فيض العليم من معاني الذكر الحكيم
موسوعةقرآنية
اختيار وتأليف
الشاعر عبد القادر الأسود
سورة آل عمران، الآية: 196
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ. (196)
قولُه ـ تبارك وتعالى: {لا يغرنّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} أي لاَ تَنْظُرْ إلَى مَا أتْرِفَ فِيهِ هَؤُلاءِ الكُفَّارُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ وَالسُّرُورِ. وَلاَ تَعْجَبْ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ ثُمَّ عَوْدَتِهُمْ سَالِمِينَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ. فجاءَ النهيُ الكريمُ لِيَمنَعَ مَنْ تُوَسْوِسُ له نفسُه مِنْ أنْ يَغْترَّ بما عليه هؤلاء المشركون مِن قوَّةٍ وسَطْوةٍ ومَتاعٍ دُنيويٍّ.
والخطابُ للنبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، والمُرادُ منه أُمَّتُه، وكثيراً ما يُخاطَبُ سَيِّدُ القومِ بشيءٍ ويُرادُ أَتباعُه فيَقومُ خِطابُهُ مَقامَ خِطابِهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ الخِطابُ عامّاً للنَبيِّ وغيرِهِ بطريقِ التَغْليبِ تَطيِيباً لِقُلوبِ المُخاطَبين، وقيل: إنَّه خِطابٌ له ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ على أنَّ المُرادَ تَثبيتُه على ما هو عليه، كقولِه تعالى: {فَلاَ تُطِعِ المُكذِّبين} القلم: 8. وضَعُفَ قولُ مَنْ قالَ بأنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ لا يَكونُ منْه تَزَلْزُلٌ حتّى يُؤمَرَ بالثَباتِ، وفيه نظرٌ لا يَخفى، والنهيُ في المَعنى للمُخاطَبِ أيْ لا تَغْتَرَّ بما عليْه الكَفَرةُ مِن التَبَسُّطِ في المَكاسِبِ والمَتاجِرِ والمَزارِعِ ووُفورِ الحَظِّ، وإنَّما جُعِلَ النهيُ ظاهراً للتقلُّبِ تَنزيلاً للسَببِ منزلةَ المُسبّبِ فإنَّ تغريرَ التقلُّبِ للمُخاطَبِ سببٌ واغترارُه بِه مُسبَّبٌ فمَنَعَ السببَ بِوُرودِ النهيِ عليْهِ لِيمتَنِعَ المُسبّبُ الذي هو اغْتِرارُ المُخاطَبِ بذلك السببِ على طريقٍ بُرهانيٍّ وهو أَبلغُ مِن وُرودِ النهيِ على المُسبّبِ مِن أوَّلِ الأمرِ. وهذا على عكسُ قولِ القائلِ: لا أُرينَكَ هُنا فإنَّ فيه النهيُ عنِ المُسبِّبِ وهو الرُؤيَةُ لِيمتَنِعَ السببُ وهو حضورُ المُخاطَبِ. والعصمةُ لا تَمنعُ النَّهيَ فإنَّه لو زَالَ النهيُ عنه بِذلك لَبَطَلتِ العِصمةُ فإنَّ العِصمةَ هيَ الحِفظُ مِن الخِلافِ وإذا زَالَ النهيُ لم يَكنْ خِلافٌ فلا تَكونُ عِصمةٌ، فالمُرادُ تثبيتُه على ما هو عليْه مِنْ عدمِ الْتِفاتِه على الدنيا.
والتَقَلُّبُ يَحتاجُ إلى قُدْرَةٍ على الحَرَكةِ. والقدرةُ على الحركةِ تكون في مكانِ الإنسانِ وبِلادِه، فإذا اتَّسَعتْ قدرتُكَ على الحَرَكةِ وانْتَقَلتْ إلى بَلَدٍ آخر، فعندئذ يُقالُ عن هذا الإنسان: "فلان نشاطه واسع" أيْ أنَّ البيئةَ التي تَحيا فيها ليستْ على قَدْرِ قُدرتِه، بلْ إنَّ قدرتَه أكبرُ مِن بيئتِه، لذلك فإنَّه يَخرُجُ مِن بَلَدِه. فكفَّارُ قريشٍ كانوا يَرحَلونَ مِنْ بلدِهم في رَحَلاتٍ خارجَها. لذلك قال الحقُّ ـ سبحانَه: "لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد".وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} المؤمن: 4.
وقرأ ابنُ أبي إسحاق: {لاَ يَغُرنكَ}: بتخفيف النون، وكذلك: {لاَ يَغُرَّنْكمْ} فاطر: 5. و{فَلاَ يَصُدَّنْك} طه: 16. و{وَلاَ يَصُدَّنْكم} الزخرف: 62.