عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 180 الإثنين أبريل 08, 2013 2:28 am | |
| وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. (180) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} الَّذِينَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى الْبُخْلُ خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَى الْبُخْلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَنْ صدق كان خيرًا له. أي كان الصِّدْقُ خَيْرًا لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ................... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِفَالْمَعْنَى: جَرَى: إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ عَلَى السَّفَهِ. لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خيرا لهم. وهي مثل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}. وَ"هُوَ" فِي قَوْلِهِ: "هُوَ خَيْراً لَهُمْ" فَاصِلَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَهِيَ الْعِمَادُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ "هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ" مبتدَءٌ وَخَبَرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} مبْتدءٌ وَخَبَرٌ، أَيِ الْبُخْلُ شَرٌّ لَهُمْ. وَالسِّينُ فِي "سَيُطَوَّقُونَ" سِينُ الْوَعِيدِ، أَيْ سَوْفَ يُطَوَّقُونَ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وهي كَقَوْلِهِ: {وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ} التوبة: 34. الْآيَةَ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالشَّعْبِيُّ قَالُوا: وَمَعْنَى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: ((مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقِهِ)) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ" الْآيَةَ. وَجَاءَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ)). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَبُخْلِهِمْ بِبَيَانِ مَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَعْنَى "سَيُطَوَّقُونَ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ، فَهُوَ مِنَ الطَّاقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} البقرة: 184. وَلَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْنَى "سَيُطَوَّقُونَ" سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَوْقٌ مِنَ النَّارِ. وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ أَيْ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَقِيلَ: يُلْزَمُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَلْزَمُ الطَّوْقُ الْعُنُقَ، يُقَالُ: طُوِّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْقَ الْحَمَامَةِ، أَيْ أُلْزِمَ عَمَلَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الإسراء: 13. ومن هذا المعنى قول عبدِ اللهِ ابنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ ....................................أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْدَارَ ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا ........................... تقتضي بِهَا عَنْكَ الْغَرَامَهْوَحَلِيفُكُمْ بِاللَّهِ رَبِّ .............................. النَّاسِ مُجْتَهِدُ الْقَسَامَهْاذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ............................ طُوِّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْوَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيلِ الثَّانِي. والبخلُ في اللُّغةِ أنْ يَمنعَ الأنسالَ الحقَّ الواجبَ عليه. فأمَّا مَنْ مَنَع مالًا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ، لِأَنَّهُ لَا يُذَمُّ بِذَلِكَ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: يَبْخُلُونَ وَقَدْ بَخُلُوا. وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: بَخِلُوا يَبْخَلُونَ. وَبَخِلَ يَبْخَلُ بُخْلًا وَبَخَلًا. رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: ((مَنْ سَيِّدُكُمْ؟)) قَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ. فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ)) قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((إِنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُولَ الْأَضْيَافِ بِهِمْ فَقَالُوا: لِيَبْعُدِ الرِّجَالُ مِنَّا عَنِ النِّسَاءِ حَتَّى يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إِلَى الْأَضْيَافِ ببعد النساء، وتعتذِرَ النَّساءُ بِبُعدِ الرجال، ففعلوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ)) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ "أَدَبِ الدُّنْيَا والدين". والله أعلم.وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ. فَقِيلَ: الْبُخْلُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إِخْرَاجِ مَا حَصَلَ عِنْدَكَ. وَالشُّحُّ: الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)). وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبُخْلَ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحَّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ. إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحُّ مَنْعَ الْمُسْتَحَبِّ لَمَا دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، وَالذَّمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخِرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا)). وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّحَّ أَشَدُّ فِي الذَّمِّ مِنَ الْبُخْلِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاتِهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ ـ وَقَدْ سُئِلَ، أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: ((لَا)) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ "أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ" أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: ((مَنْ سَيِّدُكُمْ)) قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أَخْبَرَ تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَامِ مُلْكِهِ. وَأَنَّهُ فِي الْأَبَدِ كَهُوَ فِي الْأَزَلِ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، فَيَرِثُ الْأَرْضَ بَعْدَ فِنَاءِ خَلْقِهِ وَزَوَالِ أَمْلَاكِهِمْ، فَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ وَالْأَمْوَالُ لَا مُدَّعَى فِيهَا. فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَةِ فِي عَادَةِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي يَرِثُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قبل، والله ـ سبحانه وتعالى ـ مالك السمواتِ والأرضِ وما بينهما، وكانت السموات وَمَا فِيهَا، وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهَا لَهُ، وَإِنَّ الْأَمْوَالَ كَانَتْ عَارِيَةً عِنْدَ أَرْبَابِهَا، فَإِذَا مَاتُوا رُدَّتِ الْعَارِيَةُ إِلَى صَاحِبِهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها} مريم: 40. الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} قرأ حمزةُ بالخِطابِ، والباقون بالغَيبةِ. فأمَّا قراءةُ حمزة فـ "الذين" مفعولٌ أوّلُ، و"خيراً" هو الثاني، ولا بُدَّ مِن حذفِ مضافٍ لِيَصْدُقَ الخبرُ على المبتدأِ، تقديرُه: ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون. و{هو} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه فَصْلٌ بيْن مفعولي "تحسبنَّ". والثاني: أنَّه توكيدٌ، وهو خطأ، لأنَّ المُضمَرَ لا يُؤكِّدُ المُظْهَر، والمفعول الأوَّل اسمٌ مُظهَر ولكنَّه حُذِفَ كما تقدَّمَ، وبعضُهم يُعَبِّر عنه فيقول: "أُضمر المفعولُ الأولُ" يعني حُذِفَ فلا يُغْتَرَّ بهذه العبارةِ، و"هو" في هذه المسألةِ يتعيَّن فَصْلِيَّتُه لأنَّه لا يَخلو: إمَّا أَنْ يكونَ مبتدأً أو بَدَلاً أو توكيداً، والأوّلُ منتفٍ لنصبِ ما بعدَه وهو خيراً وكذا الثاني لأنّه كان يلزمُ أَنْ يوافِقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فكان يَنبغي أَنْ يُقالَ إياه لا "هو"، وكذا الثالثُ لِما تقدَّم.وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فيجوزُ فيها أَنْ يكونَ الفعلُ مُسنَداً إلى ضَميرٍ غائبٍ: إمَّا الرسولُ أو حاسِبٌ ما، ويجوزُ أَنْ يكونَ مسنَداً إلى "الذين"، فإنْ كان مُسنَداً إلى ضميرِ غائبٍ فـ "الذين" مفعولٌ أوَّلُ على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم ذلك في قراءةِ حمزة أي: بخلَ الذين، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو أحدٌ بخلَ الذين يبخلون خيراً. و"هو" فصلٌ كما تقدَّمَ، فتتّحدُ القراءاتان معنىً وتخريجاً. وإنْ كان مُسنَداً لـ "الذين" ففي المفعولِ الأولِ وجهان، أحدُهما: أنَّه محذوفٌ لدلالةِ "يبخلون" عليه كأنَّه قيل: "ولا يَحْسَبَنَّ الباخِلون بخلَهم هو خيراً لهم" و"هو" فصلٌ. قال ابنُ عطيَّة: "ودَلَّ على هذا البخلِ" يبخلون "كما دَلَّ" السفيه "على" السَّفَه" في قولِه: إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ................... وخالَفَ والسفيهُ إلى خلافِأي: جرى إلى السفه. وليست الدلالةُ فيها سواءً لوجهين، أحدُهما: أنَّ دلالةَ الفعلِ على المصدرِ أَقْوى مِنْ دلالةِ اسمِ الفاعلِ عليه وأكثرُ، ولا يوجَدُ ذلك إلَّا في هذا البيتِ أوغيرِه إنْ وَرَدَ. الثاني: أنَّ البيتَ فيه إضمارٌ لا حذفٌ، والآيةُ فيها حَذْفٌ.الوجه الثاني: أنَّ المفعولَ نفس "هو"، وهو ضميرُ البُخلِ الذي دَلَّ عليه "يبخلون" كقولِه: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} المائدة: 8، قاله أبو البقاء، وهو غلطٌ؛ لأنَّه يَنبغي أَنْ يأتِيَ به بصيغةِ المنصوبِ فيقول: "إياه" لكونِه منصوباً بـ "يَحْسَبَنَّ"، ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نَدَّعي أنَّه مِن بابِ استعارةِ ضميرِ الرَّفعِ مكانَ النصبِ كقولِهم "ما أنا كأنت، ولا أنتَ كأنا" فاستعارَ ضميرَ الرفعِ مكانَ ضميرِ الجرِّ.وفي الآية وجهٌ آخرُ غريبٌ خَرَّجَه بعضُهم قال: "وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمالِ إذا جَعَلْنا الفعلَ مسنداً لـ "الذين"، وذلك أنَّ "يَحْسَبَنَّ" يطلب مفعولين و"يَبْخلون" يطلبُ مفعولاً بحرفِ جرٍّ، فقولُه: {مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} يطلبُه "يحسبنّ" مفعولاً أوّلَ ويكون "هو" فَصْلاً، و"خيراً" المفعولُ الثاني، ويطلبُه "يبخلون" بتوسُّطِ حرفِ الجَرِّ، فأعملَ الثانيَ على الأفصحِ وعلى ما جاء في القرآن وهو "يبخلون" فَعُدِّيَ بحرفِ الجَرِّ، وأخذَ معمولَه، وحَذَفَ معمولَ "يحسبنّ" الأوَّلَ وبقي معمولُه الثاني، لأنَّه لم يُتنازع فيه، وإنّما جاء التنازعُ في الأوّل، وساغ حذفُه وحدَه كما ساغ حَذْفُ المفعولين في مسألة سيبويه: "متى رأيت أو قلت: زيد منطلق" فـ "رأيت" و"قلت" تنازعا في "زيدٌ منطلقٌ" وفي الآيةِ لم يتنازعا إلّا في الأوّلِ، وتقديرُ المعنى: "ولا يَحْسَبَنَّ ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناسُ الذي يَبْخلون به" فعلى هذا التقديرِ يكونُ "هو" فَصْلاً لـ "ما آتاهم" المحذوفِ لا لبخلِهم المقدَّرِ في قول الجماعة، ونظيرُ هذا التركيب: "ظنَّ الذي مَرَّ بِهندٍ هي المنطلقةَ" المعنى: ظَنَّ هنداً الشخصُ الذي مَرَّ بها هي المنطلقةَ، فالذي تَنازعَه الفِعلان هو المفعولُ الأوّلُ، فأعملَ الفعلَ الثاني فيه، وبقي الأوّلُ يَطلُبُه محذوفاً ويطلبُ الثانيَ مُثبَتاً إذ لم يقعْ فيه التنازعُ. انتهى.ومعَ غرابةِ هذا التخريجِ وتطويلِه بالنظيرِ والتقديرِ فيه نظرٌ، وذلك أنَّ النَحْويينَ نَصُّوا على أنَّه إذا أَعملْنا الثانيَ، واحْتاجَ الأوّلُ إلى ضميرِ المُتنازَعِ فيه، فإنْ كان يَطلُبُه مَرفوعاً أُضْمِرَ فيه وإنْ كان يَطْلُبُه غيرَ مَرفوعٍ حُذِف، إلاَّ أَنْ يكون أحدَ مفعولي "ظَنَّ" فلا يُحْذَفُ، بل يُضْمَرُ ويُؤَخَّر، وعَلَّلوا ذلك بأنّه لو حُذِفَ لَبقيَ خبرٌ دون مُخْبَرٍ عنه أو بالعكسِ، هذا مَذهبُ البَصريين، وفيه بحثٌ، فإنَّ لقائلٍ أن يقولَ: حُذِفَ اختصاراً لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حَذْفَ إحداهما اختصاراً في غيرِ التنازع فليَجُزْ في تنازعٍ إذ لا فارقَ، وحينئذٍ يَقْوى تخريجُ الشيخِ بهذا البحثِ أو يُلْتَزَمُ القولُ بمذهبِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون الحَذْفَ فيما نحن فيه.وذكر مكي ترجيحَ كلٍّ مِن القراءتيْن فقال: وميراثٌ مصدرٌ كالمِيعاد، وياؤُه من واوٍ، قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلها وهي ساكنةٌ لأنَّها من الوارثةِ كالميقاتِ والميزانِ من الوقتِ والوزن.وقرأ أبو عَمْرٍو وابنُ كثيرٍ: "يَعْمَلُون" بالغَيْبةِ جَرْياً على قوله: {الذين يَبْخَلُونَ}، والباقون بالخطاب، وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه التفاتٌ، فالمُرادُ الذي يبخلون. والثاني: رَدًّا على قولِه: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ}. | |
|