يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا النداءُ مُوَجَّهٌ للمؤمنين بوصفِهم مؤمنين؛ لأنَّ مُقتَضى الإيمانِ أنْ يُرَبُّوا أَنْفُسَهم على الخيْرِ، ويَنْزَعوا منْها نَوازِعَ الشَرِّ.
قولُه: {اتَّقُوا اللهَ} أيْ: اجْعَلوا بينَكم وبيْنَ غضبِه وِقايَةً، بحيثُ تكونُ نفوسُكم في حِصْنٍ، وهذا الحِصْنُ هو التَقوى التي تَمْلَأُ القَلْبَ بِذِكْرِ اللهِ ـ تعالى ـ ومراقبتِه في الأقوالِ والأفعالِ والأحوالِ، فلا تُحِسُّ النفسُ إلّا بِه ـ سبحانَه ـ مُسَيْطِرًا على هذا الوُجودِ بكلِّ ما فيه من مخلوقات، وتحِسُّ بِه ـ جلَّ شأنُه ـ رقيبًا لَا تَخفى عليه خافيَةٌ.
قولُه: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ابْتَغُوا: اطْلبوا رِضاهُ وطاعتَه ـ سبحانَه ـ طلبَ مَن يُحِبُّهُ ويَبْغي ثوابَه، وتلكَ أَعلى الدَرَجاتِ، و"الوَسيلةَ" ما يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى رِضا اللهِ، وهيَ طاعةُ العبدِ لَه ـ سبحانَه وتعالى ـ راغِبًا فيها مُحِبًا لها قاصدًا إليْها. والْوَسِيلَةُ: هِيَ الْقُرْبَةُ كما وَرَدَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ تَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ أَيْ تَقَرَّبْتُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ............... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي
وَالْجَمْعُ الْوَسَائِلُ، قَالَ:
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ............ وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ
وَمِنْهُ يُقالُ: سَألتُ أَسْأَلُ أَيْ طَلَبْتُ، وَهُمَا يَتَسَاءلَانِ أَيْ يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَالْأَصْلُ الطَّلَبُ، وَالْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ بِهَا، وَالْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِهَا فِي قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الوَسيلةَ حَلَّتْ لَهُ الشَفاعَةُ)). فقد جاء في صحيحِ مُسْلِمٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رضي الله عنه: أنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ يقول: ((إذا سَمِعْتُمْ المُؤَذِّنَ فقُولوا مِثْلَما يَقولُ، ثمَّ صَلّوا عليَّ، فإنَّه مَنْ ـ صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليْه بِها عَشْرًا، ثمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الوَسيلَةَ فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أَنْ أَكونَ أنَا هُو، فمَنْ سَأَلَ لِيَ الوَسيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَفَاعَةُ)).
واخْتَلَفَ النَّاسُ حولَ الوَسيلةِ المَنْصوصِ عنها في هذِهِ الآيةِ الكريمةِ، وتَحقيقُ الكلامِ في هذا المَقامِ أنَّ الاسْتِغاثةَ بمَخلوقٍ وجَعْلَهِ وَسيلةً بمَعنى طَلَبِ الدُعاءِ مِنْه لا شَكَّ في جَوازِهِ على أنْ نَعْتَقِدَ أنَّه ـ سبحانَه وتعالى ـ هو الفاعلُ الوحيدُ في الكونِ وليس لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ أنْ يَفْرِضَ عليْه شيئًا أو يُلزِمَهُ بشيءٍ، إنَّما هي كرامةٌ منْه لِمَنْ شاءَ مِنْ عِبادِهِ بأَنْ يَسْتَجيبَ لَهُ دعاءهُ إنْ لَهُ وإنْ لِغَيْرِه وأَنْ يُجْرِيَ على يديهِ الخَيْرَ، كما أَجْرى الهُدى على لِسانِهِ وجَعَلَه قُدْوَةً لِغيرِه وأُسْوَةً لِسِواه، وكلُّ ذلك تفضُّلًا منْه ورَحْمةً، قال ـ تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم} النور: 21. وقال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} البقرة: 105. لا سِيَّما مَنْ خَصَّهُ بِرِسالَتِهِ أوْ وِلايَتِهِ وأَكْرَمَهُ بتَقْواهُ وطاعَتِهِ، فهو ـ جَلَّ في عُلاه ـ لَهُ أنْ يُقرَّبَ مِنْ عِبادِهِ مَنْ شاءَ وأنْ يُكْرِمَ مَنْ شاءَ بِما شاءَ، وقد جَرَتْ عادةُ المُلوكِ أنْ يَجْعَلوا بَعْضَ المُقرَّبينَ منْهم سَبَبًا لِعَطائِهم مُكافأةً لهم على خِدْمَتِهم ودَلالةً على تَقريبِهِم ورِضاهم عنهم، وهكذا فإنَّنا نَفْهَمُ الأَمْرَ مِنْ هذا البابِ وحَسْبُ، كما جاءَ في الحديثِ المُتَّفَقِ عليْه عندَ البُخاريِّ ومُسْلِمٍ مِنْ حَديثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ ـ رضيَ اللهُ عنهما ـ أنَ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ قال: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ ..))، ولَنا في قولِهِ ـ عَزّتْ ذاتُه وتباركتْ أسماؤه وجلَّتْ صفاتُه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} النساء: 64. أَنْصَعُ بيانٍ وأَوْضحُ دَليلٍ وأَقْوى حُجَّةٍ لِما قدَّمْنا وذلك قولُه: {جاؤوك} على طريقةِ الالْتِفاتِ لِقَصْدِ التَفْخيمِ لِشَأْنِ الرسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وتعظيمًا لاسْتِغْفارِهِ وإجلالًا للمَجيءِ إليْه فقدْ أَمَرَ اللهُ ـ سبحانَه ـ كُلَّ مَنْ ظَلَمَ نفسَه فقَصَّرَ في حَقِّ ربِّه وارْتَكَبَ وأَذنَبَ أنْ يَأتيَ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ وأَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ عِنْدَهُ ويَطْلُبَ مِنَ الرَّسولِ أنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ لَه فيَسْتَغْفِر لَه الرسولُ، وجَعَلَ ذلك شَرْطًا لِمَغْفِرَتِهِ ـ تبارك وتعالى ـ فإنَّ كلَّ مَنْ وَعى العربيَّةَ عَرَفَ أنَّ "لَو" معناها أنَّ الشيءَ ممتَنِعٌ لامْتِناعِ غيرِه وتُسْتَقْبَلُ باللامِ جوابًا لها، فوُجْدانُ اللهِ تَوّابًا رَحيمًا مَشروطٌ بإتيانِ الرسولِ واستغفارِهِ بعدَ توبةِ العبدِ واستغفارِه. وليسَ المَجيءُ إلى رسولِ الله ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ من أجلِ المَغْفِرةِ فحَسْبُ، إذْ وَرَدَ في السِيرةِ العَطِرةِ أنَّ الصَّحابةَ كانوا يَأتونَه مُتَوَسِّلين إلى اللهِ بِهِ لِقَضاءِ حاجاتِهم، فقد رَوَى الثِّقاتُ عَنْ عُثْمانَ بْنِ حَنيفٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنْه ـ أنَّ رجلاً ضَريرَ البَصرِ أَتى النَبِيَّ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ فقالَ: ادْعُ اللهَ ـ تَعالى ـ أنْ يُعافيَني، فقال: ((إنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وإنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فهو خيْرٌ لَك))، قال: فادْعُهُ. فأمَرَهُ أنْ يَتَوضَّأَ فيُحْسِنَ الوُضُوءَ ويَدْعُوَ بِهذا الدُعاءِ: ((اللهمَّ إنّي أَسألُك وأَتَوَجَّهُ إليْكَ بِنَبيِّك ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يا رَسولَ اللهِ إنِّي تَوَجَّهتُ بِكَ إلى رَبِّي في حاجَتِي هذِهِ لِيَقْضِيَها لِي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيَّ))، رواهُ التِرْمِذِيُّ وقالَ حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، ونُقِلَ عنْ أَحْمَدَ مثلُ ذلكَ. والمُعَوَّلُ عليْه هُو مَجيءُ الرُّوحِ والنَّفْسِ وتَعظيمُ حَقِّ الرِّسالةِ بالقَلْبِ، إذْ غَنيٌّ عَنِ البَيانِ أنَّهُ لا اعْتِبَارَ لِحُضُورِ الجِسْمِ دونَ اللُّبِّ، لِقولِهِ ـ عليْه الصلاةُ والسَلامُ ـ فيِما رواهُ مُسْلِمٌ: ((إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكم ولا إلى أَجْسامِكمْ ولكنْ يَنْظُرُ إلى قلوبِكم وأَعمالِكم)). فقد حَضَرَ المُشْرِكونَ والمُنافِقونَ مَجَالِسَ سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ بأَجْسامِهم دونَ قلوبِهم، فلم ينتفعوا به، لأنَّ قلوبَهم كانتْ مَريضَةً بِداءِ الشِرْكِ والنِّفاقِ والتَعالي على الحَقِّ، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} البقرة: 10. بينَما حَبَسَ العُذْرُ أُوَيْسَ القُرَنِيَّ فحَضَرَ بقلبِهِ حُضُورَ إيمانٍ بِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وتصديقٍ بِرِسالَتِهِ، حُضُورَ تعظيمٍ وتَجِلَّةٍ لِحَقِّ الرِسالةِ، فكان سيِّدَ التابعينَ بشهادتِه ـ عليْهِ الصلاةُ والسلامُ ـ كما جاءَ في الصحيحين عن عُمَرَ ابْنِ الخطّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ ـ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ يَقول: ((إنَّ خَيْرَ التابعينَ يُقالُ لَه أُويْسُ القُرَنِيُّ ..)) المُسْتَدْرَكُ على الصَحيحيْن للحاكِمِ مَعَ تعليقاتِ الذَّهَبِيِّ في التَلْخيصِ: (3/ 456).
وإذا كان المعوَّلُ عليْه ـ كما قدَّمْنا ـ هو حُضورَ القلْبِ بالتَعْظِيمِ والتَجِلَّةِ لِمَقامِ الرِسالةِ فلا فرقَ إذًا بيْنَ أَنْ يَكونَ الرسولُ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ حَيًّا أوْ في عالَمِ البرزخِ، فالرِّسالةُ قائمةٌ والمُنْعِمُ بالمَغْفِرةِ وغيرِها هو الحَقُّ ـ سُبْحانَه ـ وليْس الرَّسولُ أوْ غيرُه، وإنَّما الجَميعُ هُمْ مُفْتَقِرونَ لِرَحْمَةِ اللهِ ومَغْفِرَتِهِ وعَفْوِهِ. فقدْ وَرَدَ عنِ ابْنِ مَسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْه، مَرفوعًا: ((حياتي خيرٌ لَكمْ، ووَفاتِي خيرٌ لَكم، تُعرَضُ عليَّ أَعمالُكم، فما رأيتُ مِنْ خيرٍ حَمَدْتُ اللهَ عليْه، وما رأيتُ مِنْ شَرٍّ استغفرتُ اللهَ لَكُم .. )). قال الإمامُ القَسْطلانِيُّ في إرشادِ السارِي لِشَرْحِ صَحيحِ البُخاري (2/440). ورُواةُ هذا الحَديثِ كلُّهم مِصريُّون، وهو مِنْ أَصَحِّ الأَسانيدِ. وقال الإمامُ الزُرْقاني: رَواهُ البَزَّارُ بإسنادٍ جيِّدٍ. شَرْحُ الزُرقاني (1/ 97)
وإذا كان تعظيمُ الرَّسولِ مِنْ تَعظيمِ مُرْسِلِهِ، فهو واجبٌ شَرْعًا على
كُلِّ مُؤمِنٍ باللهِ ورَسُولِهِ إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْها، قالَ اللهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ العزيز: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ..} الفتح: 9. فـ "تُعَزِّروهُ" أي تَنْصُرونَه و"تُوَقِّروهُ" أي تحترِمونَهُ وتُجٍلُّونَه وتُبِجِّلونَه، ولم يُفرِّقِ اللهُ بينَه وبيْنَ رَسُولِهِ في هذا الأمرِ الواجِبِ، فنُصْرَةُ اللهِ بنُصْرَةِ رَسولِهِ ونُصْرَةِ دِينِهِ شَرْعِهِ، وكذلكَ تَوقيرُه، وكَمْ مِنْ حُرُوبٍ نَشِبَتْ بيْنَ قبيلتينِ أوْ دَوْلتين بِسَبَبِ إساءةٍ تَعَرَّضَ لَها رَسُولٌ أَوْ مُمَثِّلٌ أوْ سَفيرٌ، وما العَزيزُ المَجيدُ بأقلَّ حِرْصًا على رسولٍ أَرْسلَهُ أوْ وَلِيٍّ اتَّخَذَهُ، فقد خَرَّجَ البُخاريُّ عنْ أَبي هُريرَةَ قالَ، قالَ رسولُ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ: ((إنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وتَعالى ـ قالَ: مَنْ عادى لِي وَلِيًّا (وفي رِوايَة مَنْ أَهانَ لِي وَلِيًّا) فقدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها، ورجلَهُ التي يَمْشي بِها، ولِئِنْ سَأَلَني لأُعْطِيَنَّه، ولَئِنْ اسْتَعاذَني لأُعيذَنَّه، وما تَرَدَّدْتُ عنْ شيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ وأَنَا أَكْرَهُ مَساءتَه)). صحيح البُخاري برقم (6502). وفي روايةٍ وإنِّي لأَغضَبُ لأَولِيائي كما يَغْضَبُ الليثُ الجَريءُ لِجَرْوِهِ.
بَلْ قدْ يَطْلُبُ الفاضِلُ مِنَ المَفْضولِ، فقدْ صَحَّ أنَّهُ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ قالَ لِعُمَرَ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنْهُ ـ لمّا اسْتَأْذَنَه في العُمْرَةِ: ((لا تَنْسَنا يا أخي مِنْ دُعائكَ)) فقد روى الترمذيُّ وابنُ ماجةَ وأحمدُ وأبو داوودَ والبيهقيُّ وغيرهم، عن عمرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: (إستأذنتُ النَبِيَّ في العمرةِ فأذِنَ وقال: ((لا تَنْسَنا يا أخي مِنْ دُعائكَ)) فقالَ كَلِمَةً ما يَسُرُّني أَنَّ لي بِها الدُنْيا، وفي روايةٍ، قال: ((أَشْرِكْنا يا أَخي في دُعائك)) قال التِرْمِذِيُّ: حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ. وأمره أيضاً أنْ يطلب من أُويس القرني رضيَ الله تعالى عنه أن يستغفر له، فقد خرج مسلم أنَّ عُمَرُ بن الخطاب ـ رضيَ اللهُ عنه ـ قال، إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ رَجُلاً يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ لاَ يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ)). صحيحُ مسلمً (7/ 188).
وإذا وَجَبَ هذا في حَقِّ الأَنبياءَ فإنَّه كذلكَ في حَقِّ العُلَماءِ والأولياءِ، بما كان لهم مِنْ حَظٍّ مِنَ الإرْثِ النَبَويِّ الشَريفِ، وما يَحمِلون مِن رِسالَةِ اللهِ وشَرْعِهِ يُعَلِّمونَه للنَّاسِ، فقد تابَعوا وظيفةَ الأَنْبياءِ في هِدايَةِ البَشَرِ وتعليمِهم فحَمَلوا رَسالتَهمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، فالتَقديرُ مُنْصَبٌ على ذلك، والكَرامةُ دَخَلِتْ عليْهم مِنْ هذا البابِ، فقدْ قالَ اللهُ ـ تعالى ـ في حقِّهِم: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}، آل عمران: 18. فقرِن اسْمَ العُلماءِ باسْمِ مَلائكتِهِ كما قَرَنَ اسْمَ المَلائكةِ باسْمِهِ، فكَما وَجَبَ الفَضْلُ للمَلائكةِ بِما أَكْرِمَهُمْ بِه فَكذلك يَجِبُ الفَضْلُ للعُلَماءِ بِما أَكْرَمَهمُ بِه مِنْ مِثْلِه، وقال ـ سبحانَه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر: 28. فأَبانَ أَنَّ خَشْيَتَهُ إنَّما تَكونُ بالعِلْمِ، وقال ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب} الزمر: 9. وقالَ لِرسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ مُمْتَنًّا عليه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} النساء: 113. وقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يوسف: 76. وقالَ يَزيدُ مَنْ أَسْلَمَ بالعِلْمِ، وقال: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة: 11.
وقال في حقِّهم نَبيُّهم ـ عليْه الصَلاةُ والسَلامُ: ((العلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ)). قالَ فيهِ الحافظُ العِراقيُّ (وهو حديثٌ صَحيحٌ) فيْضُ القدير: (4/ 504). وهو جُزْءٌ مِنْ حَديثٍ طويلٍ خرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ في فضلِ العِلْمِ والعلماءِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ العالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَمواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وافرٍ)). وأَخرجَه كذلك أحمدُ، وأبو داوودَ، وابنُ ماجةَ، وابنُ حِبَّانَ، والبيهَقيُّ في شُعَبِ الإيمان، وفي رواية: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ إِذَا مَاتُوا إِلَى يَوْمِ القيامة)). و((فَضْلُ العالِمِ على العابِدِ كَفَضْلي على أَدناكم)). وفي روايةٍ لأبي يَعلى وابنِ عَساكرَ: ((مَنْ خَرَجَ يُرِيدُ عِلْمًا يَتَعَلَّمُهُ، فُتِحَ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَفَرَشَتْ لهُ الْمَلاَئِكَةُ أَكْنَافَهَا، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ، وَحِيتَانُ الْبُحُورِ، وَلِلْعَاِلِم مِنَ الْفَضْلِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ، الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّهُمْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ، مَوْتُ الْعَالِمِ مُصِيبَةٌ لاَ تُجْبَرُ، وَثُلْمَةٌ لاَ تُسَدُّ، وَهُوَ نَجْمٌ طُمِسَ، مَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ)). وعن عُبادةَ بنِ الصامتِ ـ رضيَ اللهُ عنْه ـ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ قال: ((ليس مِنَّا مَنْ لَم يُجِلَّ كبيرَنا، ويَرْحَمَ صَغيرَنا، ويَعرِفَ لعالَمِنا حَقَّه)). أَخْرجَهُ البُخاريُّ في التاريخِ الكبيرِ (7/312)، وأخرَّجَه: (أَحمدُ، والطَبَراني، والحَكيمُ التِرْمِذيُّ، والعَسْكَرِيُّ، والطبريِّ، والحاكمُ، وغيرُهم)
وقال المُنذِرِيُّ والهيثميُّ: إسنادُه حسنٌ.
وعن جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((يُبْعَثُ العالِمُ والعابِدُ فيُقالُ للعابِدِ ادْخُلِ الجَنَّةَ ويُقالُ للعالِمِ اثْبُتْ حتَّى تَشْفَعَ للنَّاسِ بِما أَحْسَنْتَ أَدَبَهم))، شُعَبُ الإيمان، البيهقي: (2/ 268)
وعن عثمانَ بْنِ عَفَّانَ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ قال: ((يَشْفَعُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ: الأَنْبياءُ ثمَّ العُلَماءُ ثمَّ الشُهداءُ))،
سُنَنُ ابْنِ ماجةَ: (ج2/ص1443 ح4313).
وإنَّما سُمِّيَ العُلَماءُ وَرَثَةَ الأَنْبياءِ، لِقولِهِ ـ تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} فاطر: 32. ولقولِهِ ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ: ((أُتِيتُ بقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ، ثمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ)). قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((الْعِلْمُ)). شرحُ السُنَّةِ للبَغَوِيِّ: (12/ 245). وشرحُ صحيحِ البُخاري ـ لابْنِ بَطَّال: (1/ 152).
وكذلك فإنَّ للصلاحِ والتقوى وزنُهُ عندَ اللهِ وكَرامَتُهُ، فقدْ حَفِظَ اللهُ الكَنْزَ للغُلاميْنِ اليَتيميْن لأنَّ أَبوهُما كان رَجُلًا صالحًا، قال ـ تعالى:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الكَهفُ: 82. وفرَّجَ الكَرْبَ عنِ الثلاثةِ الذين حُبِسوا في الكَهْفِ بصخْرةٍ كَبيرةٍ وأَزاحَها اللهُ عنهم بِسبَبِ عملٍ صالِحٍ لِكُلٍّ منْهمْ دَعا اللهَ بِهِ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِيمَا سَلَفَ مِنْ النَّاسِ انْطَلَقُوا يَرْتَادُونَ لِأَهْلِهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ السَّمَاءُ، فَدَخَلُوا غَارًا فَسَقَطَ عَلَيْهِمْ حَجَرٌ مُتَجَافٍ حَتَّى مَا يَرَوْنَ مِنْهُ حُصَاصَةً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قَدْ وَقَعَ الْحَجَرُ، وَعَفَا الْأَثَرُ وَلَا يَعْلَمُ بِمَكَانِكُمْ إِلَّا اللهُ فَادْعُوا اللهَ بِأَوْثَقِ أَعْمَالِكُمْ، قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِي وَالِدَانِ فَكُنْتُ أَحْلِبُ لَهُمَا فِي إِنَائِهِمَا فَآتِيهُمَا فَإِذَا وَجَدْتُهُمَا رَاقِدَيْنِ قُمْتُ عَلَى رُءُوسِهِمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ أَرُدَّ سِنَتَهُمَا فِي رُءُوسِهِمَا حَتَّى يَسْتَيْقِظَا، مَتَى اسْتَيْقَظَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَجَاءَ رَحْمَتِكَ، وَمَخَافَةَ عَذَابِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا، فَزَالَ ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَأَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ وَأَنَا غَضْبَانُ فَزَبَرْتُهُ، فَانْطَلَقَ فَتَرَكَ أَجْرَهُ ذَلِكَ، فَجَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ حَتَّى كَانَ مِنْهُ كُلُّ الْمَالِ فَأَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَمْ أُعْطِهِ إِلَّا أَجْرَهُ الْأَوَّلَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَجَاءَ رَحْمَتِكَ وَمَخَافَةَ عَذَابِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، قَالَ فَزَالَ ثُلُثَا الْحَجَرِ وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ أَعْجَبَتْهُ امْرَأَةٌ فَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَفَرَّ لَهَا نَفْسَهَا، وَسَلَّمَ لَهَا جُعْلَهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَجَاءَ رَحْمَتِكَ وَمَخَافَةَ عَذَابِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَزَالَ الْحَجَرُ وَخَرَجُوا مَعَانِيقَ يَتَمَاشَوْنَ)). مُسْنَدُ أحمدَ بنِ حَنْبَلَ: (3/ 142) ومُسْنَدُ البَزَّارِ: (2/ 340) قال شُعَيْبُ الأَرْنَؤوط: إسنادُهُ صَحيحٌ على شَرْطِ الشَيْخيْن.
ثمَّ إنَّ مجالسةَ العلماء والصلحاء أمر ندبه الشرع الحنيفُ لما فيه من الانتفاع بعلمهم والتأسّي بهم والتأثّرِ بِحالِهم قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف: 28. وقال ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((اغْدُ عالِمًا أوْ مُتَعَلِّمًا أوْ مُسْتَمِعًا أوْ مُحِبًّا ولا تَكُنِ الخامسَ فتَهْلِكْ)) رواه البخاريُّ في التاريخِ الكبيرِ، والبَيْهَقِيُّ فى شُعَبِ الإيمانِ عنْ أبي بَكْرَةَ عن أبيْه) وقالَ الهَيثميُّ (1/122): رَواهُ الطَبَرانيُّ في الثلاثةِ، والبَزّارُ، ورِجالُه مَوثوقون.
واشْتُرِطَ لقبولِ التوبةِ صحبةُ الصالحينَ وهجرُ قرناء السوءِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عنه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: {أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، سَأَلَ: هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ ؟ فَجَاءَ عَابدًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَك، فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً. ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَسُدُّ عَلَيْك بَابَ التَّوْبَةِ؟ ائْتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. فَمَشَى إلَيْهَا، فَحَضَرَهُ الْأَجَلُ فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؛ فَأَوْحَى اللهُ أَنْ قِيسُوا إلَى أَيِّ الْأَرْضَيْنِ هُوَ أَقْرَبُ، أَرْضُهُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ؟ فَأَلْفَوْهُ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَقَاسَمُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ دَنَا بِصَدْرِهِ)).
وقد أشار ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ إلى التأثرِ الروحي بحالِ الطائعِ
أو العاصي فيما رواه البخاريُّ عَنْ أَبِي مُوْسَى الأشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)). ورواه مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ أَبِي أُسَامَة.
والمعوَّلُ عليْه مِنْ هذه المَعِيَّةِ ـ كما قَدَّمْنا ـ هو الحضورُ القلبيُّ والعَلاقةُ الروحيَّةِ بسيِّدِنا رَسُولِ اللهِ والعُلَماءِ العاملين والأولياءِ الصالحينَ مِنْ عِبادِ اللهِ الذين كرَّمَهُم وفضَّلهم، وإنَّ في التوجُّهِ القلبيِّ إلى اللهِ ـ تبارك وتعالى ـ وسؤالِهِ الفضلَ والرحمةَ والمَغفِرَةَ بمحبتِهِ لهم، وجاهِهِمْ عندَه، مَعَ اعتقادِ النَّفْعِ مِنْه ـ سبحانَه ـ وحدَهُ لا شريك له ولا نِدَّ ولا كُفءَ، لا ضيرَ فيه، وإنّما هو مِنْ بابِ اسْتِمرارِ الرِّباطِ بيْنَ قلبِه ورُوحِهِ وهذِه الأَرواحِ الطاهرةِ، وفي ذلكَ تَقْوِيَةٌ لِرابِطِ المَحَبَّةِ لِمَا اتَّصفوا بِهِ مِنْ صِفاتٍ، وما قدَّموهُ مِنْ صالحِ الأعْمالِ، وكُرْهٌ للسُوءِ، وهَجْرٌ لأَهْلِهِ، وقَطْعٌ لِما يَرْبِطُهُ بهم. وعليْهِ فإنَّ ذلك يَستَوي في حالِ حَياتِهم وبَعدَ انْتِقالِهمْ إلى الرَّفيقِ الأعْلى، لأنَّه لا اعْتِبارَ عندَنا لِعَلاقَةِ الأَجْسامِ بَلْ لِعَلاقَةِ الأَرْواحِ، والرُّوحُ خالدةٌ لا تَفنَى، وإذا كان لم ينقل عن صحابةِ سيدنا رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ ولا عن السَلَفِ الصالحِ أَنَّهم أتَوا قبرَهُ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وسألوهُ حاجَةً مِنْ حوائجِهم، فمَنْ يَستطيعُ أنْ يَزعمَ بأنَّهم لم يَفعَلوا ذَلكَ بقلوبِهم وأَرواحِهِمِ العامِرَةِ بحبِّهِ، المُنَوَّرَةِ بالصَلاةِ عليْه والحُضُورِ معَه في عالَمِ الرُّوحِ والقَدَاسَةِ، صلى الله عليْه وسَلَّمَ، واللهُ أَعْلم.
قولُه: { وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ } مع أعدائكم بما أمكنكم .
قولُه: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد .
قولُه تعالى: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلةَ} إليْهِ: مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ قبلَه. أو مُتَعَلِّقٌ بنفسِ الوَسيلة، لأنَّها بمَعْنَى المُتَوَسَّلِ بِهِ، فلِذلكَ عِمَلَتْ فيما قبلَها يَعني أَنَّها لَيْسَتْ بِمَصْدرٍ حتَّى يَمْتَنعَ أَنْ يَتقدَّمَ مَعْمُولُها عليها. وقيل يُمْكِنُ أنْ يُعَلَّقَ بمَحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنَ "الوسيلة" وليسَ بذاك.