عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 37 الجمعة مايو 10, 2013 6:12 am | |
| الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) قَوْلُهُ تَعَالَى: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} تحدَّثتِ الآيَةُ السَّابِقَةُ بأنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُخْتَالِينَ الفَخُورِينَ، فجاءت هذه الآية بوصف هَؤُلاءِ المُخْتَالِينَ الفَخُورِينَ بأنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أنْ يُنْفِقُوهَا فِيمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، مِنْ بِرِّ الوَالِدَينِ، وَالإحْسَانِ إلَى الأَقَارِبِ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ، وَالجَارِ وَابْنِ السَبِيلِ، وَمَا مَلَكَتِ الأَيْمَانُ مِنَ الأَرِقَاءِ، وَلا يُؤَدُّونَ حَقَّ اللهِ، وَلاَ يَكْتَفُونَ بِالتَّكَبُّرِ وَالبُخْلِ، وَإنَّمَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ أَيْضاً. وَقد جاء في مصنف ابنِ أبي شيبةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ قال: ((إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالقَطِيْعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالفُجُورِ فَفَجَرُوا)). وَالبَخِيلِ جَحُودٌ لِنِعْمَةِ اللهِ فَلا تَظْهَرُ عَلَيهِ، فِي مَأْكَلٍ، أو مَلْبَسٍ، فَهُو كَاتِمٌ لَمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، كَافِرٌ بِنِعْمَتِهِ، وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لِلْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ عَذَاباً مُهِيناً. وَيَشْمَلُ البُخْلُ المَقْصُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ البُخْلَ بِلَيِّنِ الكَلاَمِ، وَالنُّصْحَ في التَّعْلِيمِ، وَإِنْقَاذَ المُشْرِفِ عَلَى التَّهْلُكَةِ.والْبُخْلُ الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) الْقَوْلُ فِي الْبُخْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّحِّ مُسْتَوْفًى. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ الْيَهُودُ، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ وَالْبُخْلِ بِالْمَالِ وَكِتْمَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقد أخرج ابنُ إسحقَ وابنُ جَريرٍ وابنُ المُنذِرِ بسندٍ صحيحٍ عن ابنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: كان كَرْدَمُ بنُ زيدٍ، حليفَ كعبٍ بنِ الأَشرَفِ، وأُسامةُ بنُ حبيبٍ، ونافعٌ بنُ أبي نافعٍ، وبَحْريٌّ بنُ عَمْرٍو، وحُيَيٌّ بنُ أَخْطَب، ورِفاعةٌ بنُ زيدٍ بنِ التابوت، يأتونُ رجالًا مِنَ الأنصارِ، ـ وكانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم ـ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ، فيقولون لهم: لا تُنْفِقوا أموالَكم، فإنّا نَخشى عليكمُ الفَقرَ في ذَهابِها، ولا تُسارعُوا في النَفَقَةِ، فإنَّكم لا تَدرونَ ما يَكونُ! فأنزلَ اللهُ تعالى فيهم: "الذين يَبْخَلُونَ" إلى قولِهِ ـ سُبحانَه: {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} النساء: 39، وقيلَ: نَزَلَتْ في الذين كَتَموا صفةَ محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، ورُويَ ذلك عن سعيدٍ بنِ جُبير وغيرِه، فقد جاءَ عن قَتادةَ أنَّه قال في الآيةِ: هُمْ أعداءُ اللهِ ـ تعالى ـ أهلُ الكِتابِ بَخِلوا بِحَقِّ اللهِ عليهم وكَتَموا الإسْلامَ ومحمَّداً صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ وهم يَجدونَه مكتوباً عندَهم في "التوراة" و"الإنجيل".قولُه: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} هذا الكتمُ معناه: منعُ شيءٍ يُريدُ أنْ يَخرُجَ بطبيعتِه. فكأنَّ المالَ أو العلمَ يُريدُ أنْ يَخرُجَ للناسِ ولكنَّ أصحابَه يكتمونَه. وكأنَّ الفِطرةَ الطبيعيَّةَ في كلِّ رزقٍ سواءً أَكان رِزقاً ماديًّا أو رِزقًا معنويًّا أنَّه ينتشر؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ مخلوقٌ لِخِدمةِ الإنسان، فعندما يأتي إنسانٌ ويَحوزُ شيئًا مما هو مخلوقٌ لِخدمةِ الإنسانِ ويَحجُبُه فهو بذلك يَمنعُ الشيءَ المكتومَ مِنْ رسالتِه؛ ولْيَتَّسِعْ ظنُّكم إلى أنَّ الجَماداتِ تَحزنُ أيضًا. يقولُ ـ سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماءُ والأرضُ} الدخان: 29. فالسَماءُ والأرضُ لهما بُكاءٌ، ليس بُكاءَ دموعٍ إنَّما هو بكاءُ يَعلمُ اللهُ كُنْهَهُ وحقيقتَه، فقولُه: "وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ" معناه أنّ ما آتاك اللهُ مِن فضلِه ليس مُلْكَكَ وحدَك، فأنتَ لم تأتِ به مِنْ عندِك لتبخلَ به على خلقِ اللهِ الذي أعطاك وأمرك أن تعطي غيرك. قولُه: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} فَصَلَ تَعَالَى تَوَعُّدَ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاخِلِينَ مِنْ تَوَعُّدِ الْكَافِرِينَ بِأَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَ عَدَمَ الْمَحَبَّةِ وَالثَّانِي عَذَابًا مُهِينًا.وانْظُرْ ما فعلَ البخلُ بأهلِه، إنَّه جعلَ صاحبَه كافراً؛ وأورَدَهُ العذابَ المُهينَ في جَهنَّمَ واسْتَحَقَّ كُرْهَ الناسِ له ومَقْتَهم إيّاه، بَدَلَ أنْ يَنالَ رضا اللهِ وبركتَه وحُبَّ الناسِ في الدُنيا، وجزاءَ اللهِ وثوابَه العظيمَ في الآخرة، لأنَّه إنّما ستَر نعمةً كانت تتَّسِعُ لَه ولِغيرِه. و"أَعْتَدْنَا" معناها أَعْدَدْنا وهيَّأنا. وهي مَوجودةٌ وقدْ أُعِدَّتِ جهنَّمُ والجنّةُ فهما موجودتان، والنبيُّ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ يقول: ((عُرضتْ عليَّ الجَنَّةُ، لو مَدَدْتُ يدي لَتَناولتُ مِنْ قُطوفِها)). هذا هو اليَقينُ في أنَّها جاهزة مُعَدَّةٌ وليستْ تحتَ الإعدادِ، ومن الذي أعد؟ إنَّه اللهُ، القويُّ، القادرُ، و"عذاب مهين" يوضِّحُ ـ سبحانَه ـ أنَّ البخيلَ لن يلقى العذابَ فقط، بل سيلقى الذلَّ أيضًا والهوان..قولُه ـ تعالى: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} فيه أوْجُهٌ مِنَ الإعرابِ: الأوَّلُ: أنْ يكونَ بَدَلاً مِنْ "مَن" في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً} الآيةَ السابقة، بَدَلَ كلٍّ مِن كلٍّ، الثاني: أنْ يَكونَ صفةً لها بناءً على رأيِ مَنْ يُجَوِّزُ وُقوعَ المَوصولِ موصوفاً، كالزَجّاجُ، الثالث: أنْ يَكونَ نَصْبًا على الذمِّ، الرابعُ: أنْ يكونَ رفعًا عليْه، الخامسُ: أنْ يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُمُ الذين، السادسُ: أنْ يَكون مبتَدَأً خَبرُهُ محذوفٌ تقديرُه: "مَبغوضون" أو "أَحِقاء بكلِّ مَلامَةٍ" ونحو ذلك مما يؤخَذُ مِنَ السِياقِ وإنَّما حُذِفَ لِتَذْهَبَ نفسُ السامِعِ كلَّ مَذْهَبٍ، وتقديرُه بعد َتمامِ الصِلَةِ أَوْلى، السابعُ: أنْ يَكونَ كما قالَ أبو البَقاءِ: مبتدأَ {والذين} النساء: 38. الآتي معطوفًا عليْه، والخبرُ {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ} النساء: 40. على معنى لا يَظْلمُهُم وهو بعيدٌ جِدًّا. وفرَّقَ الطِيبيُّ بيْن كونِه خبراً ومبتدأ بأنَّه على الأوَّلِ: مُتَّصِلٌ بما قبلَه لأنَّ هذا مِنْ جِنْسِ أوصافِهم التي عُرِفوا بها، وعلى الثاني: مُنقطِعٌ جِيءَ بِهِ لِبَيانِ أحوالِهم، وذُكِرَ أنَّ الوجهَ الاتِّصالُ وأَطالَ الكلامَ عليْه، وفي البُخْلِ أربعُ لُغاتٍ: فتحُ الخاءِ والباءِ وبِها قرأ حَمزةُ والكسائِيُّ وضمّهُما وبِها قَرَأَ الحَسَنُ وعيسى بنُ عُمَرَ، وفتحِ الباءِ وسُكونِ الخاءِ، وبِها قَرَأَ قَتادَةُ، وضَمّ الباءِ وسكون الخاءِ وبها قَرَأَ الجُمهورُ.قولُه: {وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} الجملةُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقَرِّرٌ لِما قبلَها. | |
|