عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 22 الخميس مايو 02, 2013 10:47 am | |
| وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً. (22) قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} كَانَ زَوَاجُ الأَبْنَاءِ بِزَوْجَاتِ الآبَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ متفَشِّيًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، حتّى بَعْدَ نُزُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً} فَذَمَّ اللهُ تَعَالَى هَذا الفِعْلَ، وَسَمَّاهُ فَاحِشَةً، في هذه الآية، وَجَعَلَهُ مَبْغُوضاً أشَدَّ البُغْضِ. وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَى الأبْنَاءِ زَوْجَاتِ الآبَاءِ تَكْرِمَةً لَهُمْ وَتَعْظِيماً. وَتَحْرُمُ امْرَأةُ الأبِ عَلَى الابْنِ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَيها، دَخَلَ بِهَا أمْ لَمْ يَدْخُلْ. فحين نَزَلَ قولُه: "وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ" صَارَ حَرَامًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَقَعُ عَلَى الْجِمَاعِ وَالتَّزَوُّجِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ وَطِئَهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ.وقَوْلُهُ ـ تَعَالَى: {مَا نَكَحَ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا النِّسَاءُ. وَقِيلَ: الْعَقْدُ، أَيْ نِكَاحُ آبَائِكُمُ الْفَاسِدُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ اللَّهِ، إِذِ قَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ وَجْهَ النِّكَاحِ وَفَصَّلَ شُرُوطَهُ. فَـ "مِنَ" مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "تَنْكِحُوا" وَ"مَا نَكَحَ" مَصْدَرٌ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ وَلَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ "مَا" "مَنْ". فَالنَّهْيُ عَلَى هَذَا إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَلَّا يَنْكِحُوا مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِهِمُ الْفَاسِدِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَتَكُونُ "مَا" بِمَعْنَى "الَّذِي" وَ"مَنْ". وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَلَقَّتِ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ. وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ قَبَائِلُ قَدِ اعْتَادَتْ أَنْ يَخْلُفَ ابْنُ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَةِ أبيه، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ فِي الْأَنْصَارِ لَازِمَةً، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. أَلَا تَرَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ خَلَفَ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُسَافِرًا وَأَبَا مُعَيْطٍ، وَكَانَ لَهَا مِنْ أُمَيَّةَ أَبُو الْعِيصِ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ بَنُو أُمَيَّةَ إِخْوَةَ مُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَأَعْمَامَهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ بَعْدَ أَبِيهِ امْرَأَتَهُ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ قُتِلَ عَنْهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَنْظُورُ بْنُ زَبَّانَ خَلَفَ عَلَى مُلَيْكَةَ بِنْتِ خَارِجَةَ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ زَبَّانَ بْنِ سَيَّارٍ. وَمِنْ ذَلِكَ حِصْنُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ كُبَيْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ. وَالْأَسْوَدُ بْنُ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ. وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ: تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ فَخَطَبَ ابْنُهُ قَيْسٌ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أَعُدُّكَ وَلَدًا، وَلَكِنِّي أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَسْتَأْمِرُهُ، فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَهُوَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ تَمَجَّسَ وَفَعَلَ هَذِهِ الْفَعْلَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي كِتَابِ الْمَثَالِبِ. فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ هَذِهِ السِّيرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أَيْ تَقَدَّمَ وَمَضَى. وَالسَّلَفُ، مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ آبَائِكَ وَذَوِي قَرَابَتِكَ. وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَاجْتَنِبُوهُ وَدَعُوهُ. وَقِيلَ: "إِلَّا" بِمَعْنَى بَعْدَ، أَيْ بَعْدَ مَا سَلَفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى} أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. وَقِيلَ: "إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أَيْ وَلَا مَا سَلَفَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} يَعْنِي وَلَا خَطَأً. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ لِقَوْلِهِ "وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ" فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ تُعَاقَبُونَ وَتُؤَاخَذُونَ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا} عَقَّبَ بِالذَّمِّ الْبَالِغِ الْمُتَتَابِعِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ انْتَهَى مِنَ الْقُبْحِ إِلَى الْغَايَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سَأَلْتُ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ نِكَاحِ الْمَقْتِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ أَبِيهِ إذا طلَّقها أو ماتَ عَنْهَا، وَيُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ: الضَّيْزَنُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَأَوْلَدَهَا قِيلَ لِلْوَلَدِ الْمَقْتِيُّ. وَأَصْلُ الْمَقْتِ الْبُغْضُ، مِنْ مَقَتَهُ يَمْقُتُهُ مَقْتًا فَهُوَ مَمْقُوتٌ وَمَقِيتٌ. فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنَ امْرَأَةِ أَبِيهِ: مَقِيتٌ، فَسَمَّى ـ تَعَالَى ـ هَذَا النِّكَاحَ (مَقْتاً) إِذْ هُوَ ذَا مَقْتٍ يَلْحَقُ فَاعِلَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطِئَهَا الْآبَاءُ، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَى بِالنِّسَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُنَاكَحَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَكُمْ زَوَاجُهُنَّ. وَأَنْ تَطَئُوا بِعَقْدِ النِّكَاحِ مَا وَطِئَهُ آبَاؤُكُمْ مِنَ الزِّنَى، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَيَكُونُ أَصْلًا فِي أَنَّ الزِّنَى لَا يُحَرِّمُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. والله أعلم.قولُه ـ تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} في "ما" هذه قولان أحدُهما: أنَّها مَوصولَةٌ اسْمِيَّةٌ واقعةٌ على أنواعِ مَنْ يَعْقِل، وهذا عند مَنْ لا يُجيزُ وقوعَها على آحادِ العُقلاء. فأمَّا مَنْ يُجيز ذلك فيقول: إنَّها واقعةٌ مَوقِعَ "مَنْ"، فـ "ما" مفعولٌ به بقوله: "وَلاَ تَنكِحُواْ". وتبيَّن كونُه حراماً أو فاسداً من قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً}. قولُه: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} في هذا الاستِثناءِ قولان، أحدُهما: أنَّه مُنقَطِعٌ، إذِ الماضي لا يُجامِعُ الاستقبالَ. والثاني: أنَّه استثناءٌ متَّصلٌ وفيه معنيان، أحدُهما: أن يُحْمَلَ النِّكاحُ على الوطءِ، والثاني: التخصيص في قوله: "إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ" بوطءِ الزنا، والتقديرُ: ولا تَطَؤوا ما وطِىء آباؤكم فيما مضى وطءَ زنا، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ "ما" مصدريَّةً، وقد استثنى "ما قد سلف" من "ما نكح آباؤكم" كما استثنى "غيرَ أنَّ سيوفهم" من قولِه: "ولا عيبَ فيهم" يعني: إنْ أمكنَكم أنْ تَنْكِحوا ما قد سَلَفَ فانكحوه فلا يَحِلُّ لَكم غيرُه، وذلك غير ممكن، والغَرضُ المبالغةُ في تحريمه وسَدُّ الطريق إلى إباحته، كما تعلق بالمُحالِ في التأبيدِ في نحوِ قولِهم: "حتى يَبْيَضَّ القارُّ" وقولِه ـ سبحانه: "حتَّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط". والمَقْتُ: بُغْضٌ مقرونٌ باستحقارٍ فهو أخصُّ منه. والضميرُ في قولِه "إنه" عائدٌ على النكاح المفهوم من قولِه: "وَلاَ تَنكِحُواْ"، ويجوزُ أنْ يعودَ على الزنا إذا أُريدَ بقوله: "إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ" الزنا و"كان" هنا لا تَدُلُّ على الماضي فقط لأنَّ معناها هنا معنى لم يَزَلْ، وهذا المعنى هو الذي حَمَل المبردَ على قولِه "إنها زائدة". ورُدَّ عليه بوجودِ الخبرِ والزائدةُ لا خبرَ لها، وكأنَّه يَعني بزيادتِها كونَها لا تَدُلُّ على الماضي فقط، فَعَبَّر عن ذلك بالزيادة.قولُه: {وَسَاءَ سَبِيلاً} ساء: جاريةٌ مَجْرى "بئس" في الذَمِّ والعمل، ففيها ضميرٌ مُبهَمٌ يُفَسِّرُهُ ما بعدَه وهو "سبيلاً" والمَخصوصُ بالذَمِّ محذوفٌ تقديرُه: "وساء سبيلاً سبيلُ هذا النكاحِ" كقولِه: {بِئْسَ الشرابُ} أي: ذلك الماء. ويمكن ألّا تَجْري مَجْرى "بِئْس" في العمل بل هي كسائرِ الأفعالِ، فيكونُ فيها ضميرٌ يَعُود على ما عادَ عليه الضميرُ في "إنه"، و"سبيلاً" على كلا التقديرين تمييزٌ. وهذه الجُملةُ لا مَحَلَّ لَها من الإعرابِ بَلْ هي مُستَأنَفَةٌ، ويكونُ الوَقفُ على قولِه: "ومقتاً" ثمَّ يُستَأْنَفُ "وساء سبيلاً" أي: وساءَ هذا السبيلُ منْ نِكاحِ مَنْ نَكَحَهُنَّ مِنَ الآباء. أو هي عطفٌ على خبرِ "كان"، على أَنْ يُجْعَلَ مَحكيًّا بقولٍ مُضمَرٍ، ذلك القولُ هو المعطوفُ على الخبر، والتقدير: ومَقُولاً فيه: "ساء سبيلاً".ولقائلٍ أنْ يَقولَ: يَجوزُ أَنْ يَكونَ عَطفًا على خبرِ "كان" مِنْ غيرِ إضمارِ قولٍ، لأنَّ هذهِ الجُملةَ في قوَّةِ المُفرَدِ، ألا تَرى أنَّه يَقعُ خبَراً بِنَفسِه تقول: "زيدٌ ساءَ رجلاً" و"كان زيداً ساءَ رَجُلاً"، فغايةُ ما في البابِ أنَّك أتيتَ بأَخبارِ "كان" أَحدُهُما مُفرَدٌ والآخَرُ جُمْلَةٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقالَ: إنَّ هذه جُملةٌ إنْشائيَّةٌ، والإِنْشائيَةُ لا تَقَعُ خَبَراً لـ "كان"، فاحْتاجَ إلى إضمارِ القولِ وفيهِ بَحث. | |
|