عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 182 الثلاثاء أبريل 09, 2013 3:56 pm | |
| ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. (182) قولُه ـ سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ذلك: إشارة إلى عَذابِ الحريقِ. والحقُّ ـ سبحانَه ـ لم يَظلمْهم، لكنَّهم همُ الذين ظَلموا أَنفُسَهم. "بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ" معنى ذلك أن كل المعاصي من تقديم اليد، فإنَّ هناكَ معصيةً للعينِ، ومعصيةً للسانِ، ومعصيةً للرِجْلِ، ومعصيةً للقلبِ، ولا حصرَ للمَعاصي. لكنَّ الحقَّ ـ سبحانه ـ قال ذلكَ لأنَّ الأعمالَ الظاهرةَ تُمارَسُ عادةً باليَدِ؛ فاليَدُ هي الجارحةُ التي نَفعلُ بها أكثرَ أُمورِنا، وعلى ذلك يكون قولُ الحقِّ: "بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ" مقصودٌ به: بما قدَّمتم بأيِّ جارحةٍ مِنَ الجَوارحِ.وقولُه: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فقد أذاقهم عذابَ الحريقِ نتيجةَ ما كَتَبَه عليهم؛ مِن قولٍ وفعلٍ. فالقولُ هو الافتِراءُ باللِّسانِ حين قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. والفعلُ هو قَتْلُهُمُ الأنبياءَ. ولذلك فهم يَستَحِقّون ذلك العذابَ. والقَضيَّةُ العامَّةُ أنَّه ـ سبحانه: "ليس بظلام للعبيد".قولُه ـ تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} مبتدأ وخبرٌ تقديرُه: ذلك مُستحِقٌّ بما قَدَّمَتْ. و"ما" يجوزُ فيها أنْ تكونَ مَوصولةً وموصوفةً. و"ذلك" إشارةٌ إلى ما تقدَّم من عقابِهم. وهذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدُهما: أنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ بالقولِ عطفاً على "ذُوقوا" كأنَّه قيل: ونقول لهم أيضاً: ذلك بما قَدَّمَتْ أيديكم، وُبِّخوا بذلك، وذَكَر لهم السببَ الذي أوجب لهم العقابَ. والثاني: ألاَّ تكونَ داخلةً في حكايةِ القول، بل تكون خطاباً لمُعاصري رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومَ نُزولِ الآيةِ.قولُه: {وَأَنَّ الله} عطفٌ على "ما" المجرورةِ بالباءِ أي: ذلك العقابُ حاصلٌ بسببِ كَسْبِكم وعدمِ ظلمهِ لكم. وهنا سؤال: وهو أنَّ "ظَلاَّماً" صيغةُ مبالغةٍ تقتضي التكثيرَ، فهي أخصُّ من "ظالمِ"، ولا يَلْزَمُ مِن نفيِ الأخصِّ نفيُ الأعَمِّ، فإذا قلتَ: "زيدٌ ليس بظلاَّم" أي: ليس يُكْثِرُ الظُلمَ، مع جوازِ أَنْ يكونَ ظالماً، وإذا قلت: "ليس بظالم" انتفى الظلمُ مِنْ أصلِه، فكيف قال تعالى: "لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ"؟ وفي ذلك خمسَةُ أوجهٍ وهي:الأول: أنَّ "فَعَّالاً" قد لا يُرادُ بِه التكثيرُ كقولِ طَرَفَةَ: ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبيتِه ............... ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِلا يُريد هنا أنّه يَحُلُّ التلاعَ قليلاً؛ لأنَّ ذلك يَدْفَعُه آخرُ البيتِ الذي يَدُلُّ على نفيِ البُخلِ على كلِّ حالٍ، وأيضاً تمامُ المدحِ لا يَحْصُل بإرادةِ الكثرةِ. الثاني: أنَّه للكَثرةِ، ولكنَّه لَمَّا كانَ مقابَلاً بالعِبادِ وهُم كثيرون ناسَبَ أنْ يُقابَلَ الكثيرُ بالكثير. والثالث: أنَّه إذا نَفى الظلمَ الكثيرَ انتَفى القليلُ ضرورَةً؛ لأنَّ الذي يَظْلمُ إنَّما يَظْلِمُ لانتفاعِه بالظلمِ، فإذا تَرَكَ الظُلمَ الكثيرَ مع زيادةِ نَفْعِه في حَقِّ مَنْ يجوزُ عليه النَفعُ والضُّرُّ كان للظلمِ القليلِ المنفعةِ أتركَ. الرابع: أنْ يَكونَ على النسبِ أي: لا يُنْسَبُ إليه ظلمٌ، فيكونُ من باب: بَزَّار وعَطَّار، كأنَّه قيل: ليس بِذِي ظُلمٍ البَتَّةَ. والخامس: أنَّ العَذابَ الذي تَوَعَّدَ أَنْ يَفعلَه بَهم لو كانَ ظُلْماً لَكانَ عظيماً فنَفاهُ على حَدِّ عظمتِه لو كان ثابتاً.ثمَّ إنَّ "عَبْد" يجمعُ على عبيدٍ وعِبادٍ، وجَمْعُ العبدِ الذي هو مسترقٌّ: "عبيد" و"عِبِدَّى"، فالعبيدُ إذا أُضيفَ إلى اللهِ تعالى أَعَمُّ مِن العِبادِ، ولِهذا قال: "وَمَا أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" فنبَّه على أنَّه لا يَظْلِمُ مَنْ تَخَصَّصَ بعبادتِه ولا مَنِ انتسَبَ إلى غيرِه مِنَ الذين تَسَمَّوْا بِعبدِ الشمس وعبدِ اللات" وهنا وِقفةٌ لِخُصومِ الإسلام مِن المستشرقين، فهم يقولون: اللهُ يَقولُ في قرآنه "وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ"، وكلمةُ "ظلّام" هي مُبالَغَةٌ في كَلِمةِ "ظالم"، و"الظَّلاّم" هو الذي يظلمُ ظُلماً قويّاً ومتكرّراً؛ فـ "ظلاّم" صيغةُ مبالغةٍ. وصيغة المبالغةِ إنْ وَرَدتْ في الإثباتِ أيْ في الأمرِ المُوجِبِ فهي تُثبِتُ الأقلَّ، فعندما يُقالُ: "فُلانٌ ظلاَّمٌ" فالثابتُ أنَّه ظالمٌ أيْضاً، ومثلُ ذلك نقولُ: "فلانٌ علاّمٌ" أو "علاّمة" فإننا نثبتُ أنَّ فلاناً هذا عالم. ولكن إذا قلْنا: "فلان عالم" لا يُثْبتُ ذلك أنَّه "علاّمة". فصيغةُ المُبالغةِ ليس معناها "اسمُ فاعل" فحسب، إنَّها أيضاً اسمُ فاعلٍ مُبالَغٍ فيه، لأنَّ الحدَثَ يأتي منه قويّاً، أو لأنَّ الحدَثَ مُتكرِّرٌ منه ومتعدِّدٌ. فإذا ما أثبتنا صفةَ المُبالغةِ فمِن بابِ أوْلى تَثبُتُ صفةُ غيرِ المُبالغةِ. والأمرُ يَختلِفُ في النفيِ. فإذا نَفينا صفةَ المُبالغةِ فلا يَستلزِم ذلك نفيَ الصفةِ الأقلِّ. ولذلك يَفهمُ المستشرقون من هذا القولِ أنَّه مُجردُ نفيِ المبالغةِ في الظُلمِ لا يَنفي عنه أنَّه ظالم ولم يَفهم المُستشرقون لِماذا تَكونُ المبالغة هنا: إنَّ الحقَّ قد قال: إنَّه ليس بظلاَّم للعبيد، ولم يقل إنَّه ليس بِظلامٍ للعبدِ. ومعنى ذلك أنَّه ليسَ بِظلامٍ للعبيدِ مِن أوَّلِ آدمَ إلى أنْ تَقومُ الساعةُ، فلو ظَلَمَ كُلَّ هؤلاء ـ والعياذُ بالله ـ لقالَ إنَّه ظَلامٌ، حتَّى ولو ظَلَمَ كُلَّ واحدٍ أيسرَ ظلمٍ. لأنَّ الظُلمَ تَكرَّرَ وذلكَ بِتكَرُّرِ مَنْ ظُلِمَ وهمُ العبيدُ، ولذلك قال: "وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" ولم يَقلْ إنه ليس بظلّامٍ للعبدِ.وإذا كان الظالم لا بدَّ أنْ يكون أقوى مِن المَظلومِ، فكلُّ ظُلْمٍ يَتِمُّ تَكييفُه بِقوَّةِ الظالِمِ. فلو كان الله قد أباحَ لِنَفسِهِ أنْ يَظلمَ فلن يَكونَ ظالِماً؛ لأنَ عِظَمَ قوَّتِه لنْ يَجعلَه ظالِماً بَلْ ظَلاَّمًا.فإنْ أرادَ الحدث فيَكونُ ظَلّاماً، ولذلك فإنَّ فهمهم هذا لقولِ الحَقِّ: "وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" يَدُلُ على عجزٍ في فهمِ مرامي الألفاظِ في اللُّغةِ أو أنَّ هؤلاءِ يعلَمون مَرامي الألفاظِ ويُحاولونَ غِشَّ الناسِ الذين لا يَملكون رَصيداً لُغويّاً يَفهمون بِه مَرامي الألْفاظِ. | |
|