قَوْلُهُ: "ذَكَّيْتُمْ" الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا التَّمَامُ، وَمِنْهُ تَمَامُ السِّنِّ. وَالْفَرَسُ الْمُذَكَّى الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْقُرُوحِ (قَرَحَ الفَرَسُ إذا انتهتْ أسنانُه، وإنَّما تَنْتهي في خمسِ سِنين) بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ تَمَامُ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ. وَيُقَالُ: ذَكَّى يُذَكِّي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَرْيُ الْمُذَكِّيَاتِ غِلَابٌ. وَالذَّكَاءُ حِدَّةُ القَلْبِ، وقال زُهيْر:
يُفَضِّلُهُ إِذَا اجْتَهَدُوا عَلَيْهِ ........................ تَمَامُ السِّنِّ مِنْهُ وَالذَّكَاءُ
وَالذَّكَاءُ سُرْعَةُ الْفِطْنَةِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ ذَكِيَ يَذْكَى ذَكًا، وَالذَّكْوَةُ مَا تَذْكُو بِهِ النَّارُ، وَأَذْكَيْتُ الْحَرْبَ وَالنَّارَ أَوْقَدْتُهُمَا. وَذُكَاءُ اسْمُ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَذْكُو كَالنَّارِ، وَالصُّبْحُ ابْنُ ذُكَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ ضَوْئِهَا. فَمَعْنَى "ذَكَّيْتُمْ" أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ عَلَى التَّمَامِ. ذَكَّيْتُ الذَّبِيحَةَ أُذَكِّيهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّطَيُّبِ، يُقَالُ: رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ، فَالْحَيَوَانُ إِذَا أُسِيلَ دَمُهُ فَقَدْ طُيِّبَ، لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ التَّجْفِيفُ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما "ذَكاةُ الأرضِ يُبْسُها" يُريدُ طَهارتُها مِنَ النَجاسَةِ، فالذَّكاةُ في الذَبيحةِ طهارةٌ لَهَا، وَإِبَاحَةٌ لِأَكْلِهَا فَجُعِلَ يُبْسُ الْأَرْضِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ تَطْهِيرًا لَهَا وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاةِ لِلذَّبِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ، مَقْرُونًا بِنِيَّةِ الْقَصْدِ للهِ وَذِكْرِهِ عَلَيْهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الذَّكَاةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَهُوَ مِنْ آلَاتِ الذَّكَاةِ مَا خَلَا السِّنَّ وَالْعَظْمَ، عَلَى هَذَا تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ، وَقَالَ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا فِي التَّذْكِيَةِ هُمَا غَيْرُ الْمَنْزُوعَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ خَنْقًا، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْخَنْقُ، فَأَمَّا الْمَنْزُوعَانِ فَإِذَا فَرَيَا الْأَوْدَاجَ فَجَائِزٌ الذَّكَاةُ بِهِمَا عِنْدَهُمْ. وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مَنْزُوعَةً أَوْ غَيْرَ مَنْزُوعَةٍ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا ملاقوا الْعَدُوّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى ـ فِي رِوَايَةٍ ـ فنُذَكي بِاللِّيطِ؟. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رجلٍ مِنَ الأنْصارِ عنْ مُعاذ ابن سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ((لَا بَأْسَ بِهَا وَكُلُوهَا)). وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّةِ الْعَصَا؟ قَالَ: ((أَعْجِلْ وَأَرِنْ "أي أعْجِلْ" مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَسَأُحَدِّثُكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ)) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَا ذُبِحَ بِاللِّيطَةِ وَالشَّطِيرِ وَالظُّرَرِ فَحِلٌّ ذَكِيٌّ. اللِّيطَةُ فِلْقَةُ القَصَبَةِ ويُمْكِنُ بِها الذَبْحُ والنَّحْرُ. والشَطيرُ فِلْقَةُ الْعُودِ، وَقَدْ يُمْكِنُ بِهَا الذَّبْحُ لِأَنَّ لَهَا جَانِبًا دَقِيقًا. وَالظُّرَرُ فِلْقَةُ الْحَجَرِ يُمْكِنُ الذَّكَاةُ بِهَا وَلَا يُمْكِنُ النَّحْرُ، وَعَكْسُهُ الشِّظَاظُ يُنْحَرُ بِهِ، لِأَنَّهُ كَطَرَفِ السِّنَانِ وَلَا يُمْكِنُ بِهِ الذَّبْحُ.
قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ. وقال الشافعي: يَصِحُّ بِقَطْعِ الحُلْقومِ والمَرْيِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَدَجَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُمَا حَيَاةٌ، وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ. وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ اعْتَبَرُوا الْمَوْتَ عَلَى وَجْهٍ يَطِيبُ مَعَهُ اللَّحْمُ، وَيَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَلَالُ ـ وَهُوَ اللَّحْمُ ـ مِنَ الْحَرَامِ الَّذِي يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي قَوْلِهِ: ((مَا أَنْهَرَ الدَّمَ)). وَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أنَّه يَشْتَرِطْ قَطْعَ أَرْبَعٍ: الحُلقومِ والودجين والمَرِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي قَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ هَلْ هُوَ ذَكَاةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَهْمَا كَانَ فِي الْحَلْقِ تَحْتَ الْغَلْصَمَةِ فَقَدْ تَمَّتِ الذَّكَاةُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا ذُبِحَ فَوْقَهَا وَجَازَهَا إِلَى الْبَدَنِ هَلْ ذَلِكَ ذَكَاةٌ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَهَا مِنَ الْقَفَا وَاسْتَوْفَى الْقَطْعَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ لَمْ تُؤْكَلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُؤْكَلُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِنْهَارُ الدَّمِ فَفِيهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعَبُّدِ، وَقَدْ ذَبَحَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحَلْقِ وَنَحَرَ فِي اللَّبَّةِ وَقَالَ: ((إِنَّمَا الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ)) فَبَيَّنَ مَحلَّهَا وَعَيَّنَ مَوْضِعَهَا، وَقَالَ مُبَيِّنًا لِفَائِدَتِهَا: ((مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ)). فَإِذَا أُهْمِلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَقَعْ بِنِيَّةٍ وَلَا بِشَرْطٍ وَلَا بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ زَالَ مِنْهَا حَظُّ التَّعَبُّدِ، فَلَمْ تُؤْكَلْ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الذَّكَاةِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْفَوْرِ وَأَكْمَلَ الذَّكَاةَ، فَقِيلَ: يُجْزِئُهُ. وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ جَرَحَهَا ثُمَّ ذَكَّاهَا بَعْدُ وَحَيَاتُهَا مُسْتَجْمَعَةٌ فيها.
وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يَذْبَحَ إِلَّا مَنْ تُرْضَى حَالُهُ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاقَهُ وَجَاءَ بِهِ عَلَى سُنَّتِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَالِغٍ أَوْ غَيْرِ بَالِغٍ جَازَ ذَبْحُهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَذَبْحُ الْمُسْلِمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ، وَلَا يَذْبَحُ نُسُكًا إِلَّا مُسْلِمٌ، فَإِنْ ذَبَحَ النُّسُكَ كِتَابِيٌّ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي تَحْصِيلِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ أَجَازَهُ أَشْهَبُ.
وَمَا اسْتَوْحَشَ مِنَ الْإِنْسِيِّ لَمْ يَجُزْ فِي ذَكَاتِهِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي ذَكَاةِ الْإِنْسِيِّ، فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّيُ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ الذَّكَاةُ فِيهِ إِلَّا فِيمَا بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ عَلَى سُنَّةِ الذَّكَاةِ. وَقَدْ خَالَفَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَتَمَامُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (فَمُدَى الْحَبَشَةِ) قَالَ: وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدَ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شيء فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا ـ وَفِي رِوَايَةٍ ـ ((فَكُلُوهُ)). وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَسْلِيطُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ذَكَاةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ قَالَ: ((لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ)). قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَعْجَبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنْ يَكْتُبَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا يَصْلُحُ هَذَا إِلَّا فِي الْمُتَرَدِّيَةِ وَالْمُسْتَوْحِشِ. وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ حَبِيبٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَقَطَ فِي مَهْوَاةٍ فَلَا يُوصَلُ إِلَى ذَكَاتِهِ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلٌ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الْوَحْشِيُّ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لَمَّا كَانَ الْوَحْشِيُّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْإِنْسِيُّ، لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ إِذَا تَوَحَّشَ أَوْ صَارَ فِي مَعْنَى الْوَحْشِيِّ مِنِ الِامْتِنَاعِ أَنْ يَحِلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْوَحْشِيُّ. قُلْتُ: أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِأَنْ قَالُوا: تَسْلِيطُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَبْسِهِ لَا عَلَى ذَكَاتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَظَاهِرِهِ، لِقَوْلِهِ: (فَحَبَسَهُ) وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ السَّهْمَ قَتَلَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَلَا يُرَاعَى النَّادِرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ السَّهْمَ حَبَسَهُ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ مَحْبُوسًا صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْكَلُ إِلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: "حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِ أَبِي الْعُشَرَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ أسامةُ ابْنُ قِهْطِمٍ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ يَسَارُ بْنُ بَرْزٍ ـ وَيُقَالُ: بَلْزٍ ـ وَيُقَالُ: اسْمُهُ عُطَارِدٌ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ". فَهَذَا سَنَدٌ مَجْهُولٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَمَتْ صِحَّتُهُ كَمَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ، إِذْ مُقْتَضَاهُ جَوَازُ الذَّكَاةِ فِي أَيِّ عُضْوٍ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْمَقْدُورِ وَغَيْرِهِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ فِي الْمَقْدُورِ، فَظَاهِرُهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ قَطْعًا. وَتَأْوِيلُ أَبِي دَاوُودَ وَابْنِ حَبِيبٍ لَهُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنِدَّ الْإِنْسِيُّ أَنَّهُ لَا يُذَكَّى إِلَّا بِمَا يُذَكَّى بِهِ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كلِّ شيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ)) فَذَكَرَهُ. قَالَ العُلَمَاءُ: إِحْسَانُ الذَّبْحِ فِي الْبَهَائِمِ الرِّفْقُ بِهَا، فَلَا يَصْرَعُهَا بِعُنْفٍ وَلَا يَجُرُّهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَإِحْدَادُ الْآلَةِ، وَإِحْضَارُ نِيَّةِ الْإِبَاحَةِ وَالْقُرْبَةِ وَتَوْجِيهُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالْإِجْهَازُ، وَقَطْعُ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ، وَإِرَاحَتُهَا وَتَرْكُهَا إِلَى أَنْ تَبْرُدَ، وَالِاعْتِرَافُ للهِ بِالْمِنَّةِ، وَالشُّكْرُ لَهُ بِالنِّعْمَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا مَا لَوْ شَاءَ لَسَلَّطَهُ عَلَيْنَا، وَأَبَاحَ لَنا ما لوْ شاءَ لَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مِنْ إِحْسَانِ الذَّبْحِ أَلَّا يَذْبَحَ بَهِيمَةً وَأُخْرَى تَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَحُكِيَ جَوَازُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَأَمَّا حُسْنُ القِتْلَةِ فعامٌّ في كلِّ شيءٍ مِنَ التَّذْكِيَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُودَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ، زَادَ ابْنُ عِيسَى فِي حَدِيثِهِ (وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَتُقْطَعُ وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ ثُمَّ تُتْرَكُ فَتَمُوتُ).
قَوْلُهُ: {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: "النُّصُبِ" حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ وَتُصَبُّ عَلَيْهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ، وَهُوَ النَّصْبُ أَيْضًا. وَالنَّصَائِبُ حِجَارَةٌ تُنْصَبُ حَوَالَيْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَتُجْعَلُ عَضَائِدَ، وَغُبَارٌ مُنْتَصِبٌ مُرْتَفِعٌ. وَقِيلَ: "النُّصُبِ" جَمْعٌ، وَاحِدُهُ نِصَابٌ كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، وَكَانَتْ ثَلَاثُمِئَةٍ وَسِتِّينَ حَجَرًا. وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، كَالْأَجْمَالِ وَالْأَجْبَالُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. وقال الجحدريُّ هي ثلاثُمِئةٍ وسِتُّون حَجَرًا مَنْصوبَةً. وقال ابْنُ عبَّاسٍ: هُنَّ الأَصنامُ المَنصوبَةُ، وقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَكَأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها} الحج: 37. وَنَزَلَتْ "وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" الْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ فِيهَا تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ............... لِعَافِيَةٍ وَاللهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا
وَقِيلَ: "عَلَى" بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ لِأَجْلِهَا، قَالَ قُطْرُبٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللهِ شيءٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ وشَرَفِ المَوْضِعِ وتَعظيمِ النُفوسِ لَه.
قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} اليأسُ انقطاعُ الرَجاءِ وهو ضِدُّ الطَمَعِ. والمُرادُ انْقطَعَ رَجاؤهم مِنْ إبْطالِ دينِكم ورُجوعِكم عنه بتحليلِ هذه الخبائثِ وغيرِها، أو مِنْ أَنْ يَغلِبوكم عليْه لَمَّا شاهدوا أنَّ اللهَ تعالى وفّى بوعدِه حيثُ أَظْهَرَه على الدّينِ كُلِّهِ.
ورُوِيَ أَنَّه لمَا نَزَلَتِ الآيةُ نَظَرَ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ في المَوقِفِ فلمْ يَرَ إلَّا مُسْلِمًا، قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَتَحَ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَيُقَالُ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَدَخَلَهَا وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ)).
قولُه: {فلا تخشَوْهُمْ واخْشَوْنِ} أيْ لا تَخافوا الكُفَّارَ أنْ يَغْلِبوكم أوْ يُبْطِلوا دينَكم، فقد زالَ الخَوْفُ عنكم بإظهارِ دِينِكم "واخْشون" فأنَا القادرُ على كلِّ شيءٍ إنْ نَصَرْتُكم فلا غالبَ لَكم، وإنْ خَذَلْتُكم لم يَسْتَطِعْ غيري أنْ يَنْصَرَكم.
قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْزَلَ اللهُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَى أَنْ حَجَّ، فَلَمَّا حَجَّ وَكَمُلَ الدِّينُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ".
رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا أُنْزِلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَالْمَكَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما يُبْكِيكَ))؟ فَقَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا فَأَمَّا إِذْ كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شيءٌ إِلَّا نَقَصَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقْتَ)). وَرَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. والْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فإنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَكَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، فَكَادَ عَضُدُ النَّاقَةِ يَنْقَدُّ مِنْ ثِقَلِهَا فَبَرَكَتْ. و"الْيَوْمَ" قَدْ يُعَبَّرُ بِجُزْءٍ مِنْهُ عَنْ جَمِيعِهِ، وَكَذَلِكَ عَنِ الشَّهْرِ بِبَعْضِهِ، تَقُولُ: فَعَلْنَا كذا فِي شَهْرِ كذا وَفِي سَنَةِ كَذَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّكَ لَمْ تَسْتَوْعِبِ الشَّهْرَ وَلَا السَّنَةَ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَالدِّينُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَ وَفَتَحَ لَنَا، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ نُجُومًا وَآخِرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حُكْمٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ مُعْظَمُ الْفَرَائِضِ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ، قالوا: وقد نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَنَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَمُلَ مُعظَمُ الدِّينِ وأَمْرُ الحَجِّ، إذا لَمْ يَطُفْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُشْرِكٌ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَوَقَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِعَرَفَةَ. وَقِيلَ: "أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" بِأَنْ أَهْلَكْتُ لَكُمْ عَدُوَّكُمْ وَأَظْهَرْتُ دِينَكُمْ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كَمَا تَقُولُ: قَدْ تَمَّ لَنَا مَا نُرِيدُ إِذَا كُفِيتَ عَدُوَّكَ.
قَوْلُهُ: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أَيْ بِإِكْمَالِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ
وَإِظْهَارِ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا وَعَدْتُكُمْ، إِذْ قُلْتُ: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} البقرة: 150. وَهِيَ دُخُولُ مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا انْتَظَمَتْهُ هَذِهِ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
ولَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَانَ غَيْرَ كَامِلٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ وَبَايَعُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْبَيْعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ للهِ مَعَ عَظِيمِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحَنِ مَاتُوا عَلَى دِينٍ نَاقِصٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينٍ نَاقِصٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّقْصَ عَيْبٌ، وَدِينُ اللهِ تَعَالَى قِيَمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {دِينًا قِيَمًا} الأنْعام: 161. فَالْجَوَابُ: ليس كُلُّ نَقْصٍ عَيْبًا، أَرَأَيْتَ نُقْصَانَ الشَّهْرِ هَلْ كان عَيْبًا، وَنُقْصَانَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَهُوَ عَيْبٌ لَهَا، وَنُقْصَانَ الْعُمْرِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} فاطر: 11. أَهُوَ عَيْبٌ لَهُ، وَنُقْصَانُ أَيَّامِ الْحَيْضِ عَنِ الْمَعْهُودِ، وَنُقْصَانَ أَيَّامِ الْحَمْلِ، وَنُقْصَانَ الْمَالِ بِسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ صَاحِبُهُ، فَمَا أَنْكَرْتَ أَنَّ نُقْصَانَ أَجْزَاءِ الدِّينِ فِي الشَّرْعِ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ الْأَجْزَاءُ الْبَاقِيَةُ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَيْنٍ وَلَا عَيْبٍ، وإنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَلَّغْتُهُ أَقْصَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدِي فِيمَا قَضَيْتُهُ وَقَدَّرْتُهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا نُقْصَانَ عَيْبٍ، لكنَّه نُقصانٌ مُقيَّدٌ، فهو كَانَ نَاقِصًا عَمَّا كَانَ عِنْدَ اللهِ ـ تعالى، وأَنَّهُ مُلْحِقُهُ بِهِ وَضَامُّهُ إِلَيْهِ، كَالرَّجُلِ يُبَلِّغُهُ اللهُ مِئَةَ سَنَةٍ فَيُقَالُ: أَكْمَلَ اللهُ عُمُرَهُ، وَلَا يَجِبُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ حِينَ كَانَ ابْنَ سِتِّينَ كَانَ نَاقِصًا نَقْصَ قُصُورٍ وَخَلَلٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَقُولُ: ((مَنْ عَمَّرَهُ اللهُ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ)). وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِنُقْصَانٍ مُقَيَّدٍ فَيُقَالُ: كَانَ نَاقِصًا عَمَّا كَانَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُبَلِّغُهُ إِيَّاهُ وَمُعَمِّرُهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَلَغَ اللهُ بِالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلَوْ قِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَهَا لَكَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَلَا يَجِبُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ نَاقِصَةً نَقْصَ قُصُورٍ وَخَلَلٍ، وَلَوْ قِيلَ: كَانَتْ نَاقِصَةً عَمَّا عِنْدَ اللهِ أَنَّهُ ضَامُّهُ إِلَيْهَا وَزَائِدُهُ عَلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَهَكَذَا هَذَا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ شُرِعَ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ أَنْهَى اللهُ الدِّينَ مُنْتَهَاهُ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" أَنَّهُ وَفَّقَهُمْ لِلْحَجِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ غَيْرُهُ، فَحَجُّوا، فَاسْتَجْمَعَ لَهُمُ الدِّينُ أَدَاءً لِأَرْكَانِهِ وَقِيَامًا بِفَرَائِضِهِ، فَإِنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةً والسَّلَامُ ـ يَقُولُ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ)) الْحَدِيثَ. وَقَدْ كَانُوا تَشَهَّدُوا وَصَلُّوا وَزَكُّوا وَصَامُوا وَجَاهَدُوا وَاعْتَمَرُوا وَلَمْ يَكُونُوا حَجُّوا، فَلَمَّا حَجُّوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ وَهُمْ بِالْمَوْقِفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" فَإِنَّمَا أَرَادَ أَكْمَلَ وَضْعَهُ لَهُمْ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِسْلَامٌ.
قَوْلُهُ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِرِضَايَ بِهِ لَكُمْ دِينًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا بِالْإِسْلَامِ لَنَا دِينًا، فَلَا يَكُونُ لِاخْتِصَاصِ الرِّضَا بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَائِدَةٌ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَرَضِيتُ عَنْكُمْ إِذَا انْقَدْتُمْ لِيَ بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعْتُهُ لَكُمْ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يُريدَ "رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا" أَيْ وَرَضِيَتُ إِسْلَامَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا بَاقِيًا بِكَمَالِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَا أَنْسَخُ مِنْهُ شَيْئًا. وَاللَّهُ أعلم.
و"الْإِسْلامَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} آل عمران: 19. وَهُوَ الَّذِي يُفَسَّرُ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ وَالشُّعَبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} يَعْنِي مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةٌ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَخْمَصَةُ الْجُوعُ وَخَلَاءُ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ. وَالْخَمْصُ ضُمُورُ الْبَطْنِ. وَرَجُلٌ خَمِيصٌ وَخُمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخُمْصَانَةٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ، وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ وَالْغَرَثِ، قَالَ الْأَعْشَى:
تَبِيتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلَاءً بُطُونُكُمْ .......... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا
غَرْثى: جوعي، أَيْ مُنْطَوِيَاتٍ عَلَى الْجُوعِ قَدْ أَضْمَرَ بُطُونَهُنَّ.
وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي خَمْصِ الْبَطْنِ مِنْ جِهَةٍ ضُمْرِهِ:
وَالْبَطْنُ ذُو عُكَنٍ خَمِيصٌ لَيِّنٌ ................. وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ بِثَدْيٍ مُقْعَدِ
العُكُنُ والأَعْكانُ: الأطواءُ في البَطْنِ مِنَ السُمْنةِ. ونَفَجَ ثديُ المَرأةِ قميصَها إذا رَفَعَه.
وفي الحديث: ((خماصُ البُطونِ جِفافُ الظُّهُورِ)). أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَعِفَّاءُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمِنْهُ الحديث: ((إنَّ الطيرَ تَغدو خِماصًا وتَروحُ بِطَانًا)). وَالْخَمِيصَةُ أَيْضًا ثَوْبٌ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَمَائِصُ ثِيَابُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمَةٍ، وَهِيَ سَوْدَاءُ، كَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الاضْطِرارِ وحكمُه في البقرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ} أَيْ غَيْرَ مَائِلٍ لِحَرَامٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} البقرة: 173. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْجَنَفُ الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وكان قد أَفطَرَ الناسُ في رَمَضانَ ثمَّ ظهرتِ الشَمْسُ: مَا تَجَانَفْنَا فِيهِ لِإِثْمٍ، أَيْ مَا مِلْنَا وَلَا تَعَمَّدْنَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ: وَكُلُّ مَائِلٍ فَهُوَ مُتَجَانِفٍ وَجَنِفٍ. فَالْمَعْنَى غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ لِمَعْصِيَةٍ فِي مَقْصِدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ.
قولُه: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ فَإِنَّ اللهَ لَهُ غَفُورٌ رحيمٌ فحَذَفَ، وأَنشدَ سِيبَوَيْهِ لأَبي النَّجْمِ العجلي:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي .................... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
أُمُّ الخِيارِ امْرأتُه، أَرَادَ لَمْ أَصْنَعْهُ فَحَذَفَ. والله أعلم.
قال ابنُ عبّاسٍ: فمَكَثَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ بعدَ نُزولِ هذه الآيةِ أحَدًا وثمانين يَومًا ثمَّ قَبضَهُ اللهُ إليْه، أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وقد مات ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ يَومَ الأثنيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتا مِن رَبيعٍ الأوَّل، وقيلَ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَة وهو الأصحُّ سنةَ إحْدى عَشْرَةَ مِنْ الهجرةِ.
قال ابْنُ عبَّاسٍ: كان في ذلك اليومِ خَمْسَةُ أَعيادٍ، يَومُ الجُمُعَةِ، ويومُ عَرَفَةَ، وعِيدٌ لليَهودِ، وعيدٌ للنَّصارى، وعيدٌ للمَجوسِ، ولَمْ تَجْتَمِعْ أَعيادٌ لأهْلِ المِلَلِ في يومٍ واحدٍ قبلَه ولا بعدَه.
قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} تقدَّمَ إعرابُها وأَصلُها، وقَدَّمَ هُنا لَفْظَ الجَلالَةِ في قولِه: "وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ" وأُخِّرتْ هُناكَ، لأنَّها في البقرة فاصلةٌ أوْ تُشبِهُ الفاصِلَةَ بخِلافِها هُنا، فإنَّها بعدَها معطوفاتٌ. و"المَوقوذة": هي التي وُقِذَت أي: ضُرِبَتْ بِعَصًا ونحوِها حتّى ماتت، مِنْ: وَقَذَهُ أيْ: ضَرَبَه حتّى اسْتَرخى، ومنه: "وقَذَه النُّعاسُ" أيْ: غَلَبَه، ووَقَذَه النُّعاسُ أيْ: غَلَبَه، ووَقَذَه الحُلُم أي: سَكَّنَه، وكأنَّ المادَّةَ دالَّةٌ على سُكونٍ واسْتِرْخاءٍ. و"المُتَرَدِّيَةُ": مِنْ تَرَدَّى أي: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فهلَكَ، ويُقالُ: "ما يَدْري أيْنَ رَدَى" أي: ذَهَبَ، وَرَدَى وَتَردَّى بمعنى هَلَك، و"النَّطيحة": فَعيلَةٌ بمَعنى مفعولَةٍ، وكان مِنْ حقِّها أَلاَّ تَدخُلَها تاءُ التأنيثِ كَقَتيلٍ وجَريحٍ، إلَّا أنَّها جَرَتْ مَجْرى الأسْماءِ أوْ لأنَّها لم يُذْكَرْ مَوْصوفُها، كذا قالَه أبو البقاء، وفيه نظرٌ، لأنَّهم إنَّما يُلْحِقونَ التاءَ إذا لم يُذْكَرْ المَوصوفُ لأجْلِ اللَّبْسِ نحو: "مَرَرْتُ بقتيلةِ بنِ فُلان" لِئَلَّا يُلْبِسَ المُذَكَّرَ بالمُؤنَّثَ، وهُنا اللَّبْسُ مُنْتَفٍ، وأيْضًا فحُكْمُ الذَّكرِ والأُنْثى في هذا سَواءٌ. و"ما أكل السَّبُعُ": "ما" بمعنى الذي وعائدُه محذوفٌ أيْ: وما أَكَلَهُ السَّبُعُ، ومَحَلُّ هذا المَوْصولِ الرَّفعُ عطفًا على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلُه، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهره، لأنَّ ما أَكَلَهُ السَبُعُ وفَرَغَ مِنْهُ لا يُذَكَّى، ولِذلك قُدِّرَ: "وما أَكَلَ بعضَه السَبُعُ" وقرأَ الحَسَنُ والفَيّاضُ وأبو حَيَوةَ: "السَّبْعُ" بسكونِ الباءِ. وهو تَسْكينٌ للمَضمومِ. وَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ نَجْدٍ. وَقَالَ حَسَّانٌ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ....................... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ" وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: "وَأَكِيلُ السَّبُعِ". ونُقِلَ فتحُ السين والباءِ معًا.
قولُه : {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} مستثنًى مُتَّصِلٌ، والقائلون بأنَّه اسْتثناءٌ مُتَّصِلٌ اخْتَلفوا: فمنهم مَنْ قال: هو مُسْتَثنًى مِنْ قولِه: {والمُنْخَنِقَةُ} إلى قولِه: {وَمَا أَكَلَ السَبُعُ} وقال أبو البقاءِ: "والاستثناءُ راجعٌ إلى المُتَردِّيَةِ والنَّطيحةِ وأَكيلَةِ السَّبُعِ" وليس إخراجُه المُنْخَنِقَةَ مِنْه بِجَيِّدٍ. ومِنْهم مَنْ قال: هو مُسْتَثْنًى مِنْ "ما أَكَلَ السَّبُعُ" خاصَّةً. والقولُ الثاني: أنَّه مُنْقَطِعٌ أي: ولكنْ ما ذَكَّيْتُم مِنْ غيرِها فحَلالٌ، أو فَكَلوه، وكأنَّ هذا القائلَ رأى أنَّها وَصَلَتْ بِهذِه الأَسبابِ إلى المَوْتِ أوْ إلى حالةٍ قَريبةٍ منْه فلمْ تُفِدْ تَذْكِيتُها عندَه شيئًا. والتَذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، وذَكَتِ النَّارُ: ارْتَفَعَتْ، وذَكَى الرَّجُلُ: أَسَنَّ، قال:
على أعراقهِ تَجْري المَذاكي ................... وليس على تقلُّبِه وجُهْدِهْ
قولُه: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُصُبِ} جملةٌ "ما" في مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا على "المَيْتَةُ" و"على" بمَعنى اللّامِ، أيْ: وما ذُبِحَ لأَجْلِ الأَصْنامِ. أو هي على بابِها، ولكنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ أيْ: وما ذُبِحَ مُسَمًّى على الأَصْنامِ.
وقرأ طلحةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِضَمِّ النُّونِ وإسكانِ الصادِ وهي تخفيفُ القراءةِ الأولى. وقرأ عيسى بنُ عُمرَ: "النَصَب" بفتحتيْن، قال أبو البَقاءِ: وهو اسمٌ بمعنى المنصوبِ كالقبَضِ والنَقَصِ بمعنى المَقبوضِ والمَنقوصِ، وقرأ الحَسَنُ: "النَّصْب" بفتحِ النونِ وسكونِ الصادِ، وهو مَصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ بِه، ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ تَخفيفًا لِقراءةِ عيسى بْنِ عُمَر لأنَّ الفَتحةَ لا تُخَفَّفُ.
قولُه: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلامِ} أَنْ: وما في حَيِّزِها في محلِّ رَفْعٍ عطفًا على "المتيةُ".
قولُه: {ذلكم فِسْقٌ} مبتدأٌ وخَبَرٌ، واسْمُ الإِشارة راجعٌ إلى الاسْتِقْسامِ بالأزْلامِ خاصَّة، وهو مَرْوِيٌّ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ. وقيل: إلى جميعِ ما تقدَّمَ، لأنَّ معناه: حَرَّم عليكم تناولَ المَيْتَةِ وكذا، فرَجَعَ اسْمُ الإِشارةِ إلى هذا المُقَدَّرِ.
قولُه: {اليومَ يَئِسَ الذين كَفَرُواْ} اليوم: ظرفٌ منصوبٌ بـ "يئس" والألِفُ واللّامُ فيه للعَهْدِ، قيلَ: أَرادَ بِه يَومَ عَرَفَة، وقيل: هو يومُ دُخولِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ مَكَّةَ سنةَ تِسْعٍ، وقيل: ثمانٍ وقالَ الزَّجَّاجُ ـ وتَبِعَه الزمخشريُّ ـ إنَّها لَيْسَتْ للعَهدِ، ولم يُرَدْ باليومِ مُعَيَّنًا، وإنَّما أَرادَ بِه الزَمانَ الحاضرَ وما يُدانيهِ مِنَ الأَزْمِنَةِ الماضيةِ والآتيةِ كقولِك: "كنتَ بالأمسِ شابًّا وأنتَ اليومَ أَشْيَب" لا تُريدُ بالأمسِ الذي قبلَ يومِك، ولا باليومِ الزَمَنَ الحاضر َفقط، ونحوه: "الآن" في قولِ الحارث بنِ وَعْلَةَ الذُّهْلِيّ:
الآن لَمَّا ابيضَّ مَسْربتي ................... وعَضَضْتُ مِنْ نابي على جِذْمِ
ومثلُه أيضًا قول زُهير:
وأَعْلَمُ ما في اليومِ والأمسِ قبلَه ......... ولكنّني عنْ عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ
لم يُرِدْ بهذه حقائقَها. والجمهورُ على "يَئِس" بالهمزِ، وقرأ يَزيدُ ابْنُ القَعقاعِ: "يَيِس" بياءين من غيرِ همزةٍ، ورُويتْ أيْضًا عن أبي عَمْرٍو، يُقالُ يَئِسَ يَيْئَسُ ويَيْئِسُ بِفتحِ عينِ المُضارِعِ وكَسْرِها وهو شاذٌّ، ويُقالُ: "أَيِس" أيضًا مقلوبٌ مِن يَئسَ فوزنُه عَفِلَ، ويَدُلُّ على القَلْبِ كونُه لم يُعَلَّ ، إذْ لو لمْ يُقَدَّرْ ذلك للزِمَ إلغاءُ المُقتَضي، وهو تحرُّكُ حَرْفِ العِلَّةِ وانْفِتاحُ ما قبلَه، لكنَّه لمَّا كان في معنى ما لمْ يُعَلَّ صَحَّ.
وقولُه: "من دينِكم" متعلِّقٌ بـ "يئس" ومعناها ابتداءُ الغاية، وهو على حَذْفِ مُضافٍ، أي: مِنْ إبطالِ أمرِ دينِكم. والكلامُ في قولِه: {اليوم أَكْمَلْتُ[/c