وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً. (124)
قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي بعضَ الأعمالِ الصالحاتِ أو شيئًا منها لأنَّ أَحَدًا لا يُمكِنُه عملَ كلِّ الصالحاتِ، وكم مِنْ مُكَلَّفٍ لا حَجَّ عليْه ولا زَكاةَ ولا جهادَ، وشَرَطَ الْإِيمَانَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَدْلَوْا بما يقومون بِه مِن خِدْمَةِ الْكَعْبَةِ وَإِطْعَامِ الْحَجِيجِ وَقَرْيِ الْأَضْيَافِ، وَأدلى أَهْلُ الْكِتَابِ بِسَبْقِ دينِهِمْ ورسلِهم فهم أقدمُ، وقالوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَبَيَّنَ الله تَعَالَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، فقال: "وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ...وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، فالآيةِ دليلٌ بأنَّ الأعمالَ الصالحاتِ غيرُ الإيمانِ فهي مستقلة عن الإيمان ومشروطٌ قبولها به. ولعلَّ في قولِه: "مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى" توبيخٌ للمشركين الذين عاملوا الأنثى معاملة سيئةً واعتبروها أدنى منزلة من الذكر فحرموها حقها في الميراثِ ووأدوها لى غير ذلك من سوء المعاملة. وقوله: "وهو مؤمن" تغليبٌ للذكر على الأنثى، وقد تقدَّمَ الكلام فيه.
قولُهُ: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ} أولئك: إشارةٌ للبعيد، و"يدخلون الجَنَّةَ" جَزاءَ ما وفقهم الله إليه من عملٍ صالحٍ.
قولُهُ: {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} أي لا يُنْقَصون شيئًا من ثوابٍ على عملٍ صالحٍ قاموا به ولوا كان بَسيطاً حقيراً في ظنِّهم وحُسبانِهم، فإنَّ النقيرَ متناهٍ في الصِغَرِ وعَلَمٌ على القِلَّةِ وحقارةِ الشأنِ، وأصلُه نُقرةٌ في ظهرِ النَواةِ منها تَنبُتُ النَّخلةُ. ويُعلَم من نفيِ تنقيصِ ثوابِ المطيعِ نفيُ زيادةِ عقابِ العاصي مِن بابٍ أوْلى لأنّ الأذى في زيادة العقابِ أشدُّ منه في تنقيصِ الثوابِ، فإذا لم يرضَ بالأوَّل وهو أرحمُ الراحمين فكيف يرضى بالثاني؟ وهو السِرُّ في تخصيصِ عدمِ تنقيصِ الثوابِ بالذِكْرِ دون ذكرِ عدمِ زيادة العقابِ، معَ أنَّ المَقامَ مقامُ ترغيبٍ في العملِ الصالحِ فلا يُناسِبُه إلَّا هذا.
قولُه تعالى: {مِنَ الصَالِحاتِ مِن ذَكَرٍ} "مِنْ" الأُولى للتَبعيضِ لأنَّ
المُكلَّفَ لا يُطيقُ عَمَلَ كلِّ الصالحاتِ. وقيل "هي زائدةٌ". و ويجوزُ في "مِنْ" الثانية أنْ تكونَ حالاً، وفي صاحبِها وجهانِ أَحَدُهُما: أَنَّه الضميرُ المَرْفوعُ بـ "يَعمَلُ"، والثاني: أنَّه الصالحاتُ أيْ: الصالحاتُ كائنةً مِن ذَكرٍ أوْ أُنثى، وقد تقدَّمَ إيضاحُ هذا في قولِه: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} آل عمران: 195. وتقدم الكلامُ على "أو" أيضاً.
قوله: {منْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحال من ضمير "يَعْمَلُ" و"مِنْ" بيانيَّةٌ. وجُوِّزَ أنْ يَكونَ حالًا من "الصالحات" و"مِنْ" ابتدائيَّةٌ، أي: كائنةٍ مِنْ ذَكَرٍ الخ، واعتُرِضَ بأنَّه ليس بِسديدٍ مِنْ جِهةِ المعنى، ومعَ هذا الأظهرُ تقديرُ كائنًا لا كائنةً لأنَّه حالٌ مِنْ شيئًا منها، وكونُ المعنى: الصالحاتِ الصادرةِ مِنَ الذَكَرِ والأُنْثى لا يُجْدي نفعًا لِما في ذلك مِنَ الرَكاكَةِ.
وقولُه: {وهو مُؤْمِنٌ} جُملةٌ حاليَّةٌ مِنْ فاعِلِ "يَعْمَلْ" وقرأ أبو عَمْرٍو وابنُ كثيرٍ وأبو بَكْرٍ عن عاصمٍ: "يُدْخَلون" هنا وفي "مريمَ" وأوَّل "غافر" بِضَمِّ حرْفِ المُضارَعةِ وفتحِ الخاءِ مُبْنِيًّاً للمَفعولِ، وانْفَرَدَ ابنُ كثيرٍ وأبو بكرٍ بثانيةِ "غافرٍ"، وأبو عَمْرٍو بالَّتي في "فاطر" والباقون بفتحِ حرفِ المضارعة وضَمِّ الخاء مَبْنِيًّا للفاعل، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ، وقد يظهرُ فروقٌ لا يَسَعُها هذا الكتابُ.
قولُهُ: {فأولئك} إشارةٌ إلى العامِلِ المُتَّصِفِ بالإيمانِ، قُرئ "يدخلون
الجنة" على البناءِ للمجهولِ وللمعلومِ والجمعِ باعتبارِ معنى "مِن" كما أنَّ
الإفرادَ فيما سَبَقَ باعتبارِ لفظِها.