينٍ} يُمْنحون، عَطَفَ "وحورًا عينًا" عليه، فنظَّرَ هذه الآيةَ بتِلكَ لا شْتِراكِهما في النظرِ إلى المعنى دونَ اللفظِ وهو حسنٌ. قال الشيخُ: وهذا من العطف على التوَهُّمِ، إذْ تَوَهَّم في قوله: "أَنَّ النفس بالنفس" "النفسُ بالنفسِ" وضعَّفه بأنَّ العطفَ على التوهُّمِ لا يَنقاسُ. والزمخشري نَحا إلى هذا المَعنى، ولكنَّه عَبَّر بعبارةٍ أخرى فقال: الرفعُ للعطفِ على محلِّ "أنَّ النفس" لأنَّ المعنى: "وكتبنا عليهم النفسُ": إمَّا لإِجراءِ "كَتَبْنا" مُجْرى "قُلْنا"، وإمَّا أنَّ معنى الجُملةِ التي هي "النفسُ بالنفس" مِمَّا يقع عليه الكَتْبُ كما تَقَعُ عليْه القِراءةُ، تقولُ: كَتَبْتُ: الحمدُ للهِ، وقرأتُ: {سورةٌ أَنْزلناها}، ولذلك لو قُرِئَ "إنَّ النفسِ بالنفسِ" بالكسر لكانَ صحيحاً. وهذا هو الوجهُ الثاني من توجيهِ أبو عليٍّ، إلَّا أنَّه خَرَجَ عنِ المُصطلَحِ حيثُ جَعَلَه مِن العَطفِ على المَحَلِّ، وليس منْه، لأنَّ العطفَ على المَحلِّ هو العطفُ على المَوْضِعِ، وهو محصورٌ وليس هذا منه، ألَا تَرى أنَّا لا نَقولُ: "أنَّ النفسَ بالنفسِ" في محلِّ رفعٍ لأنَّ طالبَه مفقودٌ، بل "أن" وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ لفظُه وموضعُه نَصبٌ، إذِ التقديرُ: كَتَبْنا عليهم أَخْذَ النفسِ. فالمعنى: قُلْنا لهم: "النفسُ بالنفسِ"، فَحَمَلَ "العينُ بالعينِ" على هذا، لأنَّ "أنَّ" لو حُذِفت لاستقامَّ المعنى بحذفِها كما اسقام بثبوتِها، وتكون "النفسُ" مرفوعةً فصارتْ "أنَّ" هناك "إنَّ" المكسورة لأنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالجُمْلةِ، فجازَ العطفُ على محلِّ اسْمِها كما يَجوزُ على محلِّ اسْمِ المَكسورةِ، وقد حُمِل على ذلك: {أَنَّ اللهَ بريءٌ مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} التوبة: 3. يَعني أنَّ "ورسولُه" بالرفعِ معطوف على اسْمِ "أنَّ" وإنْ كانت مفتوحةً لأنَّها في حُكمِ المَكسورة، وهذا موضعٌ قد نَبَّهَ النَّحْويون عليه واختلفوا فيه، فجوَّزَه بعضُهم وهو الصحيحُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد "عَلِمَ" أو ما في معناه كقولِ بِشْرٍ بْنِ أَبي خازِمٍ:
وإلَّا فاعْلَموا أنَّا وأنتمْ ........................... بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ
وقولِه تعالى في سورة التوبة: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} التوبة: 3. الآية؛ لأنَّ
الأَذانَ بمَعْنَى الإِعْلامِ.
الوجهُ الثالث: أنَّ "العين" عطفٌ على الضميرِ المَرفوعِ المُستَتِرِ في الجارِّ الواقعِ خبرًا، إذِ التَقديرُ: أَنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ هي والعينُ، وكذا ما بعدَها، والجارُّ والمَجرورُ بعدَها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مُبَيِّنَةً للمَعْنى، إذِ المَرْفوعُ هُنا مَروفُوعٌ بالفَاعِلِيَّةِ لِعطفِهِ على الفاعلِ المُسْتَتِرِ، وضُعِّفَ هذا بأنَّ هذه أَحوالٌ لازمةٌ، والأَصْلُ أنْ تَكونَ مُنْتَقِلَةً، وبأنَّه يَلزَمُ العَطفُ على الضميرِ المَرفوعِ المُتَّصِلِ مِنْ غيرِ فصْلٍ بين المُتعاطفيْنِ، ولا تأكيدٍ، ولا فصلٍ بـ "لا" بعدَ حرفِ العَطفِ كقولِهِ: {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} الأنعام: 148. وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلَّا ضَرورةً. وللفارسيِّ بحثٌ في قولِهِ: {ما أَشركنا ولا آباؤنا} مع سيبويه، فإنَّ سِيبَويْه يَجعلُ طولَ الكلامِ بـ "لا" عِوَضًا عن التوكيدِ بالمُنفَصِلِ، كما طال الكلامُ في قولهم: "حَضَرَ القاضيَ اليومَ امرأةٌ" قال الفارسي: "هذا يستقيمُ إذا كان قبلَ حَرْفِ العطفِ، أمَّا إذا وقَعَ بعدَه فلا يَسُدُّ مَسَدَّ الضمير، ألَا تَرى أنَّك لو قُلْتَ: "حَضَرَ امرأةٌ القاضي اليومَ" لم يُغْنِ طولُ الكلامِ في غيرِ المَوْضِعِ الذي يَنبغي أنْ يَقَعَ فيه". قال ابنُ عطيَّة: وكلامُ سيبويهِ مُتَّجِهٌ على النَّظَرِ النَحْوِيِّ وإنْ كان الطُولُ قبلَ حَرْفِ العَطْفِ أَتَمَّ، فإنَّه بعدَ حرفِ العَطفِ مؤثِّرٌ لا سِيَّما في هذه الآيةِ لأنَّ "لا" رَبَطتِ المعنى، إذْ قَدْ تَقدَّمها نفيٌ ونَفَتْ هي أيْضًا عن الآباءِ فيُمْكِنُ العطفُ.
واخْتارَ أَبو عُبيدٍ قراءةَ رَفْعِ الجَميعِ، وهي روايةٌ الكسائيِّ، لأنَّ أَنَسًا
رواها قراءةً للنَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ. ورَوَى أَنَسٌ عنه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ أَيْضًا "أنْ النفسُ بالنفس" بتخفيف "أَنْ" ورفعِ النفسِ وفيها تأويلان، أحدُهُما: أَنْ تكونَ "أَنْ" مخففةً مِنَ الثقيلةِ واسْمُها ضَميرُ الأمْرِ والشأْنَ مَحذوفٌ، و"النفسُ بالنفس" مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، في مَحلِّ رَفْعٍ خَبَرًا لـ "أَنْ" المُخفَّفَةِ، كقولِه: {أَنِ الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمين} يونس: 10، فيكون المعنى كمعنى المشدَّدةِ. والثاني: أنَّها "أَنْ" المُفَسِرَةُ لأنَّها بعدَما هو بمَعنى القَولِ لا حُروفِه وهو "كَتَبْنا" والتقديرُ: أيْ النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأوَّلِ بأنَّه يَلزَمُ مِنَ الأوَّلِ وُقوعُ المُخَفَّفةِ بعدَ غيرِ العَلَمِ وهو قليلٌ أوْ مَمْنوعٌ، وقد يُقال: إنَّ "كَتَبْنا" لَمَّا كان بمعنى "قضَيْنا" قَرُبَ مِنْ أَفعالِ اليَقين.
وأمَّا قراءةُ نافعٍ ومَنْ مَعَهُ فالنَّصْبُ على اسْمِ "أَنَّ" لَفْظاً وهي النَّفسُ والجارُّ بعدَه خبرُه، و"قصاصٌ" خبرُ "الجُروحَ" أيْ: وأَنَّ الجُروحَ قِصاصٌ، وهذا مِنْ عَطْفِ الجُمَلِ، عَطَفْنا الاسْمَ على الاسْمِ والخَبَرَ على الخَبَرِ، كَقولِكَ "إنَّ زَيْدًا قائمٌ وعَمْرًا مُنْطَلِقٌ" عطفْتَ "عمرًا" على "زيدًا" و"منطلقٌ" على "قائمٌ" ويكونُ الكَتْبُ شامِلًا للجَميعِ، إلاَّ أنَّ في كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ ما يَقْتَضي أنْ يَكونَ "قِصاصٌ" خَبَرًا على المَنصوباتِ أَجْمَعَ فإنَّه قال: "وقَرَأَ نافعٌ وحمزةُ وعاصمٌ بِنَصْبِ ذَلك كُلِّهِ، و"قصاصٌ "خبرُ أَنَّ" وهذا وإنْ كان يَصْدُقُ أنَّ أَخْذَ النفسِ بالنفسِ والعينَ بالعينِ قصاص، إلَّا أنَّه صارَ هُنا بِقرينَةِ المُقابَلَةِ مُخْتَصًّا بالجُروحِ، وهو مَحَلُّ نَظَرٍ. وأمَّا قراءةُ أبي عَمْرٍو ومَنْ مَعَه فالمَنصوبُ كما تقدَّمَ في قراءةِ نافعٍ، لكنَّهم لَم يَنْصِبُوا "الجروح" قطعًا له عَمَّا قبلَه، وفيه أربعةُ أَوْجُهٍ: الثلاثةُ المَذكورةُ في تَوجيهِ قِراءةِ الكِسائيِّ، وقدْ تَقَدَّمَ إيضاحُهُ. والرابِعُ: أَنَّه مُبْتَدَأٌ وخَبَرُه "قِصاص" يَعني أنَّه ابْتِداءُ تشريعٍ، وتعريفُ حكمٍ جديدٍ، قال أَبو عليٍّ "فأمَّا "والجُروحُ قِصاص": فمَنْ رَفَعَه يَقْطَعْه عمَّا قبلَه، فإنَّه يَحتَمِلُ هذهِ الأَوْجُهَ الثَلاثةَ التي ذَكَرْناها في قراءةِ مَنْ رَفَعَ "والعينُ بالعين" ويَجوزُ أنْ يُستأنَفَ: "والجروحُ قصاص" ليسَ على أَنَّه ممّا كُتِبَ عليهم في التَوراةِ، ولكنَّه على الاسْتِئنافِ وابتداءِ تَشريعٍ. إلَّا أنَّ أَبَا شامةَ قال: قبل أنْ يَحْكيَ عن الفارسيِّ هذ الكلامَ: "ولا يَستقيم في رفعِ الجُروحِ الوجهُ الثالثُ، وهو أنَّه عطفٌ على الضميرِ الذي في خَبَرِ "النفس" وإنْ جازَ فيما قَبْلَها، وسَبَبُهُ اسْتِقامَةُ المَعنى في قولِكَ: مَأخوذةٌ هي بالنفسِ، والعينُ هي مأخوذةٌ بالعَيْنِ، ولا يَسْتقيمُ: والجُروحُ مَأخوذةٌ قِصاصٌ، وهذا معنى قولي: لَمَّا خلا قولُه "الجروح قصاص" عن الباءِ في الخَبَرِ خالَفَ الأسْماءَ التي قبلَها فخُولِفَ بينَهُما في الإعرابِ". وهذا الذي قالَه واضحٌ، ولم يتنبَّه لَهُ كثيرٌ مِنَ المُعْرِبين.
وقالَ بعضُهم: "إنما رُفِع "الجروح" ولم يُنْصَبْ تَبَعًا لِما قَبْلَهُ فَرْقًا بيْنَ المُجْمَلِ والمُفَسَّرِ" يعني أنَّ قَولَه: "النفسَ بالنفسِ والعينَ بالعينِ" مفسَّرٌ غيرُ مُجمَلٍ، بخلافِ "الجُروح" فإنَّها مُجْمَلَةٌ؛ إذْ ليسَ كُلُّ جُرْحٍ يَجْرَي فيه قِصاصٌ: بَلْ ما كان يُعْرَفُ فيه المُساواةُ وأَمْكَنَ ذلك فيه، على تَفصيلٍ مَعروفٍ في كُتِبِ الفِقْهِ سَبَقَ لنا أن بيَّناه. وقالَ بعضُهم: خُولِفَ في الإِعْرابِ لاخْتِلافِ الجِراحاتِ وتَفاوُتِها، وإذًا فالاختلافُ في ذلك كالخلافِ المُشارِ إليْه، وهذانِ الوَجهانِ لا مَعنْى لَهُما، ولا مُلازَمَةَ بيْن مُخالَفَةِ الإِعْرابِ ومُخالَفَةِ الأَحكامِ المُشارِ إليْها بِوَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ ، وإنَّما ذَكَرْتُها تنبيهًا على ضَعْفِها.
وقرأَ نافعٌ: "والأذْن بالأذْن" سواءً كان مُفرَدًا أمْ مُثنًى كقوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْرًا} لقمان: 7. بِسُكونِ الذالِ وهو تخفيفٌ للمَضومِ كَعُنْقٍ في "عُنُق" والباقون بضمِّها، وهوا لأصلُ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ في قوله: "والجروح قِصَاصٌ" إمَّا مِنْ الأوَّلِ، وإمَّا من الثاني، وسواءً قُرئ برفعه أو بنصبِه تقديرُه: وحكمُ الجروحِ قصاصٌ، أو: والجروحُ ذاتُ قصاصٍ. والقِصاصُ: المُقاصَّةُ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة وقرأ أُبي بنصب "النفس" والأربعةِ بعدَها. و"أنِ الجروحُ" بزيادةِ "أنْ" الخفيفةِ، ورفعِ "الجروحُ، وعلى هذه القراءة يتعيِّن أَنْ تكونَ المخففةَ ، ولا يجوز أن تكونَ المفسرةَ، بخلافِ ما تقدَّم من قراءةِ أنسٍ عنْه ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ بتَخفيفِ "أنْ" ورفعِ "النفس" حيثُ جَوَّزْنا فيها الوجهيْنِ، وذلك لأنَّه لو قَدَّرْتَها التَفسيريَّةَ وجَعَلْتَها معطوفةً على ما قبلَها فَسَدَ من حيث إنَّ "كتبنا" يَقتضي أَنْ يكونَ عامِلًا لأَجْلِ "أنَّ" المشدَّدةِ غيرُ عاملٍ لأَجَل "أَنْ" التفسيريَّةِ، فإذا انتفى تسلُّطُه عليها انْتَفى تشريكُها مع ما قبلها، لأنَّه إذا لم يَكنْ عَمَلٌ فلا تشريكٌ، فإذا جعلتَها المُخفَّفةَ تَسلَّطَ عملُه فاقتَضى
العملُ التَشريكَ في انْصبابِ معنى الكَتْب عليهما.
وقرأَ أُبَيٌّ: "فهو كفارتُه له" أي: التصدُّقُ كفارةٌ، يَعني الكَفَّارَةُ التي يَسْتَحِقُها لَه لا يَنْقُصُ منها، وهو تعظيمٌ لِما فَعَلَ كقولِه: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} الشورى: 40.
قولُه: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فهو كفّارةٌ له} بِه: أيْ بالقِصاصِ المُتعلِّقِ بالنَفسِ أوِ بالعينِ أوْ بما بَعدَها، "فهو" أي: فذلك التَصدقُ، عادَ الضميرُ على المَصْدَرِ لِدَلالةِ فِعلِه عليْه، وهو كقولِه تَعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} المائدة: 8. والضميرُ في "له" يَعودُ على المُتَصَدِّقِ، والمُرادُ بِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ القِصاصَ مِنْ مُصابٍ أوْ وَلِيٍّ، أي: فالتَصدُّقُ كَفَّارةٌ لِذلك المُتَصَدِّقِ بِحَقِّهِ، وإلى هذا ذَهَبَ جَماعةٌ كثيرةٌ مِنَ الصَّحابةِ فمَنْ بعدَهم. ويُمكنُ أنْ يُرادَ الجاني بالضميرِ، والمُرادُ بالمُتَصَدِّقِ كما تَقَدَّمَ مُسْتَحِقُ القِصاصِ، والمعنى: أنَّهُ إذا تَصَدَّقَ المُسْتَحِقُّ على الجاني كان ذلك التَصَدُّقُ كَفَّارةً للجاني حيثُ لَمْ يُؤَاخَذْ به. قال الزمخشريُّ: "وقيل: فهو كفارةٌ لَه، أي: للجاني إذا تَجَاوَزَ عنْه صاحبُ الحَقِّ سَقَطَ عنْه ما لَزِمَهُ". وإلى هذا ذَهَبَ ابْنُ عبّاسٍ في آخرين. كما يُمكنُ أنَّ يعودَ الضَميرُ على المُتصدِّقِ أيْضًا، لكنَّ المُرادَ بِهِ الجاني نفسه، ومعنى كونِه متصدِّقًا أنَّه إذا جَنَى جِنايَةً ولم يَعْرِفْ به أحدٌ فَعَرَّفَ هو بنفسِه كان ذلك الاعترافُ بمنزلةِ التَصَدُّقِ الماحي لِذَنْبِهِ وجِنايِتِه، قالَه مُجاهدٌ. ويُحْكى عَن عُروةَ بْنِ الزُبيرِ أنَّه أَصابَ إنْسانًا في طَوافِه فلم يَعْرِفِ الرَّجُلُ مَنْ أَصابَه، فقالَ لَه عُروَةُ: "أنا أصبتك وأنا عروةُ بْنُ الزُّبيْرِ، فإنْ كان يَعنيكَ شيْءٌ فيها أَنَا ذا"، وعلى هذا التأويلِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ "تصدَّقَ" مِنَ الصَدَقَةِ وأنْ يَكونَ مِن الصِدْقِ.
والأوَّلُ واضح وهو الأظهرُ، والثاني معناه أنَّه يَتَكَلَّفُ الصِدْقَ، لأنَّ ذلك ممَّا يَشُقُّ.
وقولُه: {وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ} يَجوزُ في "مَنْ" أنْ تَكونَ شَرْطيَّةً، وهو الظاهرُ، وأنْ تكونَ مَوصولةً، والفاءُ في الخبرِ زائدةٌ لِشِبَهِهِ بالشَرْطِ.
قوله: {هُمُ الكافرون} هُمُ: فَصْلٌ أوْ مُبْتَدَأٌ، وكلُّهُ ظاهرٌ مِمَّا تقدَّمَ في نظائرِهِ.