عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 191 الإثنين أبريل 15, 2013 2:18 am | |
| الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
( 191 ) قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ} وصفٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ الذين ذَكَرَهمْ في الآيةِ السابقةِ فَيَقُولُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمُ يَذْكُرُونَ اللهَ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَلاَ يَنقْطَعُونَ عن ذِكْرِ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، وبِسَرَائِرِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ، وَمِنْ حِكَمٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ، تَدُلُ عَليه ـ سبحانه، وَتشير إلى عظيمِ قُدْرَتِهِ، وَبالغِ حِكْمَتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً، رَبَّنَا تَنَزَّهْتَ عَنِ العَبَثِ وَالبَاطِلِ، وَإنَّمَا خَلَقْتَ ذلك كلِّه بِالحَقِّ، بما في ذلك الإِنْسَانُ. وَمَتَى حُشِرَ الخَلْقُ إلَيكَ حَاسَبْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فَتَجْزِي الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا، وَتَجْزِي الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ثُمَّ يُتِمُّونَ دُعَاءَهُمْ سَائِلِينَ رَبَّهُمْ أنْ يَقِيَهُمْ عَذابَ النَّارِ.عن أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ: ((يُنادي مُنادٍ يَومَ القيامةِ أينَ أُولُو الألبابِ؟ قالوا: أيَّ أُولي الأَلبابِ تُريدُ؟ قال: "الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً" الخ.. عُقِدَ لهم لواءٌ فاتَّبَعَ القومُ لواءَهم وقالَ لَهم ادْخُلوها خالدين)). والظاهرُ أنَّ المُرادَ مِن الذِكْرِ ـ هنا ـ الذِكرُ باللِّسانِ، لكنْ معَ حُضورِ القلبِ إذْ لا تُمدَحُ بالذِكْرِ بِدونِه بَلْ أَجْمَعوا على أنَّه لا ثَوابَ لِذاكرٍ غافلٍ، وإليْه ذَهَبَ كَثيرٌ، وعَدَّ ابنُ جُرَيْجٍ قراءةَ القرآنِ ذِكراً فلا تُكْرَهُ للمُضطجعِ القادِرِ، ونَصَّ بعضُ الشافعيَّةِ على كراهتِها لَه إذا غَطَّى رأسَهُ للنَّومِ، وقالَ بعضُ المُحقِّقين: المُرادُ بِالذكرِ ذِكْرُه ـ تعالى ـ مُطلَقاً سَواءً كان ذلك مِن حيثُ الذاتِ أوْ مِن حيثُ الصفاتِ والأفعالِ، وسَواءٌ قارَنَهُ ذِكرُ اللِّسانِ أو لا. وعليه فالمَعنى الذين لا يَغفُلون عنْه ـ تعالى ـ في عامَّةِ أوقاتِهم باطْمِئنان قلوبِهم بِذِكْرِه ـ سبحانَه ـ واسْتِغْراقِ سَرائرِهم في مُراقَبَتِه، وهو ما يُسمِّيهِ أهلُ اللهِ بالحُضورِ مَعَ اللهِ ـ تعالى ـ والذي هو ثمرةٌ من ثمرات الذكرِ وغايةٌ من غاياته، فالذِكرُ بالقلبِ دون اللسانِ يدخُلُ في بابِ الحُضورِ معَ اللهِ أو التَفكُّرِ في آلائِهِ لا بالذِكْرِ. وعليه فيُحمَلُ ما حُكِيَ عنْ ابنِ عُمَرَ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وعُروةَ بنِ الزّبيْرِ، وجماعةٍ ـ رَضيَ اللهُ عنهم ـ مِن أنَّهم خَرجوا يَومَ العيدِ إلى المُصلّى فجَعلوا يَذكرونَ اللهَ ـ تعالى ـ فقال بعضُهم: أمَا قال اللهُ تَعالى: "يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً" فقاموا على أقدامِهم يَذكُرون اللهَ، على أنَّ مُرادَهم بِذلك التَبَرُّكُ بِموافقةِ الآية في فردٍ من أفرادِ مَدلولِها وليس مُرادُهم بِه تفسيرَها، وإلَّا لاضطجَعوا وذَكروا أيْضاً. وقد ذَكَرَ ـ تَعَالَى ـ ثلاثَ هيئاتٍ لا يَخلوا ابْنُ آدَمَ مِنْهَا فِي غَالِبِ أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهَا تَحْصُرُ زَمَانَهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ أمِّ المؤمنين، عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ عَلَى الْخَلَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَأَجَازَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ، وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يَصْعَدُ. الْمَعْنَى: تَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَكْتُوبًا فِي صُحُفِهِمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، ودَلِيلُهُ قولُه ـ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق: 18. وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ} الانفطار: 11 ـ 10. ولأنّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ عِبَادَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَقَالَ: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} الأحزاب: 41. وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة: 152. وَقَالَ: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} الكهف: 3. فَعَمَّم. فَذَاكِرُ اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ عَلَى كُلِّ حَالَاتِهِ مُثَابٌ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا رَبِّ أَقَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيَكَ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ قَالَ: يَا مُوسَى أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّا نَكُونُ مِنَ الْحَالِ عَلَى حَالٍ نُجِلُّكَ وَنُعَظِّمُكَ أَنْ نَذْكُرَكَ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْجَنَابَةُ وَالْغَائِطُ قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ). وَكَرَاهِيَةُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ إِمَّا لِتَنْزِيهِ ذِكْرِ اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَرْغُوبِ عَنْ ذِكْرِهِ فِيهَا كَكَرَاهِيَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْحَمَّامِ، وَإِمَّا إِبْقَاءً عَلَى الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهُمْ مَوْضِعَ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ لِكِتَابَةِ مَا يَلْفِظُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. و"يَذْكُرُونَ" إِمَّا ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَإِمَّا الصَّلَاةُ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، أخرج ابنُ أبي حاتَمٍ والطَبرانيُّ مِن طريقِ جُويْبِرٍ عنِ الضَحَّاكِ عنْ ابنِ مَسعودٍ في الآيةِ أنَّه قال: إنَّما هذا في الصَلاةِ إذا لم تَستَطِعْ قائماً فقاعداً وإنْ لمْ تَسْتَطِعْ قاعداً فعلى جَنْبٍ، وكذلك أمرَ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عُمرانَ بنَ حُصَيْنٍ، وكانت بِه بَواسيرُ، كما أخرجه البخاريُّ عنه وبهذا الخبرِ احتجَّ الإمامُ الشافعيُّ ـ رَضيَ اللهُ ـ تعالى ـ عنْه على أنَّ المريضَ يُصلّي مُضطجعاً على جَنْبِهِ الأيْمنِ مُستقبِلاً بِمَقادِمِ بَدنِه، ولا يَجوزُ لَه أنْ يَسْتَلْقِيَ على ظَهرِهِ على ما ذَهَبَ إليْه الإمامُ أبو حنيفةَ ـ رَضيَ اللهُ ـ تعالى ـ عنه، وجعل الآيةَ حُجَّةً على ذلك بناءً على أنَّه لَمّا حُصِرَ أمرُ الذاكِرِ في الهيئاتِ المَذكورةِ دَلَّ على أنَّ غيرَها ليْس مِن هيئتِه والصلاةُ مُشتَمِلَةٌ على الذِكْرِ فلا يَنبغي أنْ تَكونَ على غيرِ هيئتِه وهو مَحَلُّ تأمُّلٍ. فتَخصيصُ ابنِ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ الذكرَ بالصلاةِ لا يَنْتَهضُ حُجَّةً على أنَّه بَعيدٌ مِن سِياقِ النَظْمِ الجليلِ، بل الصلاةُ هي وجهٌ من وجوه الذكرِ لقولِهِ ـ تَعالى ـ {وأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْري}، طه: 14. فذكرُ الله جلَّ وعَلا أعمُّ وأشملُ وليس محدّدًا بكيفيّة أو وقتٍ كما هو الحالُ في الصلاةِ التي اشتُرطَ لها هيئاتٌ وكَيفِيَّاتٌ وأَوْقاتٌ وعدد محدّدٌ من الركعاتِ، كما اشتُرِط لها الطهارةُ، أمَّا الذكرُ فلم يُشتَرَطْ لَه شيءٌ من ذلك، واللهُ أعلمُ بمرادِه. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ فِي النَّافِلَةِ، عَلَى مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْقَاعِدِ وَهَيْئَتِهَا، فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ فِي قيامه، وقال الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ تَهَيَّأَ لِلسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُتَنَفِّلُ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ: يَجْلِسُ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: يَجْلِسُ كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ، وَكَذَلِكَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ أَوْ ظَهْرِهِ عَلَى التَّخْيِيرِ، هَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَكْسُهُ، يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَرِ، وَإِلَّا فَعَلَى الظَّهْرِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُصَلِّي عَلَى الْأَيْمَنِ كَمَا يُجْعَلُ فِي لَحْدِهِ، وَإِلَّا فَعَلَى ظَهْرِهِ وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا صَلَّى مُضْطَجِعًا تَكُونُ رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ. وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. فَإِنْ قَوِيَ لِخِفَّةِ الْمَرَضِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنَّهُ يَقُومُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ وَالطَّبَرِيِّ. وقال أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ صَلَّى مُضْطَجِعًا رَكْعَةً ثُمَّ صَحَّ: أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا، وَلَوْ كَانَ قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ثُمَّ صَحَّ بَنَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَبْنِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَائِمًا ثُمَّ صَارَ إِلَى حَدِّ الْإِيمَاءِ فَلْيَبْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ وَالْجُلُوسَ: إِنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَيُومِئُ إِلَى الرُّكُوعِ، فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ جَلَسَ وَأَوْمَأَ إِلَى السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ، أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُصَلِّي قَاعِدًا. وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّاقِدِ الصَّحِيحِ فَرُوِيَ عَنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ "صَلَاةُ الرَّاقِدِ مِثْلُ نِصْفِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُجِيزُونَ النَّافِلَ مُضْطَجِعًا، وَهُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ إلا حسين المعلم وهو حسين ابن ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى حُسَيْنٍ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ اخْتِلَافًا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ أَجَازَ النَّافِلَةَ مُضْطَجِعًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ أَوْ عَلَى الْقِيَامِ فَوَجْهُهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهِيَ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَةِ النَّافِلَةِ رَاقِدًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ أَوِ الْقِيَامِ، فَحَدِيثُ حُسَيْنٍ هَذَا إِمَّا غَلَطٌ وَإِمَّا مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآية الذين يستدلون بخلق السموات وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُغَيِّرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ الرُّسُلَ، فَإِنْ بَعَثَ رَسُولًا وَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْرٌ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لقد عَطَفَ الله ـ تَعَالَى ـ عِبَادَةً أُخْرَى، وَهِيَ التَّفَكُّرُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَخْلُوقَاتِهِ وَالْعِبَرِ الَّذِي بَثَّ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أزيد بَصَائِرِهِمْ، قال أبو العتاهية:وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ............................... تَدُلُّ على أنه واحدوَالْفِكْرَةُ: تَرَدُّدُ الْقَلْبِ فِي الشَّيْءِ، يُقَالُ: تَفَكَّرَ، وَرَجُلٌ فَكِيرٌ كَثِيرٌ الْفِكْرِ، وَمَرَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى قَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّهِ فَقَالَ: ((تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ قَدْرَهُ)) وَإِنَّمَا التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ وَانْبِسَاطُ الذِّهْنِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". وَحُكِيَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَأَى الْكَوَاكِبَ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَبُولُ الدَّمَ مِنْ طُولِ حُزْنِهِ وَفِكْرَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ وَإِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لَكِ رَبًّا وَخَالِقًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ)). وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ)). وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ. قِيلَ له: أَفَتَرى التَفَكُّرَ عملاً مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ. وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالتَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، وَقَالَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْفِكْرَةُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ يَنْظُرُ فِيهَا إِلَى حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ. وَمِمَّا يُتَفَكَّرُ فِيهِ مَخَاوِفُ الْآخِرَةِ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَالنَّارِ وَعَذَابِهَا. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ قَدَحَ الْمَاءِ لِيَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَعِنْدَهُ ضَيْفٌ، فَرَآهُ لَمَّا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِ الْقَدَحِ أَقَامَ لِذَلِكَ مُتَفَكِّرًا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمَّا طَرَحْتُ أُصْبُعِي فِي أُذُنِ الْقَدَحِ تَفَكَّرْتُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} المؤمن: 71. تَفَكَّرْتُ، فِي حَالِي وَكَيْفَ أَتَلَقَّى الْغُلَّ إِنْ طُرِحَ فِي عُنُقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا زِلْتُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحْتُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "وَهَذَا نِهَايَةُ الْخَوْفِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَلَيْسَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، وَقِرَاءَةُ عِلْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَانِي سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَفْهَمُ وَيُرْجَى نَفْعُهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ: التَّفَكُّرُ أَمِ الصَّلَاةُ (أي النافلة)، فَذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُ، الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، وَفِيهِ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ العَشْرَ الخَواتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى جَمْعِهِ بَيْنَ التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ هِيَ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ قَالَ: كُنْتُ بَائِتاً فِي مَسْجِدٍ بِمِصْرَ فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا قَدِ اضْطَجَعَ فِي كِسَاءٍ لَهُ مُسَجًّى بِكِسَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَلَّيْنَا نَحْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ، فَاسْتَعْظَمْتُ جَرَاءَتَهُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا فَرَغَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ فَتَبِعْتُهُ لِأَعِظَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ شِعْرًا:مُسَجَّى الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِرْ ................. مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْمُنْقَبِضٌ فِي الْغُيُوبِ مُنْبَسِطْ ................... كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفًا ذَاكِرْيَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَرْ ...................... فَهْوَ مدى الليل نائمٌ ماهرْقَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ بِالْفِكْرَةِ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ. وعن عطاء بنِ أبي رباح قال: دخلتُ معَ ابنِ عُمَرَ وعُبيدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ على عائشة رضيَ اللهُ عنها فسَلَّمتُ عليها فقالت: مَنْ هؤلاءِ؟ فقلتُ عُبيدُ اللهِ بنُ عُمرَ. فقالتْ: مَرحَبًا بِكَ يا عُبيدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، ما لَكَ لا تَزورُنا؟ فقال عبيدُ الله: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا. قال ابنُ عُمرَ دعونا مِن هذا، حدِّثينا بأعْجَبِ ما رأيتِ مِنْ رَسولِ اللهِ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ فبَكتْ بكاءً شديدًا فقالت: كلُّ أمرِهِ عَجيبٌ، أتاني في ليلتي فدخلَ في فِراشي حتَّى ألصَقَ جلدَه بِجِلْدي فقال: ((يا عائشةُ أَتأذَنينَ لي أنْ أتَعَبَّدَ لِربّي)). فقلتُ واللهِ إنّي لأحِبَّ قربَك وهَواك، قد أذِنْتُ لكَ فقامَ إلى قُرْبَةٍ مِنْ ماءٍ فتوضّأَ منها ثمَّ قام فبَكى وهو قائمٌ حتّى بَلَغَ الدُموعُ حَقَويْهِ حتَّى اتَّكأَ على شِقِّهِ الأيمنِ ووضعَ يدَه اليُمنى تحتَ خَدِّه الأيمنِ فبَكى حتَى ادرّتِ الدُموعُ وبَلَغَتِ الأرضَ ثمَّ أتاه بِلالٌ بعدَما أذَّنَ للفَجْرِ فلمّا رآه يَبْكي قال: لِمَ تَبكي يا رسولَ اللهِ وقد غُفِرَ لَكَ ما تقدَّمَ مِن ذنبِكَ وما تَأخَّرَ؟ قال: ((يا بِلالُ أَفَلا أكونُ عبدًا شَكورًا؟ ومالي لا أبْكي وقد أنْزِلَتْ علي الليلةَ إنَّ في خلقِ السمواتِ والأرضِ ـ إلى قولِه: ـ فقِنا عذابَ النارِ، ويلٌ لِمن قَرَأها ولم يَتَفَكَّرْ فيها)). وفي الحديث: ((تَفَكُّرُ ساعةٍ خيرٌ مِنْ عِبادةِ ستينَ سنة)).قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَسْتَفْتِحَ قِيَامَهُ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَسَيَأْتِي، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْعَمَلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ" كُلَّ لَيْلَةٍ، خَرَّجَهُ أَبُو نَصْرٍ الْوَائِلِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ" الْإِبَانَةِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ.وفي التفصيلِ وجهان. أحدُهُما أنَّ التَفَكُّرَ يُوصِلُكَ إلى اللهِ والعِبادةُ تُوصِلُكَ إلى ثَوابِ اللهِ، والذي يُوصِلُك إلى اللهِ خيرٌ مما يُوصِلُكَ إلى غيرِ اللهِ. والثاني أنَّ التَفَكُّرَ عملُ القلبِ والطاعةُ عملُ الجَوارِحِ، والقلبُ أشرفُ مِن الجَوارِحِ فكان عملُ القلبِ أشرفَ مِن عملِ الجَوارحِ.ثمَّ شَرَعَ في تعليمِ الدُعاءِ تنبيهًا على أنَّ الدُعاءَ إنَّما يُجدي ويَستحِقُّ الإجابةَ إذا كان بعدَ تقديمِ الوَسيلةِ وهي إقامةُ وظائفِ العُبوديَّةِ مِن الذِكْرِ والفِكرِ فقال: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}. و"سبحانك" أي نُنزِّهُكَ عمَّا لا يَليقُ بِك مِن الأمورِ "فقنا عذاب النار" الذي هو جزاءُ الذين لا يعرفون ذلك.وذِكرُ اللِّسانِ يُوصِلُ صاحبَه إلى ذِكرِ القلبِ وهو التَفَكُّرُ في قدرةِ الله، وذِكرُ القلبِ يُوصِلُ إلى مَقامِ الرّوحِ فيَعرِفَ في ذلك حقائقَ الأشياءِ ويُشاهدُ الحِكَمَ الإلهيَّةَ فى خلقِ اللهِ فيَقولُ بعدَ المُشاهدةِ "ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلًا". قوله ـ تعالى: {الذين يَذْكُرُونَ} فيه خمسةُ أوْجُهٍ، أوَّلُها: أنَّه نعتٌ لـ "أُولِي"، فهو مجرورٌ. وثانِيها: أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: همُ الذين. وثالثُها: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ "أعني"، وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقَطعِ. الرابع: أنَّه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: يقولون: "ربَّنا". وخامسُها: أنَّه بَدلٌ من "أُولي". وأوَّلُ الوُجوهِ هو أحسنُها.وقولُه: {قِيَاماً وَقُعُوداً} حالان من فاعل "يَذْكُرون". وقولُه: {وعلى جُنُوبِهِمْ} حالٌ أيضاً فيتعلَّقُ بمحذوف، والمعنى: يَذكرونَه قياماً وقعوداً ومُضطَجعين، فَعَطَفَ الحالَ المؤوَّلةَ على الصريحةِ، عكسَ الآيةِ الأُخرى وهي قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} يونس: 12، حيث عطفَ الصريحةَ على المؤوّلة. و"قياماً" و"قعوداً" جمعان لـ "قائم" و"قاعد". وأُجيزَ أنْ يكونا مصدريْن، وحينئذٍ يتأوَّلان على معنى ذوي قيامٍ وقعودٍ، ولا حاجةَ إلى هذا.قولُه: {وَيَتَفَكَّرُونَ} فيه وجهان، أظهرُها: أنَّها عطفٌ على الصِلةِ فلا مَحَلَّ لها. والثاني: أنَّها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ عطفاً على "قياماً" أي: يَذكرونَه مَتَفكِّرين. فإنْ قيل: هذا مُضارعٌ مُثْبَتٌ فكيفَ دخلتْ عليه الواوُ؟ فالجوابُ أنَّ هذه واوُ العطفِ، والممنوعُ إنَّما هو واوُ الحال.و"خَلْق" فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مصدرٌ على أصلِه أي: يتفكرون في صنعةِ هذه المخلوقاتِ العَجيبةِ، ويكونُ مصدراً مُضافاً لِمفعولِه. والثاني: أنَّه بمعنى المفعولِ، أي: في مخلوقِ السماوات والأرضِ، وتكونُ إضافتُه في المعنى إلى الظَرفِ أيْ: يَتفكَّرون فيما أَوْدَعَ اللهُ هذيْن الظَرْفيْن مِنَ الكواكبِ وغيرِها. قوله: "ربَّنا" هذه الجملةُ في محلِّ نَصبٍ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه: يقولون. والجملةُ القَوليَّةُ فيها وجهان، أظهرُهما: أنَّها حالٌ مِن فاعلِ "يتفكرون" أي: يتفكَّرون قائلين: "ربَّنا"، وإذا أَعربْنا "يتفكرون" حالاً كما تقدَّمَ فتكونُ الحالان متداخلتين. والوجهُ الثاني: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لـ "الذين" على قولِنا بأنَّه مبتدأٌ، كما تقدَّم.وقوله: {مَا خَلَقْتَ هَذا} هذا: إشارةٌ إلى الخَلْقِ إنْ أُريدَ بِه المخلوقُ. وقيل يجوزُ حالَ الإِشارةِ إليْه بـ "هذا" أنْ يكونَ مصدَراً على حالِه لا بمعنى المَخلوقِ، وفيه نظرٌ. أو إلى السماواتِ والأرضِ، وإنْ كانا شيئين كلٌّ منهما جَمْعٌ، لأنَّهما بتأويلِ: هذا المخلوقِ العجيبِ، أو لأنَّهما في معنى الجمعِ فأُشيرَ إليهِما كما يُشارُ إلى لَفظِ الجمعِ.قولُه: {بَاطِلاً} في نصبِه خمسةُ أَوجُهٍ، أحدُها: نعتٌ لِمصدرٍ محذوفٍ أي: خلقاً باطلاً، وقد تقدَّمَ أنَّ سيبويهِ يَجعلُ مثلَ هذا حالاً مِن ضميرِ ذلك المصدر.الثاني: أنَّه حالٌ من المفعول به وهو "هذا". الثالثُ: أنَّه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ وهو الباء، والمعنى: ما خلتقهما بباطلٍ بلْ بحقٍّ وقُدرةٍ. الرابع: أنَّه مفعولٌ من أجلِه، و"فاعِل" قد يَجيء مصدراً كالعاقبةِ والعافيةِ. الخامس: أنَّه مفعولٌ ثانٍ بـ "خَلَق" قالوا: و"خلق" إذا كانت بمعنى جَعَلَ التي تتعدّى لاثنيْنِ تعدَّت لاثنين، وهذا غير معروفٍ عندَ أهلِ العربيَّة، بل المعروفُ أنَّ "جَعَلَ" إذا كانت بمعنى "خَلَقَ" تعدَّتْ لواحدٍ فقط. وأحسنُ هذه الأعاريبِ أنْ يكونَ حالاً من "هذا"، وهي حالُ لا يُسْتَغنى عنها، لأنَّها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} الدخان: 38.وقولُه: {سُبْحَانَكَ} تقدَّم إعرابُه وهو مُعترضٌ بيْن قولِه: "ربنا" وبين قوله: "فَقِنا"، وقيل: دخلتِ الفاءُ لِمعنى الجزاءِ، والتقديرُ: إذا نَزَّهناك أو وحَّدْناك "فَقِنا". وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبُّبُ فيها ظاهرٌ، تسبَّبَ عن قولِهم: "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ" طَلَبُهُمْ وقايةَ النار. وقيل: هي لترتيبِ السؤالِ على ما تضمَّنه "سبحان" من معنى الفعلِ أي: سبحانَك فقِنا، وأبعدَ مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيبِ على ما تضمَّنه النداء. | |
|