تابع (2)
وأَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ حَسْبَمَا ذَكَرْنَا،
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْحَضَرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ
التَّيَمُّمَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الصَّحِيحِ أَنْ
يَتَيَمَّمَ إِلَّا أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ أَيْضًا وَاللَّيْثُ وَالطَّبَرِيُّ: إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي
الْحَضَرِ مَعَ خَوْفِ الْوَقْتِ الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى
ثُمَّ أَعَادَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي
الْحَضَرِ لَا لِمَرَضٍ وَلَا لِخَوْفِ الْوَقْتِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ:
لَا يَتَيَمَّمُ الْمَرِيضُ إِذَا وَجَدَ الماءَ، لا غير الْمَرِيضِ. وَسَبَبُ
الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَمَنْ
تَابَعَهُ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ فِي شَرْطِ
التَّيَمُّمِ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ فِيمَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ،
وَالْحَاضِرُونَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمْ وُجُودُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنُصَّ
عَلَيْهِمْ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ أَوْ
خَافَ فَوَاتَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، تَيَمَّمَ الْمُسَافِرُ بِالنَّصِّ،
وَالْحَاضِرُ بِالْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ بِالنَّصِّ وَالصَّحِيحُ
بِالْمَعْنَى. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهُ فِي الْحَضَرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَلَ التَّيَمُّمَ رُخْصَةً لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، كَالْفِطْرِ
وَقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُبِحِ التَّيَمُّمَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ، وَهُمَا
الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ، فَلَا دُخُولَ لِلْحَاضِرِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ
لِخُرُوجِهِ مِنْ شَرْطِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ
الَّذِي مَنَعَهُ جُمْلَةً مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَقَالَ: إِنَّمَا شَرَطَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا" فَلَمْ يُبِحِ
التَّيَمُّمَ لِأَحَدٍ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَلَوْلَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَا رُوِيَ مِنَ الْأَثَرِ لَكَانَ قَوْلُ
الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ صَحِيحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَجَازَ رَسُولُ
اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ التَّيَمُّمَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ
مُسَافِرٌ إِذْ خَافَ الْهَلَاكَ إِنِ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ، فَالْمَرِيضُ أَحْرَى
بِذَلِكَ. قُلْتُ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ
إِذَا خَافَ فَوَاتَ الصَّلَاةِ إِنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَاءِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: "أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ" يَعْنِي الْمُقِيمَ
إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ. نَصَّ عَلَيْهِ الْقُشَيْرِيُّ عَبْدُ
الرَّحِيمِ قَالَ: ثُمَّ يُقْطَعُ النَّظَرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ
عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ عُذْرٌ نَادِرٌ وَفِي الْقَضَاءِ قَوْلَانِ:
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. يُعِيدُ أَبَدًا، وَرَوَاهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ الْوَلِيدُ عَنْهُ: يَغْتَسِلُ وَإِنْ
طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَقْبَلَ
النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ نَحْوِ (بِئْرِ جَمَلٍ)
فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عليْه فلَم يَرُدَّ عليْه النبيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ
وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ
فِيهِ لَفْظُ (بِئْرٍ). وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
وَفِيهِ (ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ وَقَالَ: ((إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي
أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ)).
قولُه
تعالى: "أَوْ
جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ"
الْغَائِطُ أَصْلُهُ مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقْصِدُ
هَذَا الصِّنْفَ مِنَ الْمَوَاضِعِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا تَسَتُّرًا عَنْ أَعْيُنِ
النَّاسِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَثُ الْخَارِجُ مِنَ الْإِنْسَانِ غَائِطًا
لِلْمُقَارَنَةِ. و"أَوْ"
بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَجَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ فَتَيَمَّمُوا فَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلتَّيَمُّمِ
عَلَى هَذَا هُوَ الْحَدَثُ لَا الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ
التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَالصَّحِيحُ فِي (أَوْ) أَنَّهَا
عَلَى بَابِهَا عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ. فَلِأَوْ مَعْنَاهَا، وَلِلْوَاوِ
مَعْنَاهَا. وَهَذَا عِنْدَهُمْ عَلَى الْحَذْفِ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى مَرَضًا لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ أَوْ عَلَى سَفَرٍ
وَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَاحْتَجْتُمْ إِلَى الْمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ولَفْظُ
"الْغائِطِ" يَجْمَعُ بِالْمَعْنَى جَمِيعَ الْأَحْدَاثِ
النَّاقِضَةِ لِلطَّهَارَةِ الصُّغْرَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَصْرِهَا،
وَأَنْبَلُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: زَوَالُ
الْعَقْلِ، خَارِجٌ مُعْتَادٌ، مُلَامَسَةٌ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا
خَرَجَ مِنَ الْجَسَدِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَلَا يُرَاعَى الْمَخْرَجُ وَلَا
يُعَدُّ اللَّمْسُ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بن عَبْدِ
الْحَكَمِ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، وَلَا يُرَاعَى الِاعْتِيَادُ،
وَيُعَدُّ اللَّمْسُ. وقد أَجمعوا عَلَى أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِإِغْمَاءٍ
أَوْ جُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ فعليْه الوُضوءُ، واختلفوا في النومِ هل هو حَدَثٌ كَسائِرِ الأحداث، أَوْ لَيْسَ بِحَدَثٍ أَوْ مَظِنَّةِ
حَدَثٍ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ:
ذَهَبَ الْمُزَنِيُّ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى أَنَّهُ حَدَثٌ،
وَأَنَّ الوضوءَ يَجِبُ بقليلِه وكثيرِهِ كسائرِ الأحداث، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ
مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُتَوَضَّأُ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ
يَخْرُجُ مِنْ ذكر دُبُرٍ أَوْ نَوْمٍ. وَمُقْتَضَى حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ
عَسَّالٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ. رَوَوْهُ جَمِيعًا مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عن زر
ابن حُبَيْشٍ فَقَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ فَقُلْتُ:
جِئْتُكَ أَسْأَلُكَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ فِي
الْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ فَأَمَرَنَا أنْ نَمسَحَ على الخُفَّيْنِ إذا نَحنُ أَدْخَلْناهما عَلَى
طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا، وَلَا
نَخْلَعْهُمَا مِنْ بَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ وَلَا نَوْمٍ وَلَا نَخْلَعْهُمَا إِلَّا
مِنْ جَنَابَةٍ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلُ مَالِكٍ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ
الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنَّوْمِ. قَالُوا: وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ
كَثِيرُهُ وَمَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْلِ مِنْهُ حَدَثًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
قَلِيلُهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ كرَّم اللهُ
وجهَهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وِكَاءُ
السَّهِ (الإست) الْعَيْنَانِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ)). وَهَذَا عَامٌّ.
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي
مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ عِنْدَهُ لَيْسَ
بِحَدَثٍ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، حَتَّى يُحْدِثَ النَّائِمُ حَدَثًا غَيْرَ
النَّوْمِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُوَكِّلُ مَنْ يَحْرُسُهُ إِذَا نَامَ. فَإِنْ لَمْ
يَخْرُجْ مِنْهُ حَدَثٌ قَامَ مِنْ نَوْمِهِ وَصَلَّى، وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي رِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ
خَالِدٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ هَذَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. فَأَمَّا جُمْلَةُ
مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّ كُلَّ نَائِمٍ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا، وَطَالَ نَوْمُهُ
عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَهُوَ قَوْلُ
الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَإِنْ كان النومُ خَفِيفًا لَا
يُخَامِرُ الْقَلْبَ وَلَا يَغْمُرُهُ لَمْ يَضُرَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ: لَا وُضُوءَ إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ
مُتَوَرِّكًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوءَ
عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً يَعْنِي
الْعِشَاءَ فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا
ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ قَالَ: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ)) رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ
لِلْبُخَارِيِّ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ
وَالْعَمَلِ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَصَفْوَانُ بْنُ
عَسَّالٍ فِي حَدِيثِهِ فَمَعْنَاهُ: وَنَوْمٌ ثَقِيلٌ غَالِبٌ عَلَى النَّفْسِ،
بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى
حَدِيثَ صَفْوَانَ وَكِيعٌ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ
فَقَالَ: (أَوْ رِيحٌ) بَدَلُ (أَوْ نَوْمٌ)، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ
يَقُلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (أَوْ رِيحٌ) غَيْرُ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرٍ. قُلْتُ:
وَكِيعٌ ثِقَةٌ إِمَامٌ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا
مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ لِمَنْ
تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ فَضَعِيفٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ
حَتَّى. غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّكَ قَدْ نِمْتَ! فَقَالَ: ((إِنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ
نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ)).
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو خالد عن قَتادة ولا يَصِحُّ، قالَه الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: قَوْلُهُ: ((الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ
مُضْطَجِعًا)) هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ
الدَّالَانِيُّ عن قَتادة، ورَوى أوَّلَه جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ
يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا
حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ قَتَادَةَ الثِّقَاتِ،
وَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ أبو خالد الدلاني، وَأَنْكَرُوهُ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ
فِيمَا نُقِلَ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: عَلَى كُلِّ نَائِمٍ الْوُضُوءَ
إِلَّا عَلَى الْجَالِسِ وَحْدَهُ، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ زَالَ عَنْ حَدِّ
الِاسْتِوَاءِ وَنَامَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، فَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ وَدَاوُودَ،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وابن عُمَرَ، لِأَنَّ الْجَالِسَ لَا
يَكَادُ يَسْتَثْقِلُ، فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّوْمِ الْخَفِيفِ. وَقَدْ رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَنْ نَامَ
جَالِسًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ وَمَنْ وَضَعَ جَنْبَهُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ)).
وَأَمَّا الْخَارِجُ، فَلَنَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ
وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي. فَهَذَا خَارِجٌ عَلَى
غَيْرِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ انْقَطَعَ فَهُوَ مَرَضٌ، وَمَا
كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَلَا وُضُوءَ فِيهِ
إِيجَابًا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا. وَبِاللَّهِ تَوْفِيقُنَا.
وَيُرَدُّ عَلَى الْحَنَفِيِّ حَيْثُ رَاعَى الْخَارِجَ النَّجِسَ. فصحَّ ووَضَحَ
مذهبُ مالك بنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَرَدَّدَ نَفَسٌ، وَعَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ لَمَسْتُمْ جَامَعْتُمْ. الثَّانِي: لَمَسْتُمْ بَاشَرْتُمْ.
الثَّالِثُ: يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَ"لامَسْتُمُ" بِمَعْنَاهُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ، إِلَّا
أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: الْأَوْلَى فِي
اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ "لامَسْتُمُ"
بِمَعْنَى قَبَّلْتُمْ أَوْ نَظِيرَهُ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا.
قَالَ: و"لَمَسْتُمْ" بِمَعْنَى غَشَيْتُمْ وَمَسِسْتُمْ، وَلَيْسَ
لِلْمَرْأَةِ فِي هَذَا فِعْلٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْآيَةِ
عَلَى مَذَاهِبَ خَمْسَةٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُلَامَسَةُ هُنَا مُخْتَصَّةٌ
بِالْيَدِ، وَالْجُنُبُ لَا ذِكْرَ لَهُ إِلَّا مَعَ الْمَاءِ، فَلَمْ يَدْخُلْ
فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: "وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى"
الْآيَةَ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَإِنَّمَا يَغْتَسِلُ
الْجُنُبُ أَوْ يَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ
عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ أبو عمر: ولم يقل بقول عَمْرٍو عبدُ اللَّهِ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ
الرَّأْيِ وَحَمَلَةِ الْآثَارِ، وَذَلِكَ والله أعلم لِحديثِ عمَّارَ وعمرانَ بنِ
حُصَيْنٍ وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَكْسَ هَذَا
الْقَوْلِ، فَقَالَ: الْمُلَامَسَةُ هُنَا مُخْتَصَّةٌ بِاللَّمْسِ الَّذِي هُوَ
الْجِمَاعُ. فَالْجُنُبُ يَتيمَّمُ واللامِسُ بِيَدِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ،
فَلَيْسَ بِحَدَثٍ ولا هو ناقصٌ لِوُضُوئِهِ. فَإِذَا قَبَّلَ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ لِلَذَّةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ، وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ لَهَا مَنْ
هِيَ إِلَّا أَنْتِ؟ فَضَحِكَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُلَامِسُ بِالْجِمَاعِ
يَتَيَمَّمُ، وَالْمُلَامِسُ بِالْيَدِ يَتَيَمَّمُ إِذَا الْتَذَّ. فَإِذَا
لَمَسَهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا وُضُوءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ،
وَهُوَ مُقْتَضَى الآية. وقال عليٌّ بنُ زِيَادٍ: وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ
كَثِيفٌ فَلَا شيءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: مَنْ تَعَمَّدَ مَسَّ امْرَأَتِهِ
بِيَدِهِ لِمُلَاعَبَةٍ فَلْيَتَوَضَّأِ الْتَذَّ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ. قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: وَالَّذِي تَحَقَّقَ
مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْوُضُوءَ إِنَّمَا يَجِبُ لِقَصْدِهِ
اللَّذَّةَ دُونَ وُجُودِهَا، فَمَنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ بِلَمْسِهِ فَقَدْ وَجَبَ
عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، الْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ، وَهَذَا مَعْنَى مَا
فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَأَمَّا
الْإِنْعَاظُ بِمُجَرَّدِهِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا
يُوجِبُ وُضُوءً وَلَا غَسْلَ ذَكَرٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ لَمْسٌ أَوْ مَذْيٌ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ أَنْعَظَ إِنْعَاظًا انْتَقَضَ
وُضُوءُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
إِذَا أَفْضَى الرَّجُلُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ إِلَى بَدَنِ الْمَرْأَةِ سَوَاءً
كَانَ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ تَعَلَّقَ نَقْضُ
الطُّهْرِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ
وَرَبِيعَةَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ نَقَضَ
الطُّهْرَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْيَدِ لَمْ يَنْقُضْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ}. فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ أَسَدُّهَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ مَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ
يَجِبُ بِذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي
أَوَّلِهَا: "وَلا جُنُباً"
أَفَادَ الْجِمَاعَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: "أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ" أَفَادَ الْحَدَثَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: "أَوْ لامَسْتُمُ" أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ. فَصَارَتْ
ثَلَاثَ جُمَلٍ لِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي الْعِلْمِ
وَالْإِعْلَامِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ باللمسِ الجماعَ كان تَكرارًا في الكلام.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَحَدِيثٌ
مُرْسَلٌ، رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَذَكَرَ حَدِيثَ الْأَعْمَشِ
عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عروه فَقَالَ: أَمَّا أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ كَانَ
أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَذَا، زَعَمَ أَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ
شَيْئًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ
بِالْمُرْسَلِ فَيَلْزَمُكُمْ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ. قُلْنَا: تَرَكْنَاهُ
لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُلَامَسَةَ
هِيَ الْجِمَاعُ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْنَا: قَدْ
خَالَفَهُ الْفَارُوقُ وَابْنُهُ وَتَابَعَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
وَهُوَ كُوفِيٌّ، فَمَا لَكُمْ خَالَفْتُمُوهُ؟! فَإِنْ قِيلَ: الْمُلَامَسَةُ
مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ، وَاللَّمْسُ
بِالْيَدِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ هِيَ
الْجِمَاعُ. قُلْنَا: الْمُلَامَسَةُ مُقْتَضَاهَا الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ،
سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنَ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يُوصَفُ لَامِسٌ وَمَلْمُوسٌ. جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ
الْمُلَامَسَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ، وَالثَّوْبُ مَلْمُوسٌ
وَلَيْسَ بِلَامِسٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ (وَأَنَا
يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ). وَتَقُولُ الْعَرَبُ: عَاقَبْتُ
اللِّصَّ وَطَارَقْتُ النَّعْلَ، وَهُوَ كَثِيرٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَبَبَ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْمَجِيءُ مِنَ الْغَائِطِ ذَكَرَ
سَبَبَ الْجَنَابَةِ وهو الملامسة، فبيَّنَ حُكمَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ عِنْدَ
عَدَمِ الْمَاءِ، كَمَا أَفَادَ بَيَانَ حُكْمِهِمَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ.
قُلْنَا: لَا نَمْنَعُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ، وَيُفِيدُ
الْحُكْمَيْنِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ لَمْسِ الرَّجُلِ
الْمَرْأَةَ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِشَهْوَةٍ
أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ فَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ
أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمَسَتْهُ هِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، إِلَّا
الشَّعْرَ، فَإِنَّهُ لَا وُضُوءَ لِمَنْ مَسَّ شَعْرَ امْرَأَتِهِ لِشَهْوَةٍ
كَانَ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَكَذَلِكَ السِّنُّ وَالظُّفُرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ
مُخَالِفٌ لِلْبَشَرَةِ. وَلَوِ احْتَاطَ فَتَوَضَّأَ إِذَا مَسَّ شَعْرَهَا كَانَ
حَسَنًا. وَلَوْ مَسَّهَا بِيَدِهِ أَوْ مَسَّتْهُ بِيَدِهَا مِنْ فَوْقِ
الثَّوْبِ فَالْتَذَّ بِذَلِكَ أو لم يَلْتَذَّ لم يَكُنْ عليهِما شيءٌ حَتَّى
يُفْضِيَ إِلَى الْبَشَرَةِ، وَسَوَاءً فِي ذَلِكَ كَانَ مُتَعَمِّدًا أَوْ
سَاهِيًا، كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً إِذَا كَانَتْ
أَجْنَبِيَّةً. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ إِذَا لَمَسَ صَبِيَّةً صَغِيرَةً أَوْ
عَجُوزًا كَبِيرَةً بِيَدِهِ أَوْ وَاحِدَةً مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ مِمَّنْ لَا
يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، فَمَرَّةً قَالَ: يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" فَلَمْ يُفَرِّقْ. وَالثَّانِي لَا يُنْقَضُ، لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلشَّهْوَةِ
فِيهِنَّ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ
الْكِتَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" وَلَمْ يَقُلْ بِشَهْوَةٍ وَلَا مِنْ غَيْرِ
شَهْوَةٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَشْتَرِطُوا الشَّهْوَةَ. قَالَ:
وَكَذَلِكَ عَامَّةُ التَّابِعِينَ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: فَأَمَّا مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ مُرَاعَاةِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ مِنْ فَوْقِ الثَّوْبِ
يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَلَا
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرَهُمَا. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي
النَّظَرِ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ لَامِسٍ لِامْرَأَتِهِ،
وَغَيْرُ مُمَاسٍّ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا هُوَ لَامِسٌ لِثَوْبِهَا.
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ تَلَذَّذَ وَاشْتَهَى أَنْ يَلْمِسَ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ وُضُوءٌ، فَكَذَلِكَ مَنْ لَمَسَ فَوْقَ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُمَاسٍّ لِلْمَرْأَةِ. أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ مَالِكًا
عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَحْمَدَ، وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ كُلُّهُمْ قَالُوا: إِذَا لَمَسَ
فَالْتَذَّ وَجَبَ الْوُضُوءُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَذَّ فَلَا وُضُوءَ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: (وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي النَّظَرِ) فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ جَاءَ
فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرِجْلَايَ
فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ
بَسَطْتُهُمَا ثَانِيًا، قَالَتْ وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا
مَصَابِيحُ. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ كَانَ الْمُلَامِسَ، وَأَنَّهُ غَمَزَ رِجْلَيْ عَائِشَةَ، كَمَا فِي
رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ (فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ
رِجْلَيَّ فَقَبَضْتُهُمَا) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ
قَوْلِهِ: "أَوْ لامَسْتُمُ"
فَكَانَ وَاجِبًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ انْتِقَاضُ وُضُوءِ كُلِّ مُلَامِسٍ كَيْفَ
لَامَسَ. وَدَلَّتِ السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ الْبَيَانُ لِكِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى أَنَّ الْوُضُوءَ عَلَى بَعْضِ الْمُلَامِسِينَ دُونَ بَعْضٍ، وهو مَنْ
لمْ يَلْتَذَّ ولم يَقصُدْ. وَلَا يُقَالُ: فَلَعَلَّهُ كَانَ عَلَى قَدَمَيْ
عَائِشَةَ ثَوْبٌ، أَوْ كَانَ يَضْرِبُ رِجْلَيْهَا بِكُمِّهِ، فَإِنَّا نَقُولُ:
حَقِيقَةُ الْغَمْزِ إِنَّمَا هُوَ بِالْيَدِ، وَمِنْهُ غَمْزُكَ الْكَبْشَ أَيْ
تَجُسُّهُ لِتَنْظُرَ أَهُوَ سَمِينٌ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْغَمْزُ
الضَّرْبَ بِالْكُمِّ فَلَا. وَالرِّجْلُ مِنَ النَّائِمِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا
ظُهُورُهَا مِنَ النَّائِمِ، لَا سِيَّمَا مَعَ امْتِدَادِهِ وَضِيقِ حَالِهِ.
فَهَذِهِ كَانَتِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهَا:
(وَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا) وَقَوْلُهَا: (وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ
فِيهَا مَصَابِيحُ). وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا عَنْهَا قَالَتْ: (كُنْتُ أَمُدُّ
رِجْلَيَّ فِي قِبْلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتُهُمَا، فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهُمَا)
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَظَهَرَ أَنَّ الْغَمْزَ كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَعَ
الْمُبَاشَرَةِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ أَيْضًا ـ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى
بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، الْحَدِيثَ.
فَلَمَّا وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَتَمَادَى فِي
سُجُودِهِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ إِلَّا عَلَى
بَعْضِ الْمُلَامِسِينَ دُونَ بَعْضٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ عَلَى قَدَمِهِ حَائِلٌ
كَمَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ. قِيلَ لَهُ: الْقَدَمُ قَدَمٌ بِلَا حَائِلٍ حَتَّى
يَثْبُتَ الْحَائِلُ، وَالْأَصْلُ الْوُقُوفُ مَعَ الظَّاهِرِ، بَلْ بِمَجْمُوعِ
مَا ذَكَرْنَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ كَالنَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجْمَعَتِ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوِ اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً فَمَسَّ خِتَانُهُ
خِتَانَهَا وَهِيَ لَا تَلْتَذُّ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ نَائِمَةً فَلَمْ
تَلْتَذَّ وَلَمْ تَشْتَهِ أَنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ حُكْمُ
مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَامَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ انْتَقَضَتْ
طَهَارَتُهُ وَوَجَبَ عليه الوضوءُ، لأنَّ المعنى في الجَسَّةِ واللمسِ
وَالْقُبْلَةِ الْفِعْلُ لَا اللَّذَّةُ. قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
الْأَعْمَشَ وَغَيْرَهُ قَدْ خَالَفَ فِيمَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ
فَلَا يَلْزَمُ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيمَا زَعَمْتُمْ إِنَّهُ لَمْ
يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ شَيْخُهُ مَالِكٌ، كَمَا هُوَ
مَشْهُورٌ (إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَخُذُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي) وَقَدْ ثَبَتَ
الْحَدِيثُ بِذَلِكَ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يُصَلِّي وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ
ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى
عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا.
وَهَذَا يَرُدُّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أحد قوليه: لو لمس صغيرةً لَانْتَقَضَ
طُهْرُهُ تَمَسُّكًا بِلَفْظِ النِّسَاءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ لَمْسَ
الصَّغِيرَةِ كَلَمْسِ الْحَائِطِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ
لِأَجْلٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ اللَّذَّةَ، وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا اللَّذَّةَ
فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا قَوْلُ
الْأَوْزَاعِيِّ في اعتباره اليدَ خاصَّة، فلأنَّ اللَّمْسَ أَكْثَرُ مَا
يُسْتَعْمَلُ بِالْيَدِ، فَقَصَرَهُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ،
حَتَّى إِنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ الرَّجُلُ رِجْلَيْهِ فِي ثِيَابِ امْرَأَتِهِ
فَمَسَّ فرجَها أو بَطنَها لا يَنتقضُ بذلك وُضُوءُهُ. وَقَالَ فِي الرَّجُلِ
يُقَبِّلُ امْرَأَتَهُ: إِنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي قُلْتُ يَتَوَضَّأُ، وَإِنْ لَمْ
يَتَوَضَّأْ لَمْ أَعِبْهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ قَبَّلَ
امْرَأَتَهُ أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ لَمَسَهَا. وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: "فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً"
الْأَسْبَابُ الَّتِي لَا يَجِدُ الْمُسَافِرُ مَعَهَا الْمَاءَ هِيَ إِمَّا
عَدَمُهُ جُمْلَةً أَوْ عَدَمُ بَعْضِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ
الرَّفِيقِ، أَوْ عَلَى الرَّحْلِ بِسَبَبِ طَلَبِهِ، أَوْ يَخَافُ لُصُوصًا أَوْ
سِبَاعًا، أَوْ فَوَاتَ الْوَقْتِ، أَوْ عَطَشًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ،
وَكَذَلِكَ لِطَبِيخٍ يَطْبُخُهُ لِمَصْلَحَةِ بَدَنِهِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى. وَيَتَرَتَّبُ عَدَمُهُ لِلْمَرِيضِ
بِأَلَّا يَجِدَ مَنْ يُنَاوِلُهُ، أَوْ يَخَافَ مِنْ ضَرَرِهِ. وَيَتَرَتَّبُ
أَيْضًا عَدَمُهُ لِلصَّحِيحِ الْحَاضِرِ بِالْغَلَاءِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ
الْأَصْنَافِ، أَوْ بِأَنْ يُسْجَنَ أَوْ يُرْبَطَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَشْتَرِي
الرَّجُلُ الْمَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَيَبْقَى عَدِيمًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ،
لِأَنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَشْتَرِيهِ مَا لَمْ يَزِدْ
عَلَى الْقِيمَةِ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَشْتَرِي قِيمَةَ
الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَنَحْوَ هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ لِأَشْهَبَ: أَتُشْتَرَى الْقِرْبَةُ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ؟ فَقَالَ: مَا أَرَى ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ الشافعي
بعدم الزيادة.
وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ هَلْ طَلَبُ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ أَمْ لَا؟
فَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ نَصْرٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ فِي السَّفَرِ عَلَى غَلْوَتَيْنِ مِنْ
طَرِيقِهِ فَلَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ. قَالَ إِسْحَاقُ: لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ
إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
"فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً" وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا
يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ. وَأَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ
أَنَّ هَذَا بَدَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ مُبْدَلِهِ، فَلَا
يُجْزِئُ فِعْلُهُ إِلَّا مَعَ تَيَقُّنِ عَدَمِ مُبْدَلِهِ، كَالصَّوْمِ مَعَ
الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ.
وَإِذَا
وَعُدِمَ الْمَاءُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ
الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْوَقْتِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وُجُودُهُ
وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ لَهُ، أَوْ يَتَسَاوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ
أَحْوَالٍ: فَالْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ: لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لَهُ أَنْ يُحْرِزَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ. الثَّانِي: يَتَيَمَّمُ وَسَطَ
الْوَقْتِ، حَكَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ، فَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ رَجَاءَ
إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْمَاءِ مَا لَمْ تَفُتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ،
فَإِنَّ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَدْ تُدْرَكُ بِوَسَطِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إِلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فِي آخِرِ
الْوَقْتِ، لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْمَاءِ أَعْظَمُ مِنْ فَضِيلَةِ أَوَّلِ
الْوَقْتِ، لِأَنَّ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَفَضِيلَةُ
الْمَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَفَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجُوزُ تَرْكُهَا
دُونَ ضَرُورَةٍ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ فَضِيلَةِ الْمَاءِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ،
وَالْوَقْتُ فِي ذَلِكَ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، قَالَهُ ابن حبيب. ولو
عَلِمَ وُجودَ الْمَاءَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَتَيَمَّمَ فِي أَوَّلِهِ وَصَلَّى
فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُجْزِئُهُ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ أَعَادَ فِي
الْوَقْتِ خَاصَّةً. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ وَجَدَ
الْمَاءَ بعد أعادَ أبدًا.