لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً.
(118)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَنَهُ اللَّهُ} صفةٌ ثانيةٌ للشيطانِ بعد الصفة الأولى {مَريداً} التي سلف ذكرُها في الآية السابقة، أي أبعدَه مِن رحمتِه إلى عقابِه بالحُكمِ لَه بالخُلودِ في جهنَّمَ، وأَصْلُ اللَّعْنِ الْإِبْعَادُ والطردُ مِن رحمةِ اللهِ، ويسقط بهذا قولُ مَن قالَ كيف يَصِحُّ أنْ يُقالَ لَعَنَهُ اللهُ وهو في الدُنيا لا يَخلو مِن نعمةٍ تَصِلُ إليه، منَ اللهِ تعالى في كلِّ حالٍ لأنَّه لا يُعْتَدُّ بتلك النِّعمةِ معَ الحُكمِ له بالخلودِ في النارِ. وَهُوَ فِي الْعُرْفِ إِبْعَادٌ مُقتَرِنٌ بِسَخَطٍ وغَضَبٍ، أي إن اللهَ ـ سبحانَه وتعالى ـ طرَدَه مِنْ رَحمتِه، وأَخرَجَه مِن جنَّتِه، كما عَتا وتَمَرَّدَ وخَرَج عن طاعتِه ـ تعالى، فلم يَسْجُدْ لآدَمَ، وقد أَمَرَهْ اللهُ ـ تعالى ـ بالسُجودِ لَه، فلَمَّا طَرَدَهُ اللهُ مِنْ ظلالِ جنَّاتِه بِسبَبِ عِصيانِه بالنِسبةِ لآدَمَ، وجعلَ عملَه في هذا الوُجودِ مُصادمةَ الخيرِ، وجَذْبَ ذُرِّيَّةِ آدمَ إلى الشَرِّ. قال مؤكِّدًا بلسانِ المَقالِ والفِعالِ: لأتَّخِذَنَّ مِنْ عبادِك الذين خَلَقتَهم مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ نَصيبًا مَفروضًا، أيْ مِقدارًا مًعيَّنًا، قليلًا كان أوْ كثيرًا. أيْ أنَّه سيَستَهْوِي طائفةً مِنْ عِبادِ اللهِ، ويُسيْطِرُ على نفوسِهم، ويَجعَلُهم في طاعتِه، بدل أن يكونوا في طاعةِ اللهِ ـ سبحانَه وتعالى. والنصيبُ المَفروضُ هو ما للشيطان في نفسِ كلِّ واحدٍ مِنْ الاسْتِعْدادِ للشَرِّ، الذي هو أحدُ النَجديْن، أي الطريقين: طريق الخير وطريق الشرِّ في قوله ـ تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} البلد: 10. والشيطانُ يأخُذُ مَن يأخُذُه مِن العِبادِ مِن طريقِ السَيطَرَةِ على جانِبِ الشَرِّ بالتزيينِ والوسوسة، وحَسْبُ، فإذا وَسْوَسَ وزيَّن، للنفسِ بما هي مُسْتَعِدَّةٌ إليْه مِنْ فِعْلِ الشَرِّ أتى دورُ العَقلِ في التَبْصِرَةِ بِعاقِبَةِ ذلك، وحَرَّكَ المَلاكُ دَوافِعَ الخيْرِ ونَوازِعَ الفِطْرَةِ، فإذا تَغَلَّبَ مَيْلُ النَفسِ إلى نازعِ الشَرِّ بِما زَيَّنَه الشيطانُ ووَسوَسَ بِه، تَعَلَّقَ الأمرُ بالإرادةِ، صاحبةِ القرارِ والاخْتِيارِ، الذي عليْه يَكونُ الحِسابُ والجَزاءُ المَوعودُ مِنَ اللهِ تعالى، إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًّا فَشَرٌّ، وهنا يأتي دورُ الإرادةِ العُليا مِنَ العَلِيِّ الأعْلى، الذي إنّما بإرادتِه وقُوَّتِهِ ومَدَدِهِ يُنجَزُ الفِعْلُ {كلًّا نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ مِنْ عَطاءِ ربِّك} الإسراء: 20. الذي له وحدَهُ القُوَّةُ ولا قوَّةَ إلاَّ بِهِ ـ سبحانَه: {أنَّ القوةَ لله جميعًا} البقرة: 165. فلَعنةُ اللهِ على إِبْلِيسَ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى التَّعْيِينِ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَفَرَةِ الْمَوْتَى كَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأَبِي جَهْلٍ، فَأَمَّا الْأَحْيَاءُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي (الْبَقَرَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} أَيْ وَقَالَ الشَّيْطَانُ، وَالْمَعْنَى: لَأَسْتَخْلِصَنَّهُمْ بِغِوَايَتِي وَأُضِلَّنَّهُمْ بِإِضْلَالِي، وَهُمُ الْكَفَرَةُ وَالْعُصَاةُ. وَفِي الْخَبَرِ (مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ لِلَّهِ وَالْبَاقِي لِلشَّيْطَانِ). وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى، يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِآدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ) فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَبَعْثُ النَّارِ هُوَ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ. وَاللَّهُ أَعْلُمُ. وَقِيلَ: مِنَ النَّصِيبِ طَاعَتُهُمْ إِيَّاهُ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ لِلْمَوْلُودِ مِسْمَارًا عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَدَوَرَانِهِمْ بِهِ يَوْمَ أُسْبُوعِهِ، يَقُولُونَ: لِيَعْرِفَهُ العُمّارُ، أي عُمّارُ البيوت من الجِنِّ.
قوله تعالى: {لَعَنَهُ الله} جملةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "شيطاناً" ويجوزُ أن تكونَ مستأنَفَةٌ: إمَّا إخبارٌ بذلك، وإمَّا دعاءٌ عليه.
وقولُه: "وقال" فيه ثلاثة أوْجُهٍ: الصفةُ أيضاً، أو الحالُ على إضمارِ "قد" أي: وقد قال، أو على الاستناف. وقولُه: "لأتَّخِذَنَّ" جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ.
وقولُه: {من عبادك} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالفِعلِ قبلَه أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ "نَصيبًا" لأنَّه في الأصلِ صفةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَ عليها.