عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 146 الثلاثاء مارس 19, 2013 3:27 am | |
| وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
(146) قوله ـ تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا} تسليةٌ للمُؤْمِنِينَ عَمَّا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ يَوْمَ أحُدٍ، فَقَالَ لَهُمْ: كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ وَهُوَ يُقَاتِلُ، وَكَانَ مَعَه جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٌ مِمَّنْ آمَنُوا بِهِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، فَمَا وَهِنُوا، وَمَا ضَعُفُوا بَعْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ، وَمَا اسْتَكَانُوا، وَمَا اسَتَذَلُّوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كلمتهِ، وَإِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى قِتَالِ الأَعْدَاءِ، وَلَمْ يَهْرُبُوا مُوَلِّينَ الأَدْبَارَ، لأنَّهُمْ إنَّما يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَعَلَيْكُمْ أيُّهَا المُسْلِمُونَ أنْ تَكونوا مثلَ أولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ، وَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا فَإنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ، وَسُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ. وكلمة (وَكَأَيِّنْ) بمعنى كم الخَبَريَّةِ الدالَّةِ على الكَثْرةِ، والرِبِّيّون همُ المؤمنون الصادقون الذين يُقاتلون ابتغاءَ مرضاة ربِّهم، فهم منسوبون للربِّ لِخُلوصِهِم له وإخلاصهم، والقتالُ يَتعاوَرُ فيه المقاتلون الجُروحَ والدِّماءَ، فليسَ القِتالُ سهلًا، بل هو مَلْحَمَةٌ بشريَّة يُدال فيها بين المقاتلين في الميدان، فكونوا راضين صابرين مثل من سبقكم فإنهم لم يَهِنوا ولم يَضعُفوا ولم يَستكينوا ولم يَذِلّوا، وهذا الكلامُ للاعتبارِ بحالِ الماضين الذين قاتلوا من قبلُ مع الأنبياءِ،. والعبرةُ في كونِ النبيين كانوا يُقاتِلون ومعهم مؤمنون صادقو الإيمان، تصيبُهم الجراحُ، كما تُصيبُ أعداءَهم، لكنّ جراحَهم هذه ما كانت تُوهِنُهم أوْ تُضعِفُهم أو تَجعلُهم يَستكينون ويَذِلُّون، وقدْ نَفَى اللهُ تعالى عن أولئك الرَبّانيّين ثلاثةَ أوصافٍ لا تتَّفقُ مع الإيمان هي: 1ـ الوهنُ: فقد نَفاه ـ سبحانه وتعالى ـ بقولِه تعالى: "فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" والوهنُ اضطرابٌ نفسيٌّ، وانزِعاجٌ قلْبيٌّ، فهو يَبتَدئ في الداخلِ، وإذا وَصَلَ إلى الخارجِ كان ضَعْفًا وتَخاذُلًا، وإذا أَنتج الضعفَ كانت نتائجُه الاستكانةَ والذُلَّ، ولذلك ابتَدأ بنفيِ الوَهْنِ، وقَرَنَ نفيَ الوَهْنِ بِكونِ سببِه ما أصابَهم في سبيلِ اللهِ للإشارة إلى أنَّ الوهنَ يُنافي قوَّةَ الإيمان، لأنَّ مَن كان يُقاتلُ في سبيلِ اللهِ عليه أنْ يَعلَمَ الغايةَ مِنَ القتالِ، وهي تُوجِبُ تَحَمُّلَ كلِّ الشدائدِ، والعاقبةُ للمتَّقين.2 ـ الضعفُ والتخاذُلُ الذي يُوجِبُه اليأسُ والاضْطِرابُ، وهذا كما قلنا هو نتيجةٌ للوهْنِ.3 ـ الاستكانةُ، وهي الرضا بالذُلِّ والعيشُ مع الهَوانِ، وذلك ليس شأنِ المُؤمن.وقد نفَى ـ سبحانه ـ هذه الأوصافَ الثلاثةَ مَعَ أنَّ واحدًا يَكفي نَفْيُه لِنَفيها، لأنَّها مُتلازِمةٌ، لِبيانِ قُبحِ ما يَقعون فيه لو سَلَّطوا وَصْفًا منها على نفوسِهم فاسْتَمْكَنَ فيها.قولُه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} يُشيرُ اللهُ ـ سبحانه ـ بهذا إلى أنَّ الذين لا يُصيبُهم وَهْنٌ بِسَبَبِ اشْتِدادِ المَعركةِ ولا ضَعْفٌ ولا ذُلٌّ ولا اسْتِكانةٌ واسْتِسْلامٌ همُ الصابرون حَقًّا وصِدْقًا. ولذلك فإنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يُحبُّهم. والصبر ليس هو احتمالَ الشدائدِ، فقط، بل هو ألّا يتضعضعَ عندَ نزولها، وألَّا يَضطَّرِبَ التفكيرُ عندَ اشْتِدادِ الأزمات، وأنْ تَنفيَ مطامعَ النفسِ إلَّا ما كان منها إجابةً لِداعي الحَقِّ ونُصرَتِهِ، وأنْ تَخُلصَ القُلوبُ عن شوائبِ الشهوات فلا تَخضَعُ لَها ولا تَذِلُّ، بَل تَتحكَّمُ النفس في أهوائها، وألا يكون أنينٌ ولا شكوى ولا ضجيجٌ، وهذا هو الذي سُميَ الصبرَ الجميلَ، والصبرُ على هذا المعنى هو من أَجَلِّ الصفاتِ الإنسانيَّة وأكملِها؛ لأنَّه ضبطٌ للنفسِ، وكمالٌ للعقلِ، وسيطرةٌ للحِكمةِ وقوَّةِ الجَنانِ، وهو رباطة الجأشِ، ويتضمَّن في ثناياه معنى الشُكرِ، فهو عنصرٌ من عناصره، ومظهرٌ من مَظاهرِه، وكان الجزاءُ عليه أعلى جزاءٍ، وهو مَحبَّةُ اللهِ، ومحبَّةُ اللهِ ـ تعالى ـ تتضمَّنُ ثوابَه رِضوانَه.قوله تعالى: {وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} هذه اللفظةُ قيلَ: مُرَكَّبَةٌ مِن كافِ التَشبيهِ ومِن "أيٍّ"، وحَدَثَ فيه بعد التَركيبِ معنى التَكثيرِ المفهومُ مِن "كم" الخَبَريَّة، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التَكثير: "كذا" في قولِهم: "له عندي كذا كذا درهماً" والأصلُ: كافُ التَشبيهِ و"ذا" الذي هو اسمُ إشارةٍ، فلمَّا رُكِّبا حَدَثَ فيهما معنى التكثير، وكم الخَبَريَّةُ و"كأيِّن" و"كذا" كلُّها بمعنى واحدٍ، وقد عَهِدْنا في التركيبِ إِحداثَ معنًى آخِرَ، أَلَا تَرَى أنَّ "لولا" حَدَثَ لها معنىً جديدٌ. و"كأيِّن" مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير نونٍ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً، إلَّا أنَّ الصحابةَ كَتَبَتْها: "كأيِّن" بثبوتِ النونِ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراءِ بالنُونِ إتْباعاً لِرِسْمِ المُصْحَفِ. ووقفَ أبو عمرو وسَوْرةُ بنُ مُبارَكٍ عن الكَسائيِّ عليها: "كأي" من غيرِ نونٍ على القياس. واعتلَّ الفارسي لِوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّلَ بها، منها: أنَّ الكلمةَ لَمَّا رُكِّبتْ خَرَجَتْ عن نظائِرها، فَجُعِل التنوينُ كأنَّه حَرْفٌ أَصْلِيٌّ مِن بُنْيَةِ الكَلِمةِ. وفيها لغاتٌ خمس. أوَّلُها: "كَأَيِّنْ" وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلاَّ ابنَ كَثيرٍ. وقال الشاعر:كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ .................... أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُوالثانية: "كائِنْ" بزنةِ "كاعِنْ" وبها قرأ ابنُ كثيرٍ وجماعةٌ، وهي أكثرُ استعمالاً من "كَأَيِّن" وإنْ كانت تلك الأصلَ . قال جرير: وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ .................. يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَاباوقال عَمرو بنُ شأسٍ: وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ............ يَجِيءُ أَمَامَ الرَّكْبِ يَرْدِي مُقَنَّعَاواختلفوا في توجيهِ هذه القراءةِ فنُقلَ عن المُبَرِّدِ أنَّها اسْمُ فاعلٍ مِن: كان يَكونُ فهو كائن، واسْتَبْعَدَه مَكِيٌّ، قال: لإتيانِ "مِنْ" بعدَه ولِبنائِه على السكون. وكذلك أبو البقاء قال: وهو بعيدُ الصِحَّةِ، لأنَّه لو كان كذلك لكان مُعْرَباً، ولم يكن فيه معنى التكثير لا يُقال: هذا يُحْمَلُ على المُبَرِّد، فإنَّ هذا لازمٌ لهم أيضاً، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً، لأنَّ التركيبَ عُهِدَ فيه مثلُ ذلك كما تَقَدَّم في "كذا" و"لولا" ونحوِهما، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ويُبْنى مِن غيرِ سببٍ فلَمْ يُوجَدْ لَه نَظيرٌ. وقيلَ: هذه القراءةُ أصلُها "كأيِّنْ" كقراءةِ الجَماعةِ إلَّا أنَّ الكلمةَ دَخَلَها القلبُ فصارَتْ "كائِن" مثل "جاعِن".واختلفوا في تَصييرِها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ ، أحدُها: أنَّه قُدِّمتِ الياءُ المُشدَّدةُ على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهما الياءُ المشددة، ثمَّ حُذِفَتِ الياءُ الثانيةُ لِثِقَلِها بالحَرَكةِ والتَضعيفِ كما قالوا في "أيُّهما": أيْهُما، ثمَّ قُلِبت الياءُ الساكنةُ ألفاً كما قَلَبُوها في نحو: "آية" والأصل: أَيَّة، وكما قالوا: طائي، والأصل: طَيْئِي، فصارَ اللفظُ: كائِن كـ "جاعِن" كما ترى، ووزنُه "كَعْفٍ"؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرتْ إلى مَوضعِ اللامِ، واللامُ قد حُذِفَتْ. الوجْه الثاني: أنَّه حُذِفَتِ الياءُ الساكنةُ التي هيَ عيْنٌ وقُدِّمَتِ المتحركةُ التي هي لامٌ، فتأخَّرتِ الهمزةُ التي هي فاءٌ، وقُلِبَت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَ "كائِن" ووزنُه: كَلْفٍ.الوجهُ الثالث: أنَّه قُدِّمَتْ إحدى الياءَين في موضع الهمزةِ فَحُرِّكت بحركة الهمزة وهي الفتحةُ، وصارَت الهمزةُ ساكنةً في موضعِ الياء، فتَحَرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان: الألفُ المنقبلةُ عن الياءِ والهمزةُ بعدها ساكنةٌ، فكُسِرت الهمزةُ على أصل التقاءِ الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفةً فأذهبها التنوينُ بعد سَلْبِ حركتِها كياءِ قاضٍ وغازٍ، ويُعْزى هذا الوجهُ للخليلِ بنِ أحمدٍ الفَراهيديِّ.الوجهُ الرابعُ: أنَّه قُدِّمَتِ الياءُ المتحرِّكةُ فانقلبت ألِفاً، وبَقيتْ الأُخرى ساكنةً فحَذَفها التنوينُ مثلُ قاضٍ، ووزنُه على هذين الوجهين أيضاً كَلْفٍ لِما تقدَّم مِنْ حَذْفِ العينِ وتأخيرِ الفاء، وإنَّما الأعمالُ تَختلفُ.اللغةُ الثالثة: "كَأْيِن" بياءٍ خَفيفةٍ بعدَ الهمزةِ على مثالِ: كَعْيِن، وبها قَرَأَ ابنُ مُحَيْصِنٍ والأشهبُ العَقيليُّ، ووجْهُها أنَّ الأصلَ: كَأَيِّنْ كقراءةِ الجماعةِ: فَحُذِفَتْ الياءُ الثانيةٌ استثقالاً فالتقى ساكنان: الياءُ والتنوينُ، فكُسِرت الياءُ لالتقاءِ الساكنين ثم سَكَنَتِ الهمزةُ تخفيفاً لثقلِ الكلمةِ بالتركيبِ فصارَتْ كالكلمةِ الواحدةِ كما سَكَّنوا: "فهْو" و"فهْي".اللغة الرابعة: "كَيْئِن" بياء ساكنةٍ بعدَها همزةٌ مكسورةٌ ، وهذه مقلوبُ القراءةِ التي قبلَها ، وقرأ بها بعضُهم .واللغةُ الخامسةُ: "كَئِنْ" على مثال كَعٍ، ونَقَلها الداني قراءةً عن ابن مُحَيْصِنٍ أيضاً. وقال الشاعر: كَئِنْ مِنْ صديقٍ خِلْتُه صادقَ الإِخا .......... أبانَ اختباري أنَّه لي مُداهِنُوفيها وجهان أحدُهما: أنَّه حَذَفَ الياءَيْن دفعةً واحدةً لامْتِزاجِ الكَلِمتيْن بالتركيبِ، والثاني: أنَّه حَذَفَ إحدى الياءَيْن على ما تَقَدَّم تقريرُه، ثمَّ حَذَف الأُخرى لالْتِقائِها ساكنةً مع التنوينِ، ووزنُه على هذا: "كَفٍ" لِحَذْفِ العينِ واللامِ منه. واختلفوا في "أيٍّ": هل هي مصدرٌ في الأصل أم لا؟ فذهب جماعةٌ إلى أنَّها ليسَتْ مصدراً فالأصلُ في كأيِّن: "أي" التي هي بعضٌ مِن كلِّ، أُدْخِلَتْ عليها كافُ التَشبيه، فإذا أُضيفتْ إلى معرفةٍ فحكمُها حكمُ "بعض" في مطابقةِ الخبرِ وَعُودِ الضميرِ نحو: أيُّ الرجلين قام؟ ولا تقول: "قاما"، وليست هي التي "بعض" أصلاً.وذهب ابنُ جِنّي إلى أنَّها في الأصل مصدر "أَوَى يَأْوي" إذا انضمَّ واجتمع، والأصلُ: أَوْيٌ نحو: طَوَى يَطْوي طَيَّاً، الأصلُ: طَوْي، فاجتمعت الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكونِ فَقُلِبَت الواوُ ياءً وأُدْمجت في الياء، وكأنَّ ابنَ جِنّي يَنظُر إلى معنى المادَّة من الاجتماعِ الذي يَدُلُّ عليه "أيّ" فإنَّها للعمومِ، والعمومُ يستلزمُ الاجتماع.وهل هذه الكافُ الداخلةُ على "أي" تتعلَّق بشيءٍ كغيرِها من حروفِ الجَرِّ أمْ لا؟ والصحيحُ أنَّها لا تتعلَّقُ بشيءٍ أصلاً لأنَّها مع "أي" صارتا بمنزلةِ كلمةٍ واحدةٍ وهي "كم"، فلم تتعلَّقْ بشيءٍ؛ ولذلك هُجِر معناها الأصليُّ وهو التَشبيهُ.وزَعَمَ الحُوفِيُّ أنَّها تتعلَّق بعاملٍ، ولا بُدَّ مِن إيرادِ نَصِّهِ لِتَقِفَ عليهِ قال: أمَّا العاملُ في الكافِ فإنْ جَعَلْنَاها على حُكْمِ الأصلِ فمَحمولٌ على المعنى، والمعنى: أصابَتْكم كإصابةِ مَنْ تقدَّمَ مِن الأنبياءِ وأصحابِهم، وإنْ حَمَلْنا الحُكمَ على الانتقالِ إلى معنى "كم" كان العاملُ بتقديرِ الابتداءِ وكانتْ في مَوضِعِ رفعٍ، و"قُتِلَ" الخبر، و"مِنْ" متعلِّقةٌ بمعنى الاستقرارِ، والتقديرُ الأوَّلُ أَوضحُ لِحَمْل الكلامِ على اللفظِ دون المعنى بما يَجبُ مِن الخفضِ في "أي"، وإذا كانَتْ "أي" على بابِها مِنْ مُعامَلَةِ اللَّفظِ فـ "مِنْ" متعلِّقةٌ بما تعلَّقت به الكافُ من المعنى المَدلولِ عليه، وهو كلامٌ غريبٌ.وقيل أيضاً أَنَّ "كأيِّنْ" كلمةٌ بسيطةٌ غيرُ مُرَكَّبةٍ وأنَّ آخرَها نونٌ هي مِنْ نفسِ الكَلِمةِ لا تَنوينٌ، لأنَّ هذه الدَّعاوى المتقدَّمةَ لا يقومُ عليها دليل، وقد ذَكَر النحويون هذه الأشياءَ محافظةً على أُصولِهم، معَ ما يَنضَمُّ إلى ذلك مِنَ الفوائِدِ وتَشحيذِ الذِهن وتَمرينِه. هذا ما يتعلَّق بـ "كأيِّن" من حيث الإِفرادُ.أمَّا ما يتعلَّقُ بها من حيث التركيب فموضعُها رفعٌ بالابتداءِ وفي خبرِها أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه "قُتِل" فإنَّ فيه ضميراً مرفوعاً به يعودَ على المبتدأ والتقدير: كثيرٌ مِن الأنبياءِ قُتِلَ. والجيِّدُ أَنْ يَعودَ الضميرُ على لفظِ "كأيِّنْ" كما تقولُ: "مئةُ نبيٍّ قُتِلَ" فالضميرُ للمئة، إذ هي المبتدأ. فإنْ قلتَ: لو كان كذلك لأنَّثْتَ فقلتَ: قُتِلَتْ. قيلَ: هذا محمولٌ على المعنى، لأنَّ التقديرَ: كثيرٌ مِن الرجالِ قُتِل. كأنَّه يَعني بغيرَ الجَيِّدِ عَوْدَه على لفظِ "نبيٍّ"، فعلى هذا يكون "معه رِبِّيُّون" جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنَ الضميرِ في "قُتِلَ" وهو أَوْلَى لأنَّه مِنْ قَبيلِ المُفرداتِ، وأصلُ الحالِ والخبرِ والصفةِ أنْ تَكونَ مفردةً. ويجوزُ أَنْ يكونَ "معه" وحدَه هو الحالَ و"رِبِّيُّون" فاعلٌ به، ولا يَحْتاج هنا إلى واوِ الحالِ لأنَّ الضميرَ هو الرابطُ، أَعني الضميرَ في "معه"، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من "نبيٍّ" وإنْ كان نَكِرَةً لِتَخصيصِهِ بالصِّفةِ حينئذٍ، ذَكَرَهُ مَكّيٌّ، وعَمِل الظرفُ هنا لاعتمادِه على ذي الحالِ. وقرأ ابنُ كثيرٍ ونافعٌ وأبو عَمْرٍو: "قُتِل" مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك إلَّا أنَّه شدَّدَ التاءَ، وباقي السَبعةِ: "قاتَل"، وكلٌّ مِنْ هذه الأفعالِ يَصْلُح أَنْ يَرفعَ ضميرَ "نَبيٍّ" وأنْ يَرفعَ رِبِّيِّين على ما تقدَّم تفصيلُه. وقال ابنُ جنّي: إنَّ قراءةَ "قُتِّل" بالتشديد يَتعيَّنُ أنْ يُسْنَدَ الفعل فيها إلى الظاهر، أَعني رِبِّيين. لأنَّ الواحدَ لا تَكثيرَ فيه. ولا يَمتنعُ أنْ يكونَ فيه ضميرُ الأوَّلِ لأنَّه في معنى الجماعة. يعني أنَّ "من نبيٍّ" المرادُ به الجنسُ فالتكثيرُ بالنسبة لكثرةِ الأشخاصِ لا بالنسبةِ إلى كلِّ فردٍ فردٍ، إذِ القَتْلُ لا يَتَكَثَّرُ في كلِّ فَردٍ. فإِنْ قيل : يُسْنَدُ إلى "نبيٍّ" مراعاةً لِمعنى "كم" فالجوابُ: أنَّ اللَّفظَ قد فَشَا على جِهَةِ الإِفرادِ في قولِه: {مِنْ نَّبِيٍّ}، ودلَّ الضميرُ المفردُ في "معه" على أنَّ المُرادَ إنَّما هو التمثيلُ بواحدٍ، فخرَجَ الكلامُ عن معنَى "كم". وهذه القراءةُ تُقَوِّي قولَ مَنْ قال: إنَّ "قُتِلَ" و"قاتَل" يُسْنَدانِ إلى الرِبِّيِّين. ورجَّحَ بعضُهم قراءةَ "قاتَلَ" لقولِه بعد ذلك: {فَمَا وَهَنُواْ} قال: وإذا قُتِلوا فكيف يُوصفون بذلك؟ إنَّما يُوصف بهذا الأحياءُ، والجوابُ: أنَّ معناه "قُتِل بعضُهم"، كما تقول: » قُتل بنو فلان في وقعة كذا ثم انتصروا. وقال ابنُ عطيَّة: قراءةُ مَنْ قرأ "قاتل" أعَمُّ في المَدحِ، لأنَّه يَدخُلُ فيها مَنْ قُتِل ومَنْ بَقيَ، ويَحْسُنُ عندي على هذه القراءةِ إسنادُ الفعلِ إلى الربِّيِّين، وعلى قراءةِ "قُتِل" إسنادُه إلى "نبي". وقولُه: {مِن نَّبِيٍّ} تمييزٌ لـ "كأيِّن" لأنَّها مثلُ "كم" الخَبَريَّةِ. وزَعَمَ بعضُهم أنَّه يَلزَمُ جَرُّه بـ "مِن"، ولهذا لم يَجِيءْ في التنزيلِ إلا كَذا، وهذا هو الأكثرُ الغالِبُ كما قال، وقد جاء تمييزها منصوباً قال: اطرُدِ اليأسَ بالرجاء فكائِنْ ..................... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِوقال آخر: وكائِنْ لنا فَضْلاً عليكم ورحمةً ............. قديماً ولا تَدْرُون ما مَنُّ مُنْعِمِوأمَّا جرُّه فمُمتَنِعٌ لأنَّ آخرَها تنوينٌ وهو لا يَثْبُتُ مع الإِضافةِ. والربيُّون: جمعُ "رِبِّي" وهو العالمُ منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإنما كُسرت راؤه تغييراً في النسب نحو: "إمْسِيّ" بالكسرِ منسوبٌ إلى "أَمْس". وقيل: كُسِر للإِتْباعِ، وقيل: لا تغييرَ فيه وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ. وهذه القراءةُ بكسرِ الراءِ قراءةُ الجمهورِ، وقرأَ عليٌ وابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ والحسنُ: "رُبِّيُّون" بضمِّ الراءِ، وهو مِن تغييرِ النَسَبِ إنْ قُلنا هو منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وقيل: لا تغييرَ وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ، وفيها لُغتانِ: الكَسرُ والضَمُّ، وقرأ ابنُ عبَّاسٍ في روايةِ قَتادة: "رَبِّيُّون" بِفتحِها على الأصل، إنْ قلنا: منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإلاَّ فَمِنْ تغييرِ النَسَبِ إنْ قلْنا: إنَّه منسوبٌ إلى الرُّبَّة. قال ابنُ جِنّي: "والفتحُ لغة تميم". وقال النقاش: هم المُكْثِرون العلمَ من قولهم: "رَبا يربُو" إذا كَثُر". وهذا سَهْوٌ منه لِاخْتِلافِ المادَّتيْن، لأنَّ تَيْكَ من راءٍ وباءٍ وواوٍ، وهذه مِن راءٍ وباءٍ مكررةٍ. و"كثيرٌ" صفةٌ لـ "ربِّيّون" وإنْ كان بلفظِ الإِفرادِ لأنَّ معناه جمعٌ.قولُه: {فَمَا وَهَنُواْ} الضميرُ في "وَهَنوا" يعودُ على الرِّبِّيين بجُملتِهم إنْ كان "قُتِل" مُسْنَداً إلى ضميرِ النبيِّ، وكذا في قراءة "قاتَل" سواءً كان مُسْنَداً إلى ضميرِ النَبِيِّ أو إلى الربِّيِّين، وإنْ كان مسنداً إلى الرِبِّيين فالضميرُ يعودُ على بعضِهم، وقد تقدَّم ذلك عندَ الكلامِ في ترجيحِ قراءةِ "قاتل". والجمهورُ على "وَهَنوا" بفتحِ الهاءِ، والأعمشُ وأبو السَّمَّال بكسرِها، وهما لُغتان: وَهَنَ يَهِنُ، كَوعَدَ يَعِدُ، ووَهِنَ يَوْهَن كوَجِل يَوْجَل، ورُوِي عن أبي السَّمَّال أيضاً وعِكْرِمَة: "وَهْنوا" بكسونِ الهاءِ، وهو مِن تخفيفِ فَعِلٍ لأنَّه حَرفُ حَلْقٍ نحو: نَعْم وشَهْد في: نَعِم وشَهِد.و"لما" متعلِّقٌ بـ "وَهَنوا"، و"وما" يَجوزُ أَنْ تَكونَ مَوْصولةً اِسْميَّةً أو مَصْدريَّةً أو نَكِرةً موصوفةً. والجمهورُ قرؤوا: "ضَعُفوا" بضمِّ العَيْن، وقُرئ: "ضَعَفوا" بفتحِها، وحَكاها الكَسائيُّ لُغةً.وقولُه: {وَمَا استكانوا} فيه ثلاثةُ أَقوالٍ: أحدُها: أنَّه استَفعلَ مِن الكونِ، والكونُ: الذُّلُّ، وأصلُه: اسْتَكْوَن، فَنُقِلَتْ حركةُ الواو على الكاف، ثمّ قُلِبَتِ الواوُ ألِفاً. وقال الأزهريُّ وأبو عليّ: هو من قول العرب: بات فلانٌ بِكَيْنَةِ سوءٍ "على وزِن" جَفْنة، أي: بحالةِ سوءٍ، فألِفُه على هذا مِنَ ياءِ، والأصلُ: اسْتَكْيَنَ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختِها.الثالث: قال الفَرَّاء: وزنُه افْتَعَل من السكون، وإنَّما أُشْبعتِ الفَتْحةُ فتولَّدُ منها ألفٌ كقولُه: أعوذُ باللهِ من العَقْرابِ ......................... الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِيُريدُ: العَقْرَبَ الشائلةَ. ورُدَّ على الفراء بأنَّ هذه الألفَ ثابتةٌ في جميع تصاريفِ الكلمةِ نحو: استكانَ يَسْتكينُ فهو مُسْتَكِين ومُسْتَكان إليه استكانةً، وبأنَّ الإِشباعَ لا يكونُ إلا في ضرورةٍ. وكلاهما لا يَلْزَمُه: أمَّا الإِشباعُ فواقعٌ في القراءاتِ السبعِ كما سيمرُّ بك، وأمَّا ثبوتُ الألفِ في تصاريف الكلمةِ فلا يَدُلُّ أيضاً؛ لأنَّ الزائد قد يلزَمُ ألا ترى أنَّ الميمَ في تَمَنْدل وتَمَدْرَعَ زائدةٌ، ومع ذلك هي ثابتةٌ في جميعِ تصاريفِ الكلمة قالوا: تَمَنْدل يَتَمَنْدَلُ تَمَنْدُلاً فهو مُتَمَنْدِلٌ ومُتَمَنْدَلٌ به، وكذا تَمَدْرَع، وهما من النَّدْل والدِّرْع. وعبارةُ أبي البقاء أحسنُ في الردِّ فإنه قال: لأنَّ الكلمة في جميعِ تصاريفِها ثبتَتْ عينُها والإِشباعُ لا يكونُ على هذا الحدِّ.ولم يَذْكُر متعلِّقَ الاستكانة والضعف فلم يَقُل "فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا" للعمل به أو للاقتصارِ على الفعلين نحو: {كُلُواْ واشربوا} البقرة: 60. لِيَعُمَّ ما يَصْلُحُ لهما. | |
|