عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 34 الأربعاء مايو 08, 2013 8:03 pm | |
| الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً.
(34) قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} كلامٌ مستأنَفٌ سِيقَ لِبيانِ سببِ اسْتِحقاقِ الرجالِ الزيادةَ في المِيراث تفصيلاً بعدما بيان تفاوُتِ اسْتِحقاقِهم إِجْمالاً، وقد خُصَّ الرجلُ بالقوَّةِ فزِيدَ بالحِمْلُ عليه؛ فالحِمْلُ على حَسَبِ القوَّةِ. والعِبرةُ بالقُلوبِ والهِمَمِ لا بالأجسام. وهذا نَصٌّ على مُطلَقِ رجالٍ ومُطْلَقِ نساءٍ، وليس على الرجل وزوجه فحسْب، و"قَوَّامُونَ" صيغةُ مبالغةٍ مِنَ القيامِ أَيْ يَقُومُونَ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالذَّبِّ عَنْهُنَّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِمُ الْحُكَّامَ وَالْأُمَرَاءَ وَمَنْ يَغْزُو، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ. يُقَالُ: قِوَامٌ وَقِيَمٌ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ نَشَزَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ زيد ابن خَارِجَةَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فَلَطَمَهَا، فَقَالَ أَبُوهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا! فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لِتَقْتَصَّ مِنْ زَوْجِهَا)). فَانْصَرَفَتْ مَعَ أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((ارْجِعُوا هَذَا جِبْرِيلُ أَتَانِي)). فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ)). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((أَرَدْتُ شَيْئًا وَمَا أَرَادَ اللَّهُ خَيْرٌ)). وَنَقَضَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمَرْدُودِ نَزَلَ {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}. وقال الْحَسَنَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ: ((بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ))، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}. وَأَمْسَكَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتّى نَزَلَ: "الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ". وَقَيلَ: نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ أُبَيٍّ وَفِي زَوْجِهَا ثابتٍ بْنِ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمِيرَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَفِي زَوْجِهَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَقِيلَ: سَبَبُهَا قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ. وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُنَّ تَكَلَّمْنَ فِي تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْإِرْثِ، فَنَزَلَتْ "وَلا تَتَمَنَّوْا" الْآيَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَفْضِيلَهُمْ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِرْثِ لِمَا عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْمَهْرِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ فَائِدَةُ تَفْضِيلِهِمْ عَائِدَةٌ إِلَيْهِنَّ. وَيُقَالُ: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ فَضِيلَةٌ فِي زِيَادَةِ الْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ، فَجُعِلَ لَهُمْ حَقُّ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: لِلرِّجَالِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ فِي النَّفْسِ وَالطَّبْعِ مَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ، لِأَنَّ طَبْعَ الرِّجَالِ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَارَةُ وَالْيُبُوسَةُ، فَيَكُونُ فِيهِ قُوَّةٌ وَشِدَّةٌ، وَطَبْعَ النِّسَاءِ غَلَبَ عَلَيْهِ الرُّطُوبَةُ وَالْبُرُودَةُ، فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى اللِّينِ وَالضَّعْفِ، فَجَعَلَ لَهُمْ حَقَّ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ". وَقد دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأْدِيبِ الرِّجَالِ نِسَاءَهُمْ، فَإِذَا حَفِظْنَ حقوقَ الرجالِ فلا يَنبغي أنْ يُسيءَ الرَّجُلُ عِشْرَتَهَا. وقِيَامُ الرِّجُلِ عَلَى المرأةِ أَنْ يَقُومَ بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبِهَا وَإِمْسَاكِهَا فِي بَيْتِهَا وَمَنْعِهَا مِنَ الْبُرُوزِ، وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ أَمْرِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِالْفَضِيلَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَقْلِ وَالْقُوَّةِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ وَالْمِيرَاثِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا كَانَ لَهَا فَسْخُ الْعَقْدِ، لِزَوَالِ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ النِّكَاحُ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ثُبُوتِ فَسْخِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْسَخُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ} هَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ، وَمَقْصُودُهُ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ الزَّوْجِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهَا فِي حَالِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ)). قَالَ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ "الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُهُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُودَ. قَوْلِهِ: {بِما حَفِظَ اللَّهُ} أَيْ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُنَّ. وَقِيلَ: بِمَا حَفِظَهُنَّ اللَّهُ فِي مُهُورِهِنَّ وَعِشْرَتِهِنَّ. وَقِيلَ: بِمَا اسْتَحْفَظَهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وقيل أَيْ بِحِفْظِهِنَّ أَمْرَهُ أَوْ دِينَهُ. وَقِيلَ فِي التَّقْدِيرِ: بِمَا حَفِظْنَ اللَّهَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِحِفْظِ اللَّهِ، مِثْلَ حَفِظْتُ اللَّهَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ} تَخَافُونَ: أي تَعْلَمُونَ وَتَتَيَقَّنُونَ. وَقِيلَ هُوَ عَلَى بَابِهِ. وَالنُّشُوزُ الْعِصْيَانُ. ونَشَزَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ قَاعِدًا فَنَهَضَ قَائِمًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} أَيِ ارْتَفِعُوا وَانْهَضُوا إِلَى حَرْبٍ أَوْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْمَعْنَى: أَيْ تَخَافُونَ عصيانهن وتعاليهن عما أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ طَاعَةِ الْأَزْوَاجِ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: النُّشُوزُ كَرَاهِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ اسْتَصْعَبَتْ عَلَى بَعْلِهَا، وَنَشَزَ بَعْلُهَا عَلَيْهَا إِذَا ضَرَبَهَا وَجَفَاهَا. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ وَنَشَسَتْ وَنَشَصَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعِظُوهُنَّ} أَيْ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَيْ ذَكِّرُوهُنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَجَمِيلِ الْعِشْرَةِ لِلزَّوْجِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا، وَيَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((لَوْ أَمَرْتُ أحدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)). وَقَالَ: ((لَا تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَهْرِ قَتَبٍ)). والقَتَبُ ما يوضع على ظهرِ البعير. وَقَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ)). فِي رِوَايَةٍ ((حَتَّى تُرَاجِعَ وَتَضَعَ يَدَهَا فِي يَدِهِ)). قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ}. الْهَجْرُ فِي الْمَضَاجِعِ هُوَ أَنْ يُضَاجِعَهَا وَيُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُجَامِعَهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَنِّبُوا مَضَاجِعَهُنَّ، فَيَتَقَدَّرُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَيُعَضِّدُهُ "اهْجُرُوهُنَّ" مِنَ الْهِجْرَانِ، وَهُوَ الْبُعْدُ، يُقَالُ: هَجَرَهُ أَيْ تَبَاعَدَ وَنَأَى عَنْهُ. وَلَا يُمْكِنُ بُعْدُهَا إِلَّا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا. وَقَالَ مَعْنَاهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: حَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ الْمُوفِي. وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا تَقُولُ: اهْجُرْهُ فِي اللَّهِ. وَهَذَا أَصْلُ مَالِكٍ. وهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ فِرَاشِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُحِبَّةً لِلزَّوْجِ فَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا فَتَرْجِعُ لِلصَّلَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْغِضَةً فَيَظْهَرُ النُّشُوزُ مِنْهَا، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ النُّشُوزَ مِنْ قِبَلِهَا. وَقِيلَ: "اهْجُرُوهُنَّ" مِنَ الْهَجْرِ وَهُوَ الْقَبِيحُ مِنَ الْكَلَامِ، أي غلِّظوا عليهِنَّ في القولِ وَضَاجِعُوهُنَّ لِلْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، قَالَ مَعْنَاهُ سُفْيَانُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَيْ شُدُّوهُنَّ وَثَاقًا فِي بُيُوتِهِنَّ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هَجَرَ الْبَعِيرَ أَيْ رَبَطَهُ بِالْهِجَارِ، وَهُوَ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَقَدَحَ فِي سَائِرِ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ فَقَالَ: يَا لَهَا مِنْ هَفْوَةٍ مِنْ عَالِمٍ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ! وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ـ رضي اللهُ عنهم أجمعين ـ كَانَتْ تَخْرُجُ حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتِهَا، فَعَقَدَ شَعْرَ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى ثُمَّ ضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الضَّرَّةُ أَحْسَنَ اتِّقَاءً، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ لَا تَتَّقِي فَكَانَ الضَّرْبُ بِهَا أَكْثَرَ، فَشَكَتْ إِلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فَقَالَ لَهَا: أَيْ بُنَيَّةُ اصْبِرِي فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ابْتَكَرَ بِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّةِ. فَرَأَى الرَّبْطَ وَالْعَقْدَ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مَعَ فِعْلِ الزُّبَيْرِ فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَهَذَا الْهَجْرُ غَايَتُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ شَهْرٌ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ أَسَرَّ إِلَى حَفْصَةَ فَأَفْشَتْهُ إِلَى عَائِشَةَ، وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ. وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ أَجَلًا عُذْرًا لِلْمَوْلَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَبْدَأَ النِّسَاءُ بِالْمَوْعِظَةِ أَوَّلًا ثمَّ بالهِجران، فإنْ لم يَنفَعا فَالضَّرْبُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلُهَا عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّهِ. وَالضَّرْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ ضَرْبُ الْأَدَبِ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ جَارِحَةً كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ. فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الْهَلَاكِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي ضَرْبِ الْمُؤَدِّبِ غُلَامَهُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْأَدَبِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ)). الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ، أَيْ لَا يُدْخِلْنَ مَنَازِلَكُمْ أَحَدًا مِمَّنْ تَكْرَهُونَهُ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ الْأَجَانِبِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ فَقَالَ: ((أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ (أَسيراتٌ) عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)). قال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَقَوْلُهُ: (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يُرِيدُ لَا يُدْخِلْنَ مَنْ يَكْرَهُهُ أَزْوَاجُهُنَّ وَلَا يُغْضِبْنَهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الزِّنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَدْ قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((اضْرِبُوا النِّسَاءَ إِذَا عَصَيْنَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ)). قَالَ عَطَاءٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا الضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ؟ قَالَ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَعُذِلَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((لَا يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ أَهْلَهُ)). قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أَيْ لَا تَجْنُوا عَلَيْهِنَّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ ظُلْمِهِنَّ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْفَضْلِ عَلَيْهِنَّ وَالتَّمْكِينِ مِنْ أَدَبِهِنَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُكَلِّفُوهُنَّ الْحُبَّ لَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِنَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً} إِشَارَةٌ إِلَى الْأَزْوَاجِ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ وَلِينِ الْجَانِبِ، أَيْ إِنْ كنتم تقدرون عَلَيْهِنَّ فَتَذَكَّرُوا قُدْرَةَ اللَّهِ، فَيَدُهُ بِالْقُدْرَةِ فَوْقَ كُلِّ يَدٍ. فَلَا يَسْتَعْلِي أَحَدٌ عَلَى امْرَأَتِهِ فَاللَّهُ بِالْمِرْصَادِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الِاتِّصَافُ هُنَا بِالْعُلُوِّ وَالْكِبَرِ. وَلم يأمرِ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فِي كِتَابِهِ بِالضَّرْبِ صُرَاحًا إِلَّا هُنَا وَفِي الْحُدُودِ الْعِظَامِ، فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِرِ، وَوَلَّى الْأَزْوَاجَ ذَلِكَ دُونَ الْأَئِمَّةِ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ دُونَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا بَيِّنَاتٍ ائْتِمَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَزْوَاجِ عَلَى النِّسَاءِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا جُوِّزَ ضَرْبُ النِّسَاءِ مِنْ أَجْلِ امْتناعِهِنَّ على أَزواجِهِنَّ فِي الْمُبَاضَعَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ ضَرْبِهَا فِي الْخِدْمَةِ، وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ أَنَّهُ إِذَا جَازَ ضَرْبُهَا فِي الْمُبَاضَعَةِ جَازَ ضَرْبُهَا فِي الْخِدْمَةِ الْوَاجِبَةِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ. والنُّشُوزُ يُسْقِطُ النَّفَقَةَ وَجَمِيعَ الْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَيَجُوزُ مَعَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا الزَّوْجُ ضَرْبَ الْأَدَبِ غَيْرَ الْمُبَرِّحِ، وَالْوَعْظُ وَالْهَجْرُ حَتَّى تَرْجِعَ عَنْ نُشُوزِهَا، فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَتْ حُقُوقُهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اقْتَضَى الْأَدَبَ فَجَائِزٌ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُهَا. والقوامة مما نظَّم اللهُ ـ سبحانَه ـ بهِ أمرَ خلقِه إذ لا بدَّ في كلِّ تجمعٍ بشريٍّ من أن يكون الأمر لواحدٍ فيه، فيأمر وينهى بأمر الله ونهيه، ويكون الجهةَ الصالحة لإبرام الأمور والقطع بها واتخاذِ القرارات والمواقف، بعد الاستشارة والاستئناس بآراء الآخرين، بدءً بالأسرة التي هي اللّبنة الأولى في تشكيل المجتمعِ وانتهاءً بالدولةِ، وغنيٌّ عن البَيانِ أنَّ مجتمعاً لا تكون فيه القيادة لواحد مصير الفشل، وهذا ملحوظ أيضاً في عالم الحيوان لا سيما الراقي منها كالنحلِ، فإنَّ للخليّةِ ملكتها، وهكذا.. وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون قيادة الخلية للرجل لأسباب كثيرة لخّصها قوله: "بما فضَّلَ اللهُ بعضَهم على بعضٍ". فقد أعطى اللهُ الرجلَ ما لم يُعْطِهِ للمرأةِ في الجِسمِ والنَّفسِ، مِنْ صفاتٍ تؤهِّلُه لِحمْلِ هذه الأعباءِ، ولو كانا مُتساوييْنِ في القُدُراتِ، ما تَثَنَّى له القيامُ بهذه المُهِمَّةِ. وخروجُ المرأة عن سُلْطَةِ الرجُلِ هَدْمٌ للأُسرةِ وفَشَلٌ في تَربيةِ الأَطفالِ التربيةَ الصالِحةَ، تماماً كما هو الحالُ عندما تَخْرُجُ الرَّعِيَّةُ على راعيها بغيرِ حَقٍّ، فإنَّ في ذلك خَرابُ المُجتمَعِ وتَفَكُّكُ الدَوْلَةِ. واتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا بَالِغِينَ إِلَّا النَّاشِزَ مِنْهُنَّ الْمُمْتَنِعَةَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ نَشَزَتْ عَنْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ نَفَقَتُهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا. وَخَالَفَ ابْنُ الْقَاسِمِ جَمَاعَةَ الْفُقَهَاءِ فِي نَفَقَةِ النَّاشِزِ فَأَوْجَبَهَا. وَإِذَا عَادَتِ النَّاشِزُ إِلَى زَوْجِهَا وَجَبَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَفَقَتُهَا. وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا لِشَيْءٍ غَيْرِ النُّشُوزِ، لَا مِنْ مَرَضٍ وَلَا حَيْضٍ وَلَا نِفَاسٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا مَغِيبِ زَوْجِهَا وَلَا حَبْسِهِ عَنْهَا فِي حَقٍّ أَوْ جَوْرٍ غَيْرَ مَا ذكرنا. والله أعلم.قوله تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فضّل اللهُ بعضَهم على بعضٍ} الرِّجالُ قَوَّامُونَ: ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، واختيارُ الجُملةِ الاسْمِيَّةِ معَ صِيغَةِ المُبالَغَةِ للإيذانِ بعَراقتِهم ورُسوخِهم في الاتِّصافِ بِما أُسْنِدَ إليهم، "عَلَى النساءِ" متعلِّقٌ بـ "قَوَّامون" وكذا "بما"، والباء سببية، ويَجوزُ أنْ تكونَ للحال، فتتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها حالٌ مِن الضميرِ في "قَوَّامون" تقديرُه: مستحِقّين بِتفضيلِ اللهِ إيَّاهم. و"ما" مصدريةٌ وقيل: بمعنى الذي. وهو ضعيفٌ لحَذْفِ العائدِ مِنْ غيْرِ مُسَوِّغٍ. و"بعض" الأولى المرادُ بها الرجالُ و"بعض" الثانيةُ المرادُ بها النساءُ، وعَدَلَ عنِ الضميرين فلم يَقُلْ: بما فَضَّلهم اللهُ عليْهِنَّ للإِبهامِ الذي في "بعض". قولُهُ: {وبما أنفقوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} بما: متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ الأوَّلُ. و"ما" يَجوزُ هنا أنْ تكونَ بِمعنى الذي مِن غيرِ ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذْفِ مُسَوِّغاً، أي: وبِما أَنفقوهُ مِنْ أموالِهم، و"مِنْ أَمْوَالِهِمْ" متعلِّقٌ بـ "أَنْفَقوا"؛ أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنَ الضميرِ المَحذوفِ. قولُه: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ} الصالحاتُ: مبتدأٌ وما بعدَه خبَرانِ له. و"للغيب" متعلِّقٌ بـ "حافظات". و"الغيب" ألـ: عوضٌ من الضميرِ عند الكوفيين كقولِه: {واشْتَعَلَ الرأسُ شَيْباً} مريم: 4. أي: رأسي وقال ذو الرمّة: لَمْياءُ في شَفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ............... وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُأي: لِثاتِها، والحُوَّةُ: سوادٌ خالصٌ وقيل ما كان ضارباً إلى الخُضرةِ، واللّعسُ: سوادٌ مشوبٌ بحمرةٍ، أما الشنبُ فهو بياض الأسنان ونقاؤها. والجمهورُ على رفعِ الجَلالةِ مِنْ "حَفِظ اللهُ". وفي "ما" على هذه القراءةِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أحدُها: أَنَّها مَصْدرِيَّةٌ والمَعنى: بحِفْظِ اللهِ إيَّاهُنَّ أي: بتوفيقِه لَهُنَّ أو بالوَصيَّةِ منْه تَعالى عَليْهِنَّ. والثاني: أنْ تكونَ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: بالذي حَفِظَهُ اللهُ لهُنَّ مِنْ مُهورِ أَزوجِهِنَّ والنَّفقةِ عَليهِنَّ. والثالثُ: أنْ تَكونَ "ما" نَكِرَةً مَوْصوفةً، والعائدُ محذوفٌ أيضاً كما تقرَّرَ في المَوْصولَةِ بمعنى الذي.وقرأ أبو جعفرٍ بِنَصبِ الجَلالَةِ، وفي "ما" ثلاثةُ أوْجُهٍ أيضاً، أحدُها: أنَّها بمعنى الذي، والثاني: نَكِرَةٌ مَوصوفةٌ، وفي "حَفِظ" ضميرٌ يَعودُ على "ما" أي: بِما حَفِظَ مِنَ البِرِّ والطاعةِ. ولا بُدَّ مِن حذفِ مُضافٍ تَقديرُه: بما حَفِظَ دينَ اللهِ أو أَمْرَ اللهِ، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يَحفَظُها أَحَدٌ. والثالث: أنْ تَكونَ "ما" مصدريَّةً، والمعنى بما حَفِظْنَ اللهَ في امْتِثالِ أمرِه، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على جمعِ الإِناثِ لأنَّهُنَّ في معنى الجِنسِ، كأنَّه قيل: مِمَّنْ صَلَحَ، فعادَ الضميرُ مُفرَداً بهذا الاعتِبارِ، وَرَدَّ الناسُ هذا الوجهَ بعدمِ مُطابَقَةِ الضَميرِ لِما يَعودُ عليْه وهذا جوابُه. وجَعَلَه ابنُ جِنّيٍّ مثلَ قولِ الأعشى: فإما تريْنِي ولي لِمَّةٌ ............................ فإنَّ الحوادِثَ أَوْدى بهاأي: أَوْدَيْنَ، ويَنبغي أنْ يُقالَ: الأصلُ بما حَفِظَتِ اللهَ، والحوادثُ أَوْدَتْ؛ لأنَّها يَجوزُ أنْ يَعودَ الضَميرُ على جمعِ الإِناثِ كَعَوْدِه على الواحدةِ منهُنَّ، تقول: "النساءُ قامت"، إلَّا أنَّه شَذَّ حذفُ تاءِ التأنيثِ مِنَ الفِعلِ المُسْنَدِ إلى ضميرِ المُؤنَّثِ. وقرأ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ ـ وهي في مُصْحَفِه ـ كذلكَ، "فالصَوالحُ قَوانتٌ حَوافظٌ" بالتَكسيرِ. قال ابْنُ جِنِّيٍّ: "وهي أَشْبَهُ بالمَعنى لإِعطائها الكَثْرَةَ، وهي المقصودةُ هنا"، يَعني أنَّ "فواعِلَ" من جُموعِ الكَثْرَةِ، وجمعُ التصحيحِ جمعُ قِلَّةٍ ما لم يَقْتَرِنْ بالألِفِ واللَّامِ. وظاهرُ عِبارةِ أبي البَقاءِ أنَّه للقِلَّةِ وإنِ اقْتَرَنَ بـ "ألـ" فإنَّه قال: "وجَمْعُ التصحيحِ لا يَدُلُّ على الكَثْرَةِ بوضعِه، وقد استُعْمِلَ فيها كقولِهِ تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} سَبأ: 37. وفيما قالَه أبو الفتحِ وأبو البقاءِ نَظرٌ، فإنَّ "الصالحات" في القراءة المشهورةِ معرفةٌ بأل، وقد تقدَّمَ أنَّه تَكونُ للعُمومِ، إلَّا أنَّ العمومَ المُفيدَ للكَثْرةِ ليسَ مِنْ صيغةِ الجمعِ، بل من "أل"، وإذا ثَبَتَ أنَّ الصالحات جمعُ كثرةٍ لَزِمَ أنْ يَكونَ "قانتات" و"حافظات" للكَثْرةِ لأنَّه خبرٌ عن الجميع، فيفيدُ الكَثْرَةَ، ألا تَرى أنَّك إذا قلتَ: "الرجالُ قائمون" لَزِم أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ مِنَ الرجالِ قائماً، ولا يَجوزُ أنْ يِكون بعضُهم قاعداً، فإذاً القراءةُ الشهيرةُ وافيَةٌ بالمَعنى المَقصودِ.قولُه: {فِي المَضاجِعِ} فيه وجهان، أحدُهُما: أنَّ "في" على بابِها مِنْ الظَرْفيَّةِ متعلِّقةٌ بـ "اهْجُروهُنَّ" أي: اترُكوا مُضاجَعَتَهُنَّ أي: النومَ مَعَهُنَّ دونَ كلامِهِنَّ ومُؤاكَلَتِهِنَّ. والثاني: أنَّها للسَببِ قال أبو البقاءِ: "واهجروهُنَّ" بسَببِ المَضاجِعِ كما تقول: "في هذه الجنايةِ عقوبةٌ" وجَعَلَ مَكّيٌّ هذا الوجهَ مُتَعَيِّنًا، ومَنَعَ الأوَّلَ، قال: ليس "في المَضاجِعِ" ظرفاً للهِجْران، وإنَّما هو سَبَبٌ لِهجران التَخلُّفِ، ومعناه: فاهجروهُنَّ مِنْ أجلِ تخلُّفِهِنَّ عن المُضاجَعةِ معكم". وفيه نظرٌ لا يَخْفى وكلامُ الواحدي يُفْهِم أَنه يجوز تعلُقه بـ "نشوزهن" فإنَّه قال بعدما حَكى عنِ ابنِ عبّاسٍ كلاماً: والمعنى على هذا: واللاتي تخافونَ نُشوزَهُنَّ في المَضاجِعِ، والكلامُ الذي حكاه عن ابنِ عبَّاسٍ هو قولُه: هذا كلُّه في المَضجِعِ إذا هي عَصَتْ أنْ تضطجِعَ معه. ولكنْ لا يَجوزُ ذلك؛ لِئَلَّا يَلزَمَ الفصلُ بيْن المَصدَرِ ومعمولِه بأجنبيٍّ. وقَدَّرَ بعضُهم معطوفاً بعد قولِه: "واللاتي تخافون" أي: واللّاتي تَخافون نُشوزَهُنَّ ونَشَزْنَ، كأنَّه يُريدُ أنْ لا يَجوزَ الإِقدامُ على الوعظِ وما بعدَه بمُجرَّدِ الخوفِ. وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ الخوفَ بمَعنى اليَقينِ، وقيل: غَلَبَةُ الظَنِّ في ذلك كافيَةٌ.قولُه: {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} في نَصْبِ "سبيلًا" وجهان، أحدُهُما: أنَّه مفعولٌ به، والثاني: أنَّه على إسقاطِ الخافِضِ، وهذان الوجهان مَبنيّانِ على تَفسيرِ البَغْيِ هنا ما هو؟ فقيلَ: هو الظلمُ مِن قولِه: {فبغى عَلَيْهِمْ} القصص: 76، فعلى هذا يكون لازمًا، و"سبيلاً" منصوبٌ بإسقاطِ الخافضِ أي: بسبيل. وقيل: هو الطلب من قولهم: بَغَيْتُه أي طلبتُه. وفي "عليهن" وجهان، أحدُهُما: أنَّه متعلِّقٌ بـ "تبغوا". والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن "سبيلاً" لأنَّه في الأصلِ صِفَةُ النَكِرَةِ قُدِّمَ عليها. | |
|