حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (3)
قَوْلُهُ تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} شُروعٌ في تفصيلِ المُحرَّماتِ التي أَشارَ إليْها ـ سبحانَه ـ بقولِه {إلَّا ما يُتلى عليكم} بالإجمالِ، وحاصلُ ما ذُكِرَ في هذا البَيانِ أَحَدَ عَشَرَ شيئًا كلُّها مِنْ قَبيلِ الطُعومِ إلَّا الأَخيرَ، وهو الاسْتِقْسامُ بالأَزلام.
قولُه: {المَيْتَةُ} المُرادُ به البَهيمةُ التي تَموتُ حَتْفَ أَنْفِها مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَلاَ اصْطِيَادٍ فيَحرُمُ أَكلُها وَذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنَ المَضَرَّةِ، لبقاءِ بَعضِ المَوادِّ الضارَّةِ في جِسْمِها، والتي من شأنها أنْ تَخرُجَ مع الدمِ في حال الذبح. وقد أَجْمعَ العلماءُ على حُرْمَةِ أَكْلِ المَيْتَةِ، أَمَّا شعرُها وعَظْمُها فقال الأَحنافُ بِطارَتِهما وبِجوازِ الانْتِفاعِ بِهِما. وقال الشافعيَّةُ بِنَجاسَتِهما وبعدَمِ جَوازِ اسْتِعمالِهِما.
وقد اسْتثنى العلماءُ مِنَ المَيْتَةِ المُحرَّمةِ السمَكَ وغيرَه مِنْ حَيَواناتِ البَحرِ والجَرادَ. والحِكْمَةُ في تحليلِ السَمَكِ والجَرادِ هي عدمُ وُجودِ نفسٍ سائلةٍ فيهما ، فليس في لَحمِهما دَمٌ سائلٌ، وعندما نَقطَعُ سَمَكَةً أو جَرادةً لا يَنْزِلُ منها دمٌ سائلٌ كما هو الحالُ في سواها كالبقرِ مثلًا. ولا يُوجَدُ الدم في السمكة إلَّا في الأغشيَةِ التي في الرأسِ ولا يُوجَدُ في شُعَيْراتِه. وعندما يموت السمك ويُؤكَلُ فلا خَطَرَ منْه، وكذلك الجرادُ. فقد أخرجَ البُخاريُّ ومُسلِمٌ وغيرُهُما مِن حديثِ ابْنِ أبي أَوْفى، قال: (غَزَوْنا مَعَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ سَبْعَ غَزَواتٍ نَأْكُلُ الجَرادَ}. وأخرجا ـ أيْضًا ـ مِن حديثِ جابرٍ، (إنَّ البحرَ أَلْقى حوتًا ميْتًا فأكَلَ منْه الجَيشُ. فلمَّا قَدِموا ذكروا ذلك للنَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: فقال: ((كُلوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللهُ لكم: أَطْعِمونا منْه إنْ كان معَكم)). فأتاهُ بعضُهم بشيءٍ منْه).
وعن ابْنِ عُمَرَ قال: قال رسول اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ: ((أُحِلَّ لنا مَيْتتان ودَمان، فأمَّا المَيْتَتان فالسَمَكُ والجَرادُ. وأمَّا الدَمان فالكَبِدُ والطِحالُ)). رواه الشافعي وأحمدُ وابنُ ماجةَ والبَيْهقيُّ والدار قطني مرفوعًا وفي إسناده مقالٌ، ويقوِيه حديثُ ((وهو الطهورُ ماؤهُ والحِلُّ مَيْتَتُه)) وهو عندَ أحمدَ وأهلِ السُنَنِ وغيرِهم، وصَحَّحَه جماعةٌ منهم ابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبَّان.
ومِنْ أكلِ المَيْتَةِ أنْ تَتناولَ مِنْ عِرْضِ أَخيكَ على وجهِ الغِيبَةِ، وهو أكثرُها ضررًا وفسادًا، وليس ذلك ممَّا فيه رخصةٌ بحالٍ لا بالاضْطِرارِ ولا بالاختيارِ، وغيرُ هذا مِنَ المَيْتَةِ مباحٌ في حالِ الضَرورةِ. قال تعالى: {أَيُحِبُّ أحدُكم أنْ يأكُلَ لَحْمَ أَخيه مَيْتًا فكرهتموه} الحجرات: 12.
قولُه: {والدَمُ} أيْ الدَمُ المَسفوحُ مِنْه، فإن الدَمَ المَسفوحَ، دون ما
كان منه غيرَ مَسفوحٍ، لأنَّ اللهَ ـ جَلَّ ثَناؤه قال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ} سورة الأنعام: 145، وكان أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَجْعلونَ الدَمَ المَسْفوحَ في المَباعِرِ ويَشْوُونَهَ ويَأْكُلونَه. وحُرِّمَ الدَمُ لأنَّه ضارٌّ، إذْ إنَّه يَعْسُرُ هَضْمُه، وهو سريعُ التَعَفُّنِ والفَسَادِ، ويَحمِلَ الكَثيرَ مِنْ جَراثيمِ الأَمراضِ، ولا يُمْكِنُ تَنْقِيَتُه مِنَ هذه الجَراثيمِ بِغَلْيِهِ على النارِ كاللَّبَنِ، لذلك فإنَّ الأَطباءَ ـ اليومَ ـ عندما يَأخُذونَ الدَمَ مِنْ مُتَبَرِّعٍ بِه لآخَرَ هو بحاجةٍ إليْه، بعدَ تحليلِهِ والتَأَكُّدِ من صلاحيتِهِ وخُلُوِّهِ مِنَ الأمْراضِ، فإنَّهم يَحفظونَه بِسُرعَةٍ في ثلَّاجاتٍ خاصَّةٍ حتّى لا يَفْسُدَ، حيثُ يُنْقَلُ إلى الإنسانِ محفوظًا مَصونًا مِنْ غيرِ أنْ يَتَعَرَّضَ للهواءِ ليعوِّضَه عمَّا فَقَدَهُ نتيجةَ حادثٍ أو مرضٍ أو إجراءِ عملٍ جِراحيٍّ، ولكنَّه لَا يمكنُ أنْ يَكونَ غذاءً يُتَناوَلُ عن طريقِ الفَمِ، ويَمُرُّ على الجِهازِ الهَضْمِيِّ، إذْ إنَّه لَا يَكون قابِلًا للتَمَثُّلِ في الجِسْمِ، فوقَ ما يَسري إليه مِنْ جَراثيمَ تُفسِدُه، كما أنَّ النفسَ تَعافُه فِطْرِيًّا. وهذا مِنَ الأَدِلَّةِ العِلْميَّةِ القاطعةِ على إعْجازِ القُرآنِ الكَريمِ وأنَّه من عند اللهِ العزيزِ الحَكيمِ العالِمِ بحَقائقِ الأشياءِ جميعِها، فقدْ نَزَلَ هذا الحُكْمُ في عصرٍ لم يكنِ الإنسانُ قدْ تَوصَّلَ فيه إلى اكْتِشافِ هذه الحقائقَ ولا عَرَفَ هذه المعلوماتِ، ولا كانتْ لديْه مثلُ هذه المُخْتَبَرات، فأمَّا ما كان قدْ صارَ في مَعنى اللَّحْمِ، كالكَبِدِ والطِّحالِ، وما كان في اللَّحْمِ غيرَ مُنْسَفِحٍ، فإنَّه غيرُ محَرَّمٍ، للإجْماعِ على ذلك، كما أنَّ عُلَماءَ الطبِّ لم يكتشفوا فيه ما في الدَمِ السائلِ مِنْ جَراثيمَ وأَمراضٍ، لأنَّه عبارةً عن كُرَيَّاتِ دَمٍ حَمراءَ مُسْتَهْلَكَةٍ لا حَياةَ فيها، ولا يُمكِنُ للجراثيم أنْ تعيشَ في هذا الوسَطِ المُتَجَمِّدِ، وإنْ كان عَسِرَ الهَضْمِ قَليلَ الفائدةِ، لا سيَّما الطحالُ الذي كَرِهَ أكلَه كلٌّ مِنْ سَيِّدِنا عَليٍّ وعبدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ فيما رُويَ عنهما ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما، لكنَّ الشيعةَ الإماميّةَ يُحرمونَهما مُطلَقاً، وقدْ تقدَّم قولُه ـ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ: أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتانِ ودَمان، والدَمان هما الكَبِدُ والطحالُ، وقولُه تعالى: {دمًا مسفوحًا} فقد حدَّدَ صفتَه بأنَّه مسفوح فخرج بذلك غيرُه، والكَبِدُ والطِّحالُ دَمٌ غيرُ قابلٍ للسَفْحِ، ولذلك فالأَكثرون على إباحةِ الطحالِ. وهو ديدنُ الشيعةِ في مخالفةِ ما عليه جماعةُ المسلمين، متعلِّقين بأسبابٍ واهيةٍ أو ملفقةٍ، ليشقوا صفَّ المسلمين ويفارقوا جماعتَهم.
قولُه: {ولحم الخنزير} قيلَ كلُّه نَجِسٌ، وإنَّما خَصَّ اللَّحمَ بالذكرِ لأنَّه المَقصودُ بالأكلَ، ولحمُ الخِنزيرِ حَرامٌ لأنَّه مُسْتَقْذَرٌ، تَعافُه الفِطْرَةُ كالمَيْتَةِ والدَمِ، لأنَّه يُلازِمُ القاذوراتِ ويَتغذَّى منها، ولِهذا المَعْنَى حُرِّمَتِ البَهائمُ الجَلَّالَةُ التي تَأْكُلُ الجَلَّةَ وتَتَغَذَّى بِها، فقد رُوى الترمذيُّ وابْنُ ماجةَ وأبو داوود عنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّه قال: (نَهى رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ عن أَكْلِ الجَلّالَةِ وأَلْبانَها) وهذا النَّهْيُ للكَراهَةِ عندَ بعضِ الأئمَّةِ، وللتَحريمِ عندَ الآخرين، وقالوا: لَا تُؤكَلُ حتّى تُحْبَسَ، وكان ابْنُ عُمَرَ يَحْبِسُ الدَّجاجةَ ثلاثًا، ولا يَرى بِأكْلِها بعدَ ذلك بأسًا. وإنَّ المَقْصِدَ مِنْ ذلكَ ألَّا يَأكُلَ المُؤمِنُ إلَّا طَيِّبًا لَا خَبَثَ فيه.
وإنَّ كونَ لحمِ الخِنْزيرِ ضارًا فهو أمرٌ قدْ قرَّرَه الطِبُّ، فلَحمُه يُوَلِّدُ كثيرًا مِنَ الدِيدانِ، كالدودَةِ الوَحيدةِ التي تضعُ بيوضَها في أنسجتِه فإذا تناول الإنسانُ هذه اللحومَ فقست في بطنه تلك البيوضُ، وكالشَعْرَةِ الحَلَزونيَّةِ التي تَجيءُ إليْه مِنْ أَكْلِ الجُرْذانِ المَيْتَةِ، كما أنَّ لحمَه عَسِرُ الهَضمِ ولَا تَكادُ النفسُ تَسْتَسيغُه.
وقد خَصَّ لحمَ الخِنزيرِ بالذِكْرِ دونَ لَحْمِ الكَلْبِ وسائرِ السِّباعِ لأنَّ كثيرًا مِنْ الكُفّارِ قد ألِفوه دونها، كما أنَّ سائرَ الحيوانات المُحَرَّمِ أكلُها إذا ذُبِحَتْ كانَ لَحمُها طاهرًا لا يُفْسِدُ الماءَ إذا وَقَعَ فيه وإنْ لمْ يَحِلَّ أكلُهُ بِخِلافِ لَحْمِ الخِنْزيرِ، كما قالَ العلماءُ بأنَّ الغِذاءَ يَصيرُ جُزْأً مِنْ جَوْهَرِ المُغْتَذي، ولا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ لَه أخلاقٌ وصفاتٌ مِنْ جِنْسِ ما كان حاصلًا في الغِذاءِ، والخِنزيرُ مَطْبوعٌ على حِرْصٍ عَظيمٍ ورَغْبَةٍ شديدةٍ في المُشْتَهَياتِ فَحُرِّمَ أكلُه على الإنسان لِئلَّا يَتكيَّفَ بِتِلكَ الكَيْفِيَّةِ، والدياثةُ وعدمُ غيرة الخنزير على أنثاه مِنْ جُملَة خبائثه، فانَّه يَرى غيره من الذُكْرانِ الخنازيرِ يَنزو على أنثاه ولا يدافع عنها، فأكلُ لَحمِه يُورِثُ الدياثةَ وعدمَ الغِيرةِ، وهو أمرٌ ملاحظٌ بوضوحٍ في المجتمعات التي تأكلُ لحمَه.
قولُه: {وما أُهِلَّ لِغيرِ اللهِ بِه} أيْ ما ذُكِرَ على ذَبْحِهِ أو عندَ ذَبْحِهِ غيرُ اسْمِ اللهِ تعالى، والإهلالُ رَفْعُ الصوتِ لِغَيْرِ اللهِ، كأنْ يَقولَ باسْمِ اللَّاتِ والعُزَّى ونحوَ ذلك، فيدخُلُ فيه ما يذبحُ في العادةِ للزعماء والرؤساء، رياءً ونِفاقًا وتعظيمًا لهم وتقرُّبًا وزُلفى، فحرَّمَ اللهُ ذلك كلَّه بهذِه الآيةِ الكريمةِ وبِقولِه: {ولا تأكُلوا ممَّا لمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عليْه} الأنعام: 121. وظاهر الآيةِ أنَّه يَحرُمُ كلُّ ما ذُبِحَ لِغيرِ اللهِ سواءٌ لُفِظَ بِه أوْ لَم يُلْفَظْ، وما ذَبَحناه متقرِّبين بِه إلى اللهِ، أو ذكرنا عليْه اسْمَه ـ سبحانَه ـ كان أزْكى، فقد قام جماعةٌ مِنَ الأطِبّاءِ المُسْلِمين المُتَخَصّصين بإجراءِ تَجارُبَ مِخبَريَّةً على عَيِّناتٍ مِنْ لُحومِ ذَبائحَ ذُكِرَ عليها اسمُ اللهِ ـ تعالى ـ وأُخرى لم يُذكر عليْها عندَ ذبحِها اسمُه ـ سبحانَه وتعالى ـ فكانت نسبَةُ الأُكْسجين في التي ذُكِرَ عليها اسمُه الكريمُ أكثرَ، وكانت أنْقى وكان لونُها أصْفى وأَنْضرَ، وقد عَرَضوا ذَلك على شاشاتِ الرائي فَشاهدْتُه بأُمِّ عيْني كما شاهدَتْه الآلافُ المُؤلَّفَةُ، وهذا بِبَرَكَةِ ذكرِ اسْمِه الجَليلِ، تَبَارَكتْ أسماؤه.
قَوْلُهُ: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا، وَهُوَ حَبْسُ النَّفَسِ سَوَاءٌ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ آدَمِيٌّ أَوِ اتَّفَقَ لَهَا ذَلِكَ فِي حَبْلٍ أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ أَوْ نَحْوُهُ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ وَغَيْرَهَا فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ .
قَوْلُهُ: {وَالْمَوْقُوذَةُ} الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي تُرْمَى أَوْ تُضْرَبُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تستَرْخِي وتَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، ومثلها التي تُقتلُ اليومَ في مَسالِخِ الغربِ بصدمِها بتيارٍ كهربائيٍّ ثمَّ تُسْلَخُ آليًّا وتقطعُ وتُعلَّبُ. وَالْوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُونَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا فَيَأْكُلُوهَا، وَمِنْهُ الْمَقْتُولَةُ بِقَوْسِ الْبُنْدُقِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
شَغَّارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ........................ فَطَّارَةٌ لِقَوَادِمِ الْأَبْكَارِ
الشَغَّارَةُ: هي النَّاقةُ تَرْفَعُ قوائمَها لِتَضْرِبَ. الفَطْرُ: الحَلْبُ بالسَبَّابةِ والوُسْطى ويَستَعينُ بِطَرَفِ الإبْهامِ. وخَلَفا الضَرعِ المُقدَّمان: هما القادمان وجمعُه القَوادِمُ. والأبْكارُ تُحْلَبُ فَطْرًا لأنَّه لا يُسْتَمْكَنُ أنْ تُحلَبَ ضَبًّا لِقِصَرِ الخَلَفَ لأنّها صِغارٌ.
وَفِي صَحِيحِ البخاري ومُسْلِمٍ وغيرِهما عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولُ اللهِ فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ (المِعراضُ: سَهْمٌ يُرمى بِه بِلا رِيشٍ وأَكْثَرُ ما يُصيبُ بِعَرْضِ عودِهِ دونَ حَدِّهِ) الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، فَقَالَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ (أي نفذَ فسال الدمُ) فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ)). وَفِي رِوَايَةٍ ((فَإِنَّهُ وَقِيذٌ)). واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الصَّيْدِ بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَقِيذٌ لَمْ يُجِزْهُ إِلَّا مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَخَالَفَهُمُ الشَّامِيُّونَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمِعْرَاضِ، كُلْهُ خَزَقَ أَوْ لَمْ يَخْزِقْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وفضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللهِ بنُ عُمُرَ وَمَكْحُولٌ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَفِيهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَفِيهِ: ((وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ)).
وأمَّا البنادقُ المَعروفةُ اليومَ وهي بنادِقُ الحديدِ التي يُجعَلُ فيها البارودُ والرَّصاصُ ويُرمى بها فلمْ يَتَكَلَّمْ عليها أهلُ العِلْمِ لِتَأَخُّرِ حُدوثِها فإذا ماتَ المصيدُ بها ولم يَتمكَّنِ الصائدُ مِنْ تَذكيَتِهِ حَيًّا، فأنَّها تَدْخُلُ في الحديثِ الصحيحِ السابقِ: ((إذا رَمَيْتَ بالمِعراضِ فَخَزَقَ فكُلْهُ))، فاعتَبرَ الخَزْقَ في تحليلِ الصيدِ، لذلك فإن سال دمُها ذَكَتْ وإلَّا فلا واللهُ أعْلمُ.
قَوْلُهُ: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} الْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ فَتَمُوتُ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَهِيَ مُتَفَعِّلَةٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بِنَفْسِهَا أَوْ رَدَّاهَا غَيْرُهَا. وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ إِلَى الْأَرْضِ حَرُمَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ بِالصَّدْمَةِ وَالتَّرَدِّي لَا بِالسَّهْمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ ((وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَأْكُلُ الْمُتَرَدِّيَ وَلَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ مَيْتَةً إِلَّا مَا مَاتَ بِالْوَجَعِ وَنَحْوِهِ دُونَ سَبَبٍ يُعْرَفُ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْبَابُ فَكَانَتْ عِنْدَهَا كَالذَّكَاةِ، فَحَصَرَ الشَّرْعُ الذَّكَاةَ فِي صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهَا، وَبَقِيَتْ هَذِهِ كُلُّهَا مَيْتَةً، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ الَّتِي فَاتَ
نَفَسُهَا بِالنَّطْحِ وَالْأَكْلِ.
قَوْلُهُ: {وَالنَّطِيحَةُ} النَّطِيحَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ، وَهِيَ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَمُوتُ قَبْلَ أَنْ تُذَكَّى. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ النَّطِيحَةَ بِمَعْنَى النَّاطِحَةِ، لِأَنَّ الشَّاتَيْنِ قَدْ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ. وَقِيلَ: نَطِيحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ نَطِيحٌ، وَحَقُّ فَعِيلٍ لَا يُذْكَرُ فِيهِ الْهَاءُ كَمَا يُقَالُ: كَفٌّ خَضِيبٌ وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، لَكِنْ ذَكَرَ الْهَاءَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْهَاءَ إِنَّمَا تُحْذَفُ مِنَ الْفَعِيلَةِ إِذَا كَانَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَنْطُوقٍ بِهِ، يُقَالُ: شَاةٌ نَطِيحٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ أَثْبَتَّ الْهَاءَ فَتَقُولُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلَانٍ وَهَذِهِ نَطِيحَةُ الْغَنَمِ، لِأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَذْكُرِ الْهَاءَ فَقُلْتَ: رَأَيْتُ قَتِيلَ بَنِي فُلَانٍ لَمْ يُعْرَفْ أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ..
قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} أَيْ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامُ. وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَاحِدُهَا زَلَمٌ وَزُلَمٌ، قَالَ شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَكْرِيِّ:
بَاتوا نِيَاماً وابنُ هِنْد لم ينمْ ................... باتَ يُقَاسِيها غُلام كالزّلَم
وقد تقدّم. وَقَالَ آخَرُ، فَجَمَعَ:
فَلَئِنْ جَذِيمَةَ قَتَّلَتْ سَرَوَاتِهَا .................... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ ابْنَ وَكِيعٍ حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَزْلَامَ حَصًى بِيضٌ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: قَالَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ. فَأَمَّا قَوْلُ لَبِيَدٍ:
حَتَّى إِذَا حَسَرَ الظَّلامُ وأَسْفَرَتْ ........... بَكَرَتْ تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلامُهَا
فَقَالُوا: أَرَادَ أَظْلَافَ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ. والأزْلامُ عند العَرَبِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي كَانَ يَتَّخِذُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ، عَلَى أَحَدِهَا افْعَلْ، وَعَلَى الثاني لا تَفعَلُ، والثالثُ مُهملٌ لا شيء عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُهَا فِي خَرِيطَةٍ مَعَهُ، فَإِذَا أَرَادَ فعلَ شيءٍ أَدْخَلَ يَدَهُ ـ وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ ـ فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهَا ائْتَمَرَ وَانْتَهَى بِحَسَبِ مَا يَخْرُجُ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ القِدْحُ الذي لا شيء عَلَيْهِ أَعَادَ الضَّرْبَ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ اتَّبَعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبَا بَكْرٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْلِ: اسْتِقْسَامٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ، كَمَا يُقَالُ: الِاسْتِسْقَاءُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ لِلسَّقْيِ. وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُ الْمُنَجِّمِ: لَا تَخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا، وَاخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا. وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} لقمان: 34. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: سَبْعَةُ قِدَاحٍ كَانَتْ عِنْدَ هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا مَا يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ النَّوَازِلِ، كُلُّ قِدْحٍ مِنْهَا فيه كتابٌ، قِدْحٌ فيه "العَقْلُ مِنْ أُمِّ الدِّيَّاتِ"، وَفِي آخَرَ "مِنْكُمْ" وَفِي آخَرَ "مِنْ غَيْرِكُمْ"، وَفِي آخَرَ "مُلْصَقٌ"، وَفِي سَائِرِهَا أَحْكَامُ المياه وغير ذلك، وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى بَنِيهِ إِذْ كَانَ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِهِمْ إِذَا كَمَلُوا عَشَرَةً، الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَهَذِهِ السَّبْعَةُ أَيْضًا كَانَتْ عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ الْعَرَبِ وَحُكَّامِهِمْ، عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ عِنْدَ هُبَلَ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: هو قِداحُ المَيْسِرِ وَهِيَ عَشَرَةٌ، سَبْعَةٌ مِنْهَا فِيهَا حُظُوظٌ، وَثَلَاثَةٌ أَغْفَالٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا مُقَامَرَةً لَهْوًا وَلَعِبًا، وَكَانَ عُقَلَاؤُهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا إِطْعَامَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُعْدَمِ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَزْلَامُ هِيَ كِعَابُ فَارِسٍ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ وَوَكِيعٌ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ، فَالِاسْتِقْسَامُ بِهَذَا كُلِّهِ هُوَ طَلَبُ الْقَسْمِ وَالنَّصِيبِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَكُلُّ مُقَامَرَةٍ بِحَمَامٍ أَوْ بِنَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْجٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْعَابِ فَهُوَ اسْتِقْسَامٌ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَزْلَامِ حَرَامٌ كُلُّهُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّكَهُّنِ وَالتَّعَرُّضِ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ. وَلِهَذَا نَهَى عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُنَجِّمُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي مَعَهُمْ، وَرِقَاعُ الْفَأْلِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا نَهَى اللهُ عَنْهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْغَيْبِ، فَإِنَّهُ لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا يُصِيبُهَا غَدًا، فَلَيْسَ لِلْأَزْلَامِ فِي تَعْرِيفِ الْمُغَيَّبَاتِ أَثَرٌ، فَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنْ هَذَا الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَاعِ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ فِي الْعِتْقِ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْجَاهِلُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بُنِيَ عَلَى الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلَيْسَ مِمَّا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ خُرُوجَ الْقُرْعَةِ عَلَمًا عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمِ الْعِتْقِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَلَا يُسَاوِي ذَلِكَ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا فَعَلْتَ كَذَا أَوْ قُلْتَ كَذَا فَذَلِكَ يَدُلُّكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الْقِدَاحِ عَلَمًا عَلَى شي يَتَجَدَّدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الْقُرْعَةِ عَلَمًا عَلَى الْعِتْقِ قَطْعًا، فَظَهَرَ افْتِرَاقُ الْبَابَيْنِ.
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ طَلَبُ الْفَأْلِ، وَكَانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ يُعْجِبُهُ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعجِبُه الفألُ لأنَّه تَنْشَرِحُ لَهُ النَّفْسُ وَتَسْتَبْشِرُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغِ الْأَمَلِ، فَيَحْسُنُ الظَّنُّ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ قَالَ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي). وَكَانَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهَا تَجْلِبُ ظَنَّ السُّوءِ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ أَنَّ الْفَأْلَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ، وَالطِّيَرَةُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ طريقِ الاتِّكالِ على شيءٍ سِوَاهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَوْنٍ عَنِ الْفَأْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَسْمَعُ يَا سَالِمٌ، أَوْ يَكُونَ بَاغِيًا فَيَسْمَعُ يَا وَاجِدٌ، وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: ((الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ)).
رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَنَالُونَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا، مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ مِنْ طِيَرَةٍ.
قَوْلُهُ: {ذلِكُمْ فِسْقٌ} ذلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ خاصَّةً أو
إلى جميعِ المُحَرَّماتِ المَذكورةِ هُنا، و"فسق" لأنَّه وإنْ أشبَهَ القُرْعَةَ فهو دُخولٌ في عِلْمِ الغيبِ وذلك حرامٌ لِقولِه تعالى: {وما تَدْري نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا} وقال: {لا يَعْلَمُ مَنْ في السَمواتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلَّا اللهُ} والْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الحَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بيانُه. وَقِيلَ يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنِ الِاسْتِحْلَالِ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وكلُّ شيءٍ مِنْهَا فِسْقٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ، وَالكَفُّ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، إذ قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة: 1. وفي هذا وَعِيدٌ شَديدٌ لأنَّ الفِسْقَ هنا هو أَشَدُّ الكُفْرِ، لا ما وَقَعَ عليه اصْطِلاحُ قَوْمٍ مِنْ أَنَّه مَنْزِلَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بيْنَ الإيمانِ والكُفْرِ.
قَوْلُهُ: {وَما أَكَلَ السَّبُعُ} يُرِيدُ كُلَّ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ وَأَظْفَارٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَالْأَسَدِ والفهدِ وَالنَّمِرِ وَالثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَنَحْوِهَا، هَذِهِ كُلُّهَا سِبَاعٌ. وما كان ذا مِخْلَبٍ مِنَ الطيورِ الجارِحَةِ. قال الشاعر:
وسِباعُ الطيرِ تَغْدُو بِطانًا .......................... تتخطَّاهُمُ فما تَسْتَقِلُّ
ويُقَالُ: سَبَعَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ عَضَّهُ بِسِنِّهِ، وَسَبَعَهُ أَيْ عَابَهُ وَوَقَعَ فِيهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ فَقَدْ فَنِيَ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُوقِفُ اسْمَ السَّبُعِ عَلَى الْأَسَدِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَخَذَ السَّبُعُ شَاةً ثُمَّ خَلَصَتْ مِنْهُ أَكَلُوهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ أَكَلَ بَعْضَهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} إسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وَالْفُقَهَاءِ. وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى كُلِّ مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ وَفِيهِ حَيَاةٌ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ عَامِلَةٌ فِيهِ، لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يُجْعَلُ مُنْقَطِعًا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ وَشَرِيكٌ وَجَرِيرٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَسَدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذِئْبٍ عَدَا عَلَى شَاةٍ فَشَقَّ بَطْنَهَا حَتَّى انْتَثَرَ قُصْبُهَا، فَأَدْرَكْتُ ذَكَاتَهَا فَذَكَّيْتُهَا فَقَالَ: كُلْ وَمَا انْتَثَرَ مِنْ قُصْبِهَا فَلَا تَأْكُلْ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: السُّنَّةُ فِي الشَّاةِ عَلَى مَا وَصَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مَصَارِينُهَا فَإِنَّهَا حَيَّةٌ بَعْدُ، وَمَوْضِعُ الذَّكَاةِ مِنْهَا سَالِمٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَحَيَّةٌ هِيَ أَمْ مَيِّتَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى فِعْلٍ هَلْ يَعِيشُ مِثْلُهَا؟ فَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ وَذُكِرَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَالْأَشْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَأَحْفَظُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ إِذَا بَلَغَ مِنْهَا السَّبُعُ أَوِ التَّرَدِّيُ إِلَى مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَجَمَاعَةُ الْمَالِكِيِّينَ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يُحَرَّمْ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَا ذُكِّيَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ، وَالَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي، وَهِيَ تَضْطَرِبُ فَلْيَأْكُلْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ طُولَ عُمْرِهُ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْمَرِيضَةِ أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ تَذْكِيَتِهَا وَلَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ إِذَا كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةُ حَيَاةٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ مَرَضٍ، وَبَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ سَبُعٍ لَوِ اتَّسَقَ النَّظَرُ، وَسَلِمَتْ مِنَ الشُّبْهَةِ الْفِكَرُ!. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: قَدْ أَجْمَعُوا فِي الْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تُرْجَى حَيَاتُهَا أَنَّ ذَبْحَهَا ذَكَاةٌ لَهَا إِذَا كَانَتْ فِيهَا الْحَيَاةُ فِي حِينِ ذَبْحِهَا، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَا ذَكَرُوا مِنْ حَرَكَةِ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا إِذَا صَارَتْ فِي حَالِ النَّزْعِ وَلَمْ تُحَرِّكْ يَدًا وَلَا رِجْلًا أَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُتَرَدِّيَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "ذَكَّيْتُمْ" الذَّكَاةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الذَّبْحُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي "الْمُحْكَمِ" وَالْعَرَبُ تَقُولُ (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ)، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ. وَذَكَّى الْحَيَوَانَ ذَبَحَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُذَكِّيهَا الْأَسَلْ
والْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ)). وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ ذَكَاةَ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ)). دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ الْأُمِّ، وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُعْتِقَتْ أَمَةٌ حَامِلٌ إِنَّ عِتْقَهُ عِتْقُ أُمِّهِ، وَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِتْقُ وَاحِدٍ عِتْقَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةُ وَاحِدٍ ذَكَاةَ اثْنَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا عَلَيْهِ جُلُّ النَّاسِ مُسْتَغْنًى بِهِ عَنْ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ على أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ لَيْسَتْ بِذَكَاةٍ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا ذُكِّيَتِ الْأُمُّ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ: ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِذَا كَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا أَوْ خَرَجَ بِهِ رَمَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُذْبَحَ إِنْ خَرَجَ يَتَحَرَّكُ، فَإِنْ سَبَقَهُمْ بِنَفْسِهِ أُكِلَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ضَحَّيْتُ بِنَعْجَةٍ فَلَمَّا ذَبَحْتُهَا جَعَلَ يَرْكُضُ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهَا حَتَّى يَمُوتَ فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ أَمَرْتُهُمْ فَشَقُّوا جَوْفَهَا فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَذَبَحْتُهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ، فَأَمَرْتُ أَهْلِي أَنْ يَشْوُوهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُونَ: إِذَا أَشْعَرَ الْجَنِينُ فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ قَالَ ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعَرْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب ـ رضيَ اللهُ عنه ـ وسعيدٌ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعَرْ)) إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.