عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 159 الثلاثاء مارس 26, 2013 4:16 am | |
| فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
(159) قولُه ـ تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أَيْ فَبِرَحْمَةٍ، وَذلك أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لَمَّا رَفَقَ بِمَنْ تَوَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ بَيَّنَ ـ تَعَالَى ـ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بتوفيقهِ ـ سبحانَه ـ إياه. وقيل: "فَبِما" اسْتِفْهَامٌ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، فَهُوَ تَعْجِيبٌ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ "فَبِمَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ. و"لِنْتَ" مِنْ لَانَ يَلِينُ لِينًا وَلَيَانًا بِالْفَتْحِ. وَقولُه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الْفَظُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَغِلَظُ الْقَلْبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَهُّمِ الْوَجْهِ، وَقِلَّةِ الِانْفِعَالِ فِي الرَّغَائِبِ، وَقِلَّةِ الْإِشْفَاقِ وَالرَّحْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مهلهلٍ بنِ ربيعةَ:يُبْكَى عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أحد؟ .......... لَنَحنُ أغلظُ أَكبادًا مِنَ الإبِلِوَمَعْنَى "لَانْفَضُّوا" لَتَفَرَّقُوا، يقالُ فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا، أَيْ فَرَّقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ يَصِفُ إِبِلًا:مُسْتَعْجِلَاتُ الْقَيْضِ غَيْرُ جُرْدٍ .......... يَنْفَضُّ عَنْهُنَّ الْحَصَى بِالصَّمْدِوَأَصْلُ الْفَضِّ الْكَسْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ. وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ لَوْلَا رِفْقُكَ لَمَنَعَهُمُ الِاحْتِشَامُ وَالْهَيْبَةُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْكَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أَمرٌ من اللَّهُ ـ تَعَالَى ـ لنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا لَهُ فِي خَاصَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ، فَلَمَّا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ أَيْضًا، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاسْتِشَارَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا إِذَا عَلِمْتُ خَبَرَهَا بِجَرْيٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيُقَالُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْكُضُ فِيهِ: مِشْوَارٌ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ وَاشْتَرْتُهُ فَهُوَ مَشُورٌ وَمُشْتَارٌ إِذَا أَخَذْتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:فِي سَمَاعٍ يَأْذَنُ الشَّيْخُ لَهُ ..................... وَحَدِيثٍ مِثْلِ مَاذِيٍّ مُشَارِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ. هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} الشورى: 38. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا غُبِنْتُ قَطُّ حَتَّى يُغْبَنَ قومي، قيل: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا أَفْعَلُ شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَكَانَ يُقَالُ: مَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ (رواه الطبري في أوسطه والقضاعي عن أنس وحسَّنَه السُيوطي) وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُورِ وَالْأَخْذِ بِالظُّنُونِ مَعَ إِمْكَانِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ أَنْ يُشَاوِرَ فِيهِ أَصْحَابَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فِي مَكايِدِ الْحُرُوبِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفًا عَلَى دِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ ـ تَعَالَى ـ قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيِهِمْ بِوَحْيِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ ((وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ)) تَطْيِبًا لِقَلْبِهَا، لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: كَانَتْ سَادَاتُ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْرِ شَقَّ عَلَيْهِمْ: فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْطَفُ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ لِأَضْغَانِهِمْ، وَأَطْيَبُ لِنُفُوسِهِمْ. فَإِذَا شَاوَرَهُمْ عَرَفُوا إِكْرَامَهُ لَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ فِيهِ وَحْيٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى رَأْيِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا فِي الْمُشَاوَرَةِ مِنَ الْفَضْلِ، وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ قول أبي سَلَمَةَ المُؤدِّب:شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ ........ وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ نَاصِحٍ مُتَفَضِّلِفَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نبيه ............... في قوله: (شاوِرْهُمْ) و (فَتَوَكَّلْ)جَاءَ فِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَصِفَةُ المستشار إن كان في الأحكام أن يَكُونَ عَالِمًا دَيِّنًا، وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كَمُلَ دِينُ امْرِئٍ مَا لَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ. فَإِذَا اسْتُشِيرَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَاجْتَهَدَ فِي الصَّلَاحِ وَبَذَلَ جَهْدَهُ فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ خَطَأً فَلَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. وَصِفَةُ الْمُسْتَشَارِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُجَرِّبًا وَادًّا فِي الْمُسْتَشِيرِ. قَالَ:شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزبير بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاةُ والسلام:وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْكَ الْتَوَى ....................... فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِوقد نسب هذا البيت لأكثر من شاعر وهو من قصيدة، جاء فيها:إِذا كنتَ في حاجةٍ مُرْسِلاً ..................... فأرْسِلْ حكيماً ولا تُوصِه وإِن ناصحٌ منكَ يوماً دنا .......................... فلا تنأَعنه ولا تُقْصِه وذو الحَقِّ لا تنتقصْ حقهُ ........................ فإِن القطيعةَ في نقصِه ولا تذكرِ الدهرَ في مجلسٍ ................... حديثاً إِذا أنتَ لم تُحْصِه ونُقصَّ الحديثَ إِلى أهلهِ .......................... فإِن الوثيقةَ في نَصَّهِ ولا تحرصنَّ فربَّ امرئٍ ...................... حَريصٍ مُضاعٍ على حِرْصِه وكم من فتى ساقطٍ عقلُهُ ................. وقد يعجبُ الناسُ من شخصهِ وآخرُ تَحْسَبُه أَنْوكاً ............................. ويأتيكَ بالأمر من فصِّهِ وإِن بابُ أمرٍ عليكَ التوى ........................ فشاورْ لبيباً ولا تعصِهِ وَالشُّورَى بَرَكَةٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((مَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ)). وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما شَقِيَ قَطُّ عَبْدٌ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ)). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ، فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا. وَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ ـ وَهِيَ أَعْظَمُ النَّوَازِلِ ـ شُورَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لِيَكُنْ أَهْلُ مَشُورَتِكَ أَهْلَ التَّقْوَى وَالْأَمَانَةِ، وَمَنْ يَخْشَى اللَّهَ ـ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَلِ مَا يَحْضُرُ بِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَةٌ فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتِهِمْ إِلَّا خِيرَ لهم)).وَالشُّورَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَالْمُسْتَشِيرُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَيَنْظُرُ أَقْرَبَهَا قَوْلًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِذَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، إِذْ هَذِهِ غَايَةُ الِاجْتِهَادِ الْمَطْلُوبِ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ((فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ إِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، لَا عَلَى مُشَاوَرَتِهِمْ. وَالْعَزْمُ هُوَ الْأَمْرُ الْمُرَوَّى الْمُنَقَّحُ، وَلَيْسَ رُكُوبُ الرَّأْيِ دُونَ رَوِيَّةٍ عَزْمًا، إِلَّا عَلَى مَقْطَعِ الْمُشِيحِينَ مِنْ فُتَّاكِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ سعد بن ناشب المازني:إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ ............. وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبَاوَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ ........ وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَاوَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَزْمُ وَالْحَزْمُ وَاحِدٌ، وَالْحَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، فَالْحَزْمُ جَوْدَةُ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ وَتَنْقِيحُهُ وَالْحَذَرُ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ. وَالْعَزْمُ قَصْدُ الْإِمْضَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: "وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ". فَالْمُشَاوَرَةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا هُوَ الْحَزْمُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أَحْزُمُ لَوْ أَعْزِمُ. نَسَبَ الْعَزْمَ إِلَى نَفْسِهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ إِذْ هُوَ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، كَمَا قَالَ: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} الأنفال: 17. وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ عَزَمْتُ لَكَ وَوَفَّقْتُكَ وَأَرْشَدْتُكَ "فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ". قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَامْتَثَلَ هَذَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَقَالَ: ((لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ)). أَيْ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَزَمَ أَنْ يَنْصَرِفَ، لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلتَّوَكُّلِ الَّذِي شَرَطَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْعَزِيمَةِ. فَلُبْسُهُ لَأْمَتَهُ حِينَ أَشارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ يَوْمَ أُحُدٍ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ، وَهُمْ صُلَحَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ كَانَ فَاتَتْهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ بِنَا إِلَى عدونا، دالٌّ على العزيمة. وكان ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَشَارَ بِالْقُعُودِ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَشَارَ بِذَلِكَ وَقَالَ: أَقِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ، فَإِنْ هُمْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ جَاؤونَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَفْنِيَةِ وَأَفْوَاهِ السِّكَكِ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ الآطام، فو الله مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوٌّ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ إِلَّا غَلَبْنَاهُ، وَلَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ إِلَّا غَلَبَنَا. وَأَبَى هَذَا الرَّأْيَ مَنْ ذَكَرْنَا، وَشَجَّعُوا النَّاسَ وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ. فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْجُمْعَةَ، وَدَخَلَ إِثْرَ صَلَاتِهِ بَيْتَهُ وَلَبِسَ سِلَاحَهُ، فَنَدِمَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: أَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي سِلَاحِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ إِنْ شِئْتَ فَإِنَّا لَا نُرِيدُ أَنْ نُكْرِهَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ سِلَاحَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)). قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} التَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ مَعَ إِظْهَارِ الْعَجْزِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّوَكُّلِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ: لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبَهُ خَوْفُ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَحَتَّى يَتْرُكَ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لِضَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى. قوله تعالى: {فَبِمَا} ما: زائدةٌ للتوكيدِ للدَلالةِ على أنَّ لِينَه لهم ما كان إلَّا برحمةٍ من الله، ونظيرُه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} النساء: 155. أو هي غيرُ مزيدةٍ، بل هي نَكِرةٌ وفيها وجهان، أحدهُما: أنها موصوفةٌ برحمة، أي: فبِشيءٍ رحمةٍ، والثاني: أنها غيرُ موصوفة، و"رحمةٍ" بدلٌ منها، كأنَّه أَبْهم ثم بَيَّن بالإِبدال. وجَوَّز بعضُ الناس أنَّ "ما" استفهاميَّةٌ للتعجب تقديرُه: فبأي رحمةٍ لِنْتَ لهم، إلّا أنَّ "ما" الاستفهامية لا تُوصَفُ، وكأنَّ مَنْ يَدَّعي فيها أنَّها غيرُ مزيدةً يَفِرُّ من هذه العبارة في كلامِ الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي، وكان لا يُجَوِّزُ أن يُقال في القرآن: "هذا زائدٌ أصلاً". وهذا فيه نظرٌ، لأنَّ القائلين بكون هذا زائداً لا يَعْنُون أنَّه يَجوزُ سقوطُه ولا أنَّه مهمل لا معنى له، بل يقولون: زائدٌ للتوكيد، فله أُسْوَةٌ بسائر ألفاظ التوكيدِ الواقعة في القرآن، و"ما" كما تزاد بين الباءِ ومجرورِها تزاد أيضاً بين "عَنْ" و"مِنْ" والكاف ومجرورها. وقال مكيّ: "ويَجوزُ أنْ ترتفعَ "رحمةٍ" على أَنْ تَجْعَلَ "ما" بمعنى الذي، وتُضْمِرَ "هو" في الصِلَةِ وتَحْذِفَها كما قرئ: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ}. وقولُه: "ويجوزُ" يعني من حيث الصناعةُ، لا قراءةً.والفَظَاظَة: الجَفْوَةَ في المُعاشرة قولاً وفعلاً. قال إسحاق بن خلف، وهو شاعرٌ إسلامي قديم: أَخْشَى فَظاظَة عَمٍّ أو جفاءَ أخٍ .،،،،.. وكنتُ أَخْشَى عليها مِنْ أَذَى الكَلِمِوالغِلْظُ : تكثيرُ الأجزاء، ثم تُجُوِّزَ به في عدمِ الشَفَقَةِ وكَثْرةِ القَسْوَةِ والفظُّ كريهُ الخُلُقِ وذلك مستعارٌ مِنَ الفَظِّ وهو ماءٌ الكَرِشِ، وذلك مكروهٌ شُرْبُه إلَّا في ضَرورةٍ، والغِلْظَةُ: ضدُّ الرِّقة، ويقال: غُلْظَة وغِلْظَة أي بالكَسرِ والضَمِّ، وعن الغِلْظَة تنشأ الفظاظةُ فَلِمَ قُدِّمَتْ في الآية؟ فقيل: قُدِّم ما هو ظاهرٌ للحِسِّ على ما هو خافٍ في القلب، لأنَّه كما تقدَّم أنَّ الفَظاظةَ: الجَفْوَةُ في العِشْرَةِ قولاً وفِعْلاً، والغِلْظُ: قساوةُ القلب، وهذا أحسنُ مِنْ قولِ مَنْ جعلهما بمعنىً، وجُمِع بينهما تأكيداً.والانفضاضُ: التفرُّقُ في الأجزاءِ وانتشارُها ومنه: فُضَّ خَتْمُ الكتابِ "ثم استُعير عنه" انفضاضُ الناسِ ونحوِهم.وقرأ ابنُ عبَّاسٍ: "في بعضِ الأمر". وهذا تفسيرٌ لا تلاوة.وقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} الجمهورُ على فتح التاء خطاباً له عليه الصلاةُ والسلام. وقرأ عِكرِمةُ وجعفرٌ الصادقُ بضمِّها، على أنَّها لله ـ تعالى ـ على معنى: فإذا أرشَدْتُك إليه وجَعَلْتُكَ تَقْصِدُه، وجاء قوله: "عَلَى الله" من الالْتِفاتِ، إذْ لو جاء على نَسَقِ هذا الكلامِ لَقيلَ: فتوكَّلْ عليَّ، وقد نُسِبَ العزمُ إليه ـ تعالى ـ في قولِ أمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله عنها: (ثم عَزَمَ اللهُ لي) وذلكَ على سبيلِ المَجاز.وقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} جارٍ مَجْرى العِلَّةِ الباعثةِ على التوكيلِ عند الأخْذِ في كلِّ الأمرِ. والتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ مَعَ إِظْهَارِ الْعَجْزِ، وَالِاسْمُ التُّكْلَانُ. يُقَالُ مِنْهُ: اتَّكَلْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي، وَأَصْلُهُ:" اوْتَكَلْتُ" قُلِبَتِ الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت مِنْهَا التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ. وَيُقَالُ: وَكَّلْتُهُ بِأَمْرِي تَوْكِيلًا، وَالِاسْمُ الْوِكَالَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا. | |
|