عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 121 الإثنين مارس 04, 2013 6:09 am | |
| وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
(121) قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} نَزَلَتْ هذه الآيةُ في غزوةِ أُحُدٍ، إذ خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حجرة أمِّ المؤمنين عائشةَ ـ رضي الله عنها، في السنةِ الثالثةِ للهجرةِ سَحَرِ السابِعِ مِنْ شوال، وأخَذَ يَصُفُّ المؤمنين للقتال، كلٌّ في موقِفِه، فجعلَ الرُّماةَ أعلا الجبلِ من وراءِ المُقاتلينَ ليحموا ظهورهم حتى لا يلتفَ عليهم المشركون من ورائهم، وأمرَهم بأنْ ينضحوا عنهم بالنَبْلِ، قائلاً لأميرِهم: ((انْضَحِ الخيلَ عنَّا بالنَّبْلِ لَا يأتونا مِنْ خَلْفِنا، إنْ كانت لنا أو علينا، فاثْبُتْ مَكانَكَ، لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِك)). وأَمَرَ الجيشَ كلَّهُ وكان عددُه نحواً من سبعِ مئةِ مقاتلٍ ألَّا يَتَحرَّكَ إلَّا عندما يَأذنَ له بالحَرَكة، حتَّى إنَّ أحدَ الأنْصارِ اسْتَشْرَفَ للقِتالِ وتِمَنَّاه عندما رأى قريْشًا قد سرَّحتْ أفراسَها وإبِلِها في زُروعِ المسلمين، وقال: "أتَرعى زُروعَ بني قَيْلَةَ (يعني الأنْصار) ولمّا تُضارِب".وقولُه: {من أهلك} أي من المنزِلِ الذي فيه أهلُك، يعني عائشةَ، ـ رضي اللهُ عنها ـ وفيه منقبةٌ عظيمةٌ لها لقوله: "من أهلك" فنَصَّ اللهُ تعالى على أنَّها مِن أهلِه.وقوله تعالى: {تُبَؤِئُ الْمُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أَصْلُ التَّبَوُّءِ اتِّخَاذُ الْمَنْزِلِ، بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا إِذَا أسكنته إيَّاه، ومنْه قولُه عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، متَّفقٌ عليه. أَيْ لِيَتَّخِذِ فِيهَا مَنْزِلًا. فَمَعْنَى "تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ" تَتَّخِذُ لَهُمْ مَصَافَّ. فتُسَوِّي لهم وتُنَظِّمُ وتُرتِّبُ لهم مقاعدَ للقِتالِ، فهي إذا تتضمَّن معنى التنظيمِ والتهيئةِ والاستعدادِ للقاءِ المشركين صفًّا واحدًا، كأنَّهم بنيانٌ مَرْصوصٌ. وهذا التنظيم إنَّما هو بيانُ مَواقِفِ القِتالِ. وقد عبّرَ عن المواقف بـ "مقاعد للقتال" للإشارةِ إلى وجوب الثبات فيها والسكون حتَّى لَا يتحرَّكوا إلَّا بأمرٍ مِن القائدِ الأعظمِ وهو النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلَّم. وقد كان الثبات سبب َالنصرِ في بداية غَزوةِ أُحُدٍ، أمّا الهزيمة فقد كان سبَبَها عدمُ الاستمرارِ في البقاءِ في مَواقِفِهم، ذلك أنَّ الرُّماةَ عندما رأَوْا المُؤمنين قد انْقَضُّوا بأمرِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ على المشركين يقتُلونهم ويُزيلونَهم عن مواقِفِهم، تَركوا مواقِفَهم وذَهَبوا وراءَ المؤمنين يَغْنمون ويأخُذون، فانْقَضَّ عليْهم مِن ورائِهم فرسانُ المُشرِكين، فتَفَرَّقوا، وهذا قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، آل عمران، 152. ومن هنا كانتْ إصابةُ المسلمين في موقِعَةِ أُحُدٍ.قولُه: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ذَيَّلَ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ الآيةَ الكريمةَ بهذا النَصِّ السامي لِبيانِ أنَّه ـ تعالى ـ مُطَّلِعٌ على ما كان يَجري بيْن المؤمنين وبيْن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ من مُشاوراتٍ، وما استقرَّ عليْه رأيُ كَثرتِهم، ثمَّ نُزولُه ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ عندَ رأيِ الكَثْرَةِ، ثمَّ عُدولُ الكَثْرةِ إلى رأيِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ قولُ النبيِّ لهم معتزِمًا إمضاءَ ما قرَّروا أوَّلًا، وإنْ كان غيرَ رأيِه الذي مالَ إليْه، لِيُعَلِّمَهم أنَّ التَرَدُّدَ ولو للصوابِ المُحْتَمَلِ ضرَرُه أكثرُ مِن المُضِيِّ ولو في الرأيِ المُحتَمِلِ للخطأ، فإنَّ صوابَ الحروبِ وخطأها، لَا يَتبَيَّنُ، وإنَّ التَرَدُّدَ فيها يَقتُل، والمَضاءُ فيها يَنْصُرُ، وبيَّنَ بهذا التذييلِ أيضًا أنَّ اللهَ ـ تعالى ـ عليمٌ بخَفايا القُلوبِ، فهو يَعلَمُ ما تَهِمُّ به القلوبُ، وما تُوَسْوِسُ به النفوس.ولقد عَلِمَ اللهُ ما كان من المؤمنين والمُنافقين مِن مُناقشات عندما ساورَ المدينةَ المشركون في العام الثالث، وأرادوا أن يثأروا لقتلاهم في بدر، فقد جمع النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابَه لِيَسْتَشيرَهم في الأمر، أَيَخرُجون إليْهم، أمْ يَبقون حتَّى يَجيءَ العدوُّ إليْهم في الديارِ، فقال بعضُ المؤمنين: (أَقِمْ يا رَسولَ اللهِ بالمَدينة، ولا تَخْرُجْ إليْهم، فواللهِ ما خَرَجْنا منها إلى عَدُوٍّ قَطُّ إلَّا أصابَ مِنَّا، ولا دَخَلَها عليْنا إلَّا أَصَبْنا منه، فكيف وأنتَ فينا؟ فدَعْهم فإنْ أقاموا أقاموا بِشَرِّ مَحبسٍ، وإنْ دَخَلُوا قاتَلَهم الرجالُ في وجوهِهم ورَماهُمُ النِساءُ والصِبْيانُ بالحِجارةِ، وإنْ رَجَعوا رجعوا خائبين). وعارضَ ذلك الرأيَ الأكثَرون مِمَّن لم يَحضُروا بدرًا فقالوا: (اخْرُجْ بِنا يا رسولَ اللهِ إلى هؤلاءِ الأكْلُبِ لَا يَروْنَ أنَّا قد جَبُنَّا عنهم). وما زالَ أولئك الذين لم يحضروا بدرًا بالرسولِ حتَّى نَزَلَ عندَ رأيِهم، وقد كان إلى الأوَّلِ أَمْيَلَ. فَقد رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ فِي سَيْفِهِ ثُلْمَةً، وَأَنَّ بَقَرًا لَهُ تُذْبَحُ، وَأَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَتَأَوَّلَهَا أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ، وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُصَابُ، وَأَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مِنْ تِلْكَ الْغَزَاةِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا وَكَأَنَّ ضَبَّةَ سَيْفِي انْكَسَرَتْ فَأَوَّلْتُ أَنِّي أَقْتُلُ كَبْشَ الْقَوْمِ وَأَوَّلْتُ كَسْرَ ضَبَّةِ سَيْفِي قَتْلَ رَجُلٍ مِنْ عِتْرَتِي)). فَقُتِلَ حَمْزَةُ ـ رضي اللهُ عنه ـ وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ طَلْحَةَ، وَكَانَ صَاحِبَ اللِّوَاءِ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: وَكَانَ حَامِلَ لِوَاءِ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أَنَا عَاصِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا مَعِي، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ أَخُو سَعِيدِ ابن عُثْمَانَ اللَّخْمِيِّ: هَلْ لَكَ يَا عَاصِمُ فِي الْمُبَارَزَةِ؟ قَالَ نَعَمْ، فَبَدَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ. فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ طَلْحَةَ حَتَّى وَقَعَ السَّيْفُ فِي لِحْيَتِهِ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ قَتْلُ صَاحِبِ اللِّوَاءِ تَصْدِيقًا لِرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّموتَرَكَهم وعادَ إلى أهلِه لِيَلْبَسَ لَأْمَةَ الحَرْبِ، فتَلاوَمَ المُسْلِمون فيما بينَهم، وقال قائلُهم: بِئْسَما صَنَعْنا، نُشيرُ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والوَحْيُ يأتيهِ؛ فلمَّا جاء إليْهِمُ الرسولُ قالوا: اصْنَعْ يا رسولَ اللهَ ما رأيتَ، فقال الرسول ذو العزمِ ـ عليه الصلاة والسلامُ: ((ما كان لِنبيٍّ لَبِسَ لَأْمَتَه أنْ يَضَعَها حتَّى يَحكُمَ اللهُ بينَه وبيْن عدُوِّه)). رواه البخاري وأحمد.وخرَجَ رسول الله ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّم ـ في ألفٍ مِنَ أصحابِه، وكان عددُ المُشركين ثلاثةَ آلافٍ، وكان مع المُسلمين طائفةٌ مِنَ المُنافقين، على رأسِهم عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ ابن سَلُولٍ، فرأى أنْ يُحْدِثَ الخَلَلَ في الصفوفِ فرَجع ومعه نحوُ ثلاثمئةٍ ممَّن هم على شاكِلَتِه وضِعافِ الإيمان، وبَرَّرَ تَخاذُلَه بأنَّه كان يَرى ألَّا يَخرُجَ إليْهم المؤمنون وأنْ يبقوا بالمَدينةِ، ومنهم مَنْ زَعَمَ أنَّه لَا علمَ له بالقتالِ، وقالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ}، آل عمران:167. وقد ظهرتْ عداوةُ المُنافقين، وبرزتْ نِيَّاتُهم، وتَكَشَّفتْ سرائرُهم، حتَّى إن النبيَّ مرَّ في بعضِ أصحابِه بحائِطِ رجُلٍ أعمى منهم فأخذَ يحثُو الترابَ في وجوهِهِم ويقول: لو أنّي أعلمُ أنّي لَا أصيبُ بها غيرَك يا مُحمَّدُ لَضَرَبْتُ بها وجهَكَ فابْتَدَرَه القومُ لِيَقتُلوهُ، فقال النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم: ((لا تقتلوه فهذا الأَعمى أعْمى القلبِ، أعْمى البَصَر)). وفي وسَطِ تِلكَ الزَّوْبَعةِ التي أثارَها المُنافقون بانْشِقاقِهم وعودتِهم إلى المدينةِ أَلقُوا الرُّعْبَ في قُلوبِ بعضِ الضُعَفاءِ، حتَّى لقد هَمَّ بعضُ المُؤمنين بالفشلِ.قولُه تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ} العامل في "إذ" مضمرٌ تقديرهُ: واذْكر إذْ غَدوتَ، فيَنتِصِبُ انتصابَ المفعولِ به لا على الظرفِ. وجَوَّزَ بعضُهم أَن يكونَ معطوفاً على "فئتين": في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} آل عمران: 13. أي: قد كان لكم آيةٌ في فئتيْن وفي إذ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يُنظر إليه.والغدوُّ: الخروجُ أوَّلَ النَّهارِ، يُقالُ: غَدا يَغْدُو أيْ: خَرَجَ غُدْوَةً، ومعنى غدوتَ: انطلقتَ مبكِّراٌ، والغُدْوةُ والغَداةُ أَوَّلُ النَّهارِ، ويُذَكَّرُ فنقولُ: الغُدُوُّ، ويُقابَلُ بالآصالِ أيْ قبلَ المغرِبِ، ومن ذلك قولُه تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، النور: (36). وقوبلتِ الغَداةُ بالعَشِيِّ، أيضاً، ويُطلَق الغُدُوُّ على الذَّهابِ ويكون مُقابلاً للرَّواح، ومن ذلك قوله تعالى في الرياح: {غدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}، وذلك لأنَّ الذَّهابَ غلباً ما يكون في البُكور. ويُسْتَعمَلُ بمعنى صار عند بعضِهم، فيَكونُ ناقصاً يَرفَعُ الاسْم ويَنصِبُ الخَبَرَ، وعليه قولُه ـ عليه الصلاةُ والسلام: ((لو توكَّلتم على الله حَقَّ توكُّلهِ لَرَزَقكم كما يَرزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِماصاً وتَروُح بِطاناً)). أخرجه البُخاريُّ.وقولُه: {مِنْ أَهْلِكَ} متعلِّقٌ بـ "غَدَوْتَ" وفي "من" وجهان، أظهرُهُما: أَنَّها لِابْتِداءِ الغايةِ، أيْ: مِنْ بَيْنِ أَهلِك، وموضِعُه نَصْبٌ تقديرُه: فارقْتَ أهلَك. والثاني: أنَّها بمعنى "مع" أيْ: مع أهلِك، وهذا لا يساعدُهُ لا لَفْظٌ ولا معنى.قوله: {تُبَوِّئُ} يَجوزُ في هذه الجملةِ أنْ تَكون حالاً مِن فاعِلِ "غدوت"، وهي حالٌ مقدَّرةٌ، أيْ: قاصداً تَبْوِئَةَ المؤمنين، لأنَّ وقت الغُدُوِّ ليْس وقتًا للتَبْوِئة. ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ مُقارِنةً؛ لأنَّ الزمانَ مُتَّسِعٌ. وتُبَوِّئُ معناه تُسَهِّلُ وتُنَظِّمُ وتُثبِّتُ، وأصلُه مِنَ البَواءِ وهو مساواةٌ الأجزإءِ في المكان، وبَوَّأتُ له مكانًا سَوَّيْتُه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكمَا بِمِصْرَ بيُوتًا}، يونس: 87. و"تُبَوِّئُ" أي: تُنَزِّلُ فهو يَتَعدَّى لِمفعوليْن إلى أحدِهما بنفسِه وإلى آخَرَ بحرفِ الجَرِّ، وقد يُحْذَفُ، كهذه الآيةِ. ومِنْ عَدَمِ الحَذْفِ قولُه ـ تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} الحج: 26. وأصلُ هذا الفعلِ "بَوَّأ" من المَبَاءة وهي المَرْجِعُ. قال الأعشى: وما بَوَّأ الرحمنُ بَيْتَك منزلاً ................ بشرقيِّ أجيادِ الصَّفا والمُحَرَّمِوقال عَمْرُو بن مَعْدِ يكَرِبَ الزبيديّ: كم مِن أخٍ لي صَالحٍ ................................. بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْداوقيل: اللامُ في قولِه "لإِبراهيم" مَزيدةٌ، فعلى هذا يكون متعدِّياً للاثنين بنفسِه.و"مقاعدَ" جمعُ "مَقْعَدٍ". والمُرادُ به هنا مكانُ القُعودِ. وقعد قد يكون بمعنى صار في الآيةِ المَثَلِ ـ "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيتِ" ـ خاصَّةً. "وقد اتُّسِعَ في قَعَدَ وقامَ حتَّى أُجْريا مُجرى "صار". أمَّا إجْراءُ "قَعَد" مُجْرى "صار" فإنَّما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذَّةٍ في قولِهم: "شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّها حَرْبةٌ"، وكذلك تخريجُ من خرَّج "تَقْعُدَ" في قوله ـ تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} الإسراء: 22. بمعنى: فتَصيرَ، فهو شاذٌ أيضاً لأنَّه لا يَطِّرِدُ إجراءُ قَعَدَ مُجْرى صارَ. حُكي عن ابنِ الأعْرابيِّ أنَّ العربَ تقول: "قَعد فلانٌ أميراً بعد أنْ كان مأموراً" أي صار. "وأمَّا إجراء "قام" مجرى "صار" فلا أعلم أحداً عَدَّها في أخوات "كان"، ولا جعلَها بمعنى صار، إلا ابن هشامٍ الخَضروايِّ فإنَّه ذَكَر في قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ........................ كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رمادِأنها من أفعال المقاربة، وجعلها غيرُه من النحويين زائدةً، وهو شاذ أيضاً.وقرأ العامَّةُ: "تُبَوِّئ" فعدّوه بالتضعيفِ. وقرأ عبدُ الله: "تُبْوِئ" بسكون الباء فعَدَّاه بالهمزةِ، فـ "تُبْوِئُ" مضارعُ أَبْوأَ كأكرم، وقرأ يحيى بنُ وثاب "تُبْوي" كقراءةِ عبد اللهِ، إلَّا أنَّه سَهَّلَ الهمزةَ بإبدالِها ياءً فصارَ لفظُه كلفظِ "تُحْيي" كقولهم: في تُقْرئ تُقْري. وقرأ عبدُ اللهِ: "للمؤمنين" بلامِ الجَرِّ كقولِه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} الحج: 26. وتقدَّم أنَّ في هذه اللامِ قوليْن. والظاهرُ أنَّها مُعَدِّيَةً؛ لأنَّه غيرُ متعدٍّ بنفسِه قَبْلَ التضعيفِ والهمزةِ. ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ قد ضَمَّنه هنا معنى "تُهَيِّئ"، و"ترتِّب".وقرَأ الأشهبُ: "مقاعدَ القتالِ" بإضافتها للقتال. واللام في "للقتال" في قراءة الجمهور فيها وجهان، أظهرُهُما: أنَّها متعلِّقةٌ بـ "تُبَوِّئ" على أنَّها لامُ العِلَّةِ، والثاني: أنَّها متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنَّها صِفَةٌ لـ "مقاعدَ" أي: مقاعد كائنة ومهيئة للقتال، ولا يَجوزُ تَعلُّقها بـ "مقاعدَ" وإنْ كانت مشتَقَّةً، لأنَّها مكانٌ والأمكنةُ لا تَعملُ. | |
|