عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 110 السبت فبراير 23, 2013 3:37 pm | |
| كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لمّا كان المصطفى صلوات اللهِ عليهِ أشرفَ الأَنبياء كانت أُمَّتُه خيرَ الأمم. وكانت أعمارُهم أقْصَرَ الأعمار، وخَلقَهم آخِرَ الخلائق لئلا يطولَ مُكْثُهم تحت الأرض. وما حصلت خَيْرِيَّتُهم بِكَثرةِ صلواتهم وعبادتهم، ولكن بزيادةِ إقبالِهم على اللهِ، وتخصيصِه إيَّاهم. وقد نَزَلتْ في ابنِ مَسعودٍ وأُبيَّ بنِ كعبٍ ومُعاذَ بنِ جبلٍ وسالمٍ مولى أبي حُذيفة رضي الله عنهم، كما قال عِكْرِمَةُ ومُقاتلٌ، وذلك أنَّ مالكَ بنَ الصيفِ ووهْبَ بنَ يهودا اليَهوديَيْنِ قالا لهم: نحن أفضلُ منكم ودينُنَا خيرٌ مما تدعونَنا إليْه، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآية. وقيل الخِطاب: لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، وقيلَ: للمُهاجرين من بينِهم وهو أحدُ خبريْن عن ابنِ عبَّاسٍ، وفي آخَرَ أنَّه عامٌّ لأمَّةِ محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُؤيِّدُه ما أخرجَه الإمامُ أحمد بسندٍ حَسَنٍ عنِ أَبي الحَسَنِ كرَّمَ اللهُ تعالى وجهَهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أعطيتُ ما لم يُعطَ أحدٌ من الأنبياءَ نُصِرتُ بالرُّعْبِ وأُعطيتُ مفاتيحَ الأرضِ وسُمِّيتُ أحمدَ وجُعِلَ التُرابُ لي طَهوراً وجُعِلَتْ أُمَّتي خيرَ الأُمَمِ)). وأخرج ابنُ أبي حاتَمٍ عن أبي جعفرَ رضيَ اللهُ تعالى عنْه أنَّ الآيةَ في أهلِ بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. والظاهرُ أَنَّ الخِطابَ وإنْ كان خاصّاً بمن شاهد الوحيَ من المؤمنين أو ببعضِهم لكنَّ حُكمَه يَصلُحُ أنْ يَكونَ عامّاً للكُلِّ كما يُشيرُ إليه قولُ أمير المؤمنين عمرَ رضيَ اللهُ تعالى عنه فيما حكى قَتادَةُ (يا أيُّها النّاسُ مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكونَ مِنْ تِلْكُمُ الأُمَّةِ فَلْيُؤدِّ شَرْطَ اللهِ تعالى منها) وأشارَ بذلك إلى قولِه سبحانَه: "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..".وعنه ـ رضي الله عنْه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إنَّ الجنَّةَ حُرّمَتْ على الأنبياءِ كُلِّهم حتَّى أَدْخُلَها، وحُرِّمَتْ على الأُمَمِ كلِّهم حتَّى تَدْخُلَها أُمَّتي)) وأخرجه البخاري عن أبي هريرة.وقال قَتادةُ: هُم أُمَّةُ محمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُؤْمرْ نَبيٌّ قبْلَه بالقِتالِ فهم يُقاتِلون الكُفَّارَ فيُدْخِلونَهم في دينِهم فهم خيرُ أُمَّةٍ للناس.وعن عبد الله بن بُريْدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهل الجنة عشرون ومئةُ صفٍّ ثمانون مِن هذه الأُمَّةِ)). أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن. قولُه تبارك وتعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} سِيقَ لتثبيتِ المؤمنين على ما هم عليه من الاتِّفاقِ على الحقِّ والدَّعوةِ إلى الخيرِ، وقيل: هو من تتمَّةِ الخطابِ الأوَّلِ في قولِه سبحانَه وتعالى: {يا أيُّها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} آل عمران: 102. وتوالى بعد ذلك الخطابُ للمؤمنين مِن أَوامِرَ ونواهٍ وتحريضٍ على الانقياد لأحكامِ الشرع الحنيف. وأخرج البخاري إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((خيرُكم قَرني ثمَّ الذين يلونَهم ثمَّ الذين يلونَهم)). قال عمران: لا أَدري أذَكرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ بعد قَرْنِهِ مرتيْن أو ثلاثًا، وَقَالَ: ((إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِم السِّمَنُ)). حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.وعن أبي سعيدٍ عن النبيِّ صلى اللهُ عليْه وسلَّم قال: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ)). أخرجه البيهقي ورَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيح.ورَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ((أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ)). حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَحْنُ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ نَسُوقُهُمْ بِالسَّلَاسِلِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ كَانَ مِثْلَهُمْ. وَقِيلَ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَأَهْلَ الْفَضْلِ. وَهُمُ الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُذْ آمَنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: جَاءَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأُمَّتِهِ. فَالْمَعْنَى كُنْتُمْ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ أَهْلَ أُمَّةٍ، أَيْ خَيْرَ أَهْلِ دِينٍ، وَأَنْشَدَ للنابغة الذبياني:حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ............. وَهَلْ يَأْثَمَنَ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُوَقال مُجَاهِدٌ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ إِذْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا صَارَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَيْرَ أُمَّةٍ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ أَفْشَى. فَقِيلَ: هَذَا لِأَصْحَابِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ، فَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَآهُ وَلَوْ مَرَّةً فِي عُمْرِهِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَإِنَّ فَضِيلَةَ الصُّحْبَةِ لَا يَعْدِلُهَا عَمَلٌ. وَذَهَبَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ فِي جُمْلَةِ الصحابة، وإنَّ ـ قولَه ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)). لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بِدَلِيلِ مَا يَجْمَعُ الْقَرْنُ مِنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ. وَقَدْ جَمَعَ قَرْنُهُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ أَقَامَ عَلَيْهِمْ أو على بعضِهم الحدود، وَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالزَّانِي. وَقَالَ مُوَاجَهَةً لِمَنْ هُوَ فِي قَرْنِهِ: ((لا تسبوا أصحابي)). وقال لِخالدٍ ابنِ الْوَلِيدِ فِي عَمَّارٍ: ((لَا تَسُبَّ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ)). وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي وَطُوبَى سَبْعَ مَرَّاتٍ لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي)). وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ. قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ أَيُّ الخلقِ أفضل إيمانًا)). قلنا الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: ((وَحُقَّ لَهُمْ بَلْ غَيْرُهُمْ)). قُلْنَا الْأَنْبِيَاءُ. قَالَ: ((وَحُقَّ لَهُمْ بَلْ غَيْرُهُمْ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْضَلُ الْخَلْقِ إِيمَانًا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي يَجِدُونَ وَرَقًا فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا فَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ إِيمَانًا)). وَرَوَى صَالِحُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي جُمْعَةَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: ((نَعَمْ قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ فَيَجِدُونَ كِتَابًا بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي)). وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَبُو جُمْعَةَ لَهُ صُحْبَةٌ وَاسْمُهُ حَبِيبُ بْنُ سِبَاعٍ، وَصَالِحُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ. وَرَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ أَمَامَكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهَا عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُ مثله عَمَلِهِ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((بَلْ مِنْكُمْ)). قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ "بَلْ مِنْكُمْ" قَدْ سَكَتَ عَنْهَا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فَلَمْ يَذْكُرْهَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قَالَ: مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِكُمْ كَانَ مِثْلَكُمْ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ: إِنَّ قَرْنَهُ إِنَّمَا فُضِّلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غُرَبَاءَ فِي إِيمَانِهِمْ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، وَإِنَّ أَوَاخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِذَا أَقَامُوا الدِّينَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ وَصَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ فِي حِينِ ظُهُورِ الشَّرِّ وَالْفِسْقِ وَالْهَرْجِ وَالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَانُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا غُرَبَاءَ، وَزَكَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا زَكَتْ أَعْمَالُ أَوَائِلِهِمْ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)). وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ)). ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ)). ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مُسْنَدِ حَدِيثِ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ثِقَةٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَتَبَ إِلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بسيرة عمر بن الخطاب لِأَعْمَلَ بِهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَالِمٌ: إِنْ عَمِلْتَ بِسِيرَةِ عُمَرَ، فَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ لِأَنَّ زَمَانَكَ لَيْسَ كَزَمَانِ عُمَرَ، وَلَا رِجَالَكَ كَرِجَالِ عُمَرَ. قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى فُقَهَاءِ زَمَانِهِ، فَكُلُّهُمْ كَتَبَ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِ سَالِمٍ. وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُ الْجِلَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)). بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)). قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَقْتَضِي مَعَ تَوَاتُرِ طُرُقِهَا وَحُسْنِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الزَّمَانِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُرْفَعُ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْفِسْقُ وَالْهَرْجُ، وَيُذَلُّ الْمُؤْمِنُ وَيُعَزُّ الْفَاجِرُ وَيَعُودُ الدِّينُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا وَيَكُونُ الْقَائِمُ فِيهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، فَيَسْتَوِي حِينَئِذٍ أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِآخِرِهَا فِي فَضْلِ الْعَمَلِ إِلَّا أَهْلَ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} مَدْحٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا أَقَامُوا ذَلِكَ وَاتَّصَفُوا بِهِ. فَإِذَا تَرَكُوا التَّغْيِيرَ وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْمُنْكَرِ زَالَ عَنْهُمُ اسْمُ الْمَدْحِ وَلَحِقَهُمُ اسْمُ الذَّمِّ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أَخْبَرَ أَنَّ إِيمَانَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مؤمنًا وفاسقًا، وأنَّ الفاسقَ أكثر.قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} في "كان" هذه أربعةُ أقوال، أوَّلُها: أنَّها ناقصةٌ على بابها، وإذا كانت كذلك فلا دَلالةَ على مُضِيٍّ وانقطاعٍ، بَلْ تَصلُحُ للانْقِطاعِ نحو: "كان زيد قائماً" وتصلح للدوام نحو: {وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} النساء: 16. و{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} الإسراء: 32، فهي هنا بمنزلَةِ "لم يَزَلْ" وهذا بحسَبِ القرائن. و"كان" تعني وُجودَ الشيءِ في زمنٍ ماضٍ على سبيلِ الإِبهام، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابِقٍ، هذا إذا لم تكن بمعنى "صار" فإذا كانت بمعنى "صار" دلَّت على عدمٍ سابقٍ. الثاني: أنَّها بمعنى "صِرْتُم" و"كان" تأتي بمعنى "صار" كثيراً كقول عَمْرٍو بنِ أحمرَ الباهليِّ: بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها ............ قَطَا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخا بيوضُهاأي: صارَتْ فراخاً. الثالث: أنَّها تامَّةٌ بمعنى وُجِدْتُم، و"خيرَ أمة" على هذا منصوبٌ على الحال أي: وُجِدتُم في هذه الحال. الرابع: أنَّها على بابِها، والمُرادُ: كنتم في عِلْمِ اللهِ، أو في اللوحِ المَحفوظِ.قوله: {أُخْرِجَتْ} يجوزُ في هذه الجملة أن تكونَ في محلِّ جَرٍّ نعتاً لـ "أمَّة" وهو الظاهرُ، وأنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ نعتاً لـ "خيْرَ"، وحينئذٍ يكونُ قد رُوعي لفظُ الاسمِ الظاهر بعد ورودِهِ بعد ضمير الخطاب، ولو رُوعي ضميرُ الخطاب لكان جائزاً أيضاً، وذلك أنَّه إذا تقدَّم ضميرُ حاضرٍ متكلماً كان أو غائباً، ثم جاء بعده خبرُه اسماً ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسمِ الظاهرِ ما يصلُح أن يكونَ وصفاً له كان للعرب فيه طريقان، إحداهما: مراعاةُ ذلك الضميرِ السابق فيطابقهُ بما في تلك الجملةِ الواقعةِ صفةً للاسم الظاهر، والثانية: مراعاةُ ذلك الاسمِ الظاهر فيعيدُ الضميرَ عليه منها غائباً، وذلك نحو قولك: أنتَ رجلٌ تأمرُ بمعروفٍ. بالخطابِ مراعاةً لـ "أنت"، و"يأمر" بالغَيْبَةِ مراعاةً لـ "رجلٍ"، "وأنا امرؤ أقولُ الحق" بالمتكلِّمِ مراعاةً لـ "أنا" و"يقولُ الحقَّ" مراعاةً لامرئٍ. ومن مراعاةِ الضمير قولُه تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} النمل: 55، و{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} النمل: 47، وقوله ـ صلى الله عليه وسلَّم: ((وإنَّك امرؤٌ فيكَ جاهليَّةٌ)) وقولُ الشاعر: وأنت امرؤٌ قد كَثَّأَتْ لك لِحْيَةٌ .............. كأنك منها قاعدٌ في جُوالِقِولو قيل في الآية الكريمة "أُخْرِجْتُم" مراعاة لـ "كنتم" لكانَ جائزاً من حيث اللفظُ، ولكن لا يَجوزُ أن يُقرأ به، لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فالأَولى أن تُجْعل الجملةُ صفةً لـ "أمة" لا لـ "خير" ليتناسبَ الخطابُ في قولِه: "تأمرون".قوله: {للناسِ} فيه أوْجُهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بـ "أُخْرجتْ"، والثاني: أن يتعلَّق بـ "خيرَ" والفرقُ بينهما من حيث المعنى أنَّه لا يلزَمُ أنْ يكونوا أفضلَ الأمم في الوجهِ الثاني من هذا اللفظ، بل من موضعٍ أخر. والثالث: أنه متعلِّقٌ من حيثُ المعنى لا مِن حيثُ الإِعراب بـ "تأمرون" على أنَّ مجرورَها مفعولٌ به، فلمَّا قُدِّمَ ضَعُفَ العاملُ فَقَوِيَ بزيادةِ اللام كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} يوسف: 43. أي: تَعْبُرون الرويا.قوله: {تأمرون} في هذه الجملةِ أوجهُ أحدُها: أنَّها خبرٌ ثان لـ "كنتم"، ويكون قد راعى الضميرَ المتقدم في "كنتم"، ولو راعى الخبرَ لقال: "يأمرون" بالغيبةِ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحال. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً لخيرِ أمَّة، وأتى بالخطابِ لِما تقدَّم. قوله: {لَكَانَ خَيْراً} اسمُ "كان" ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المدلولِ عليه بفعلِهِ، والتقديرُ: لكان الإِيمانُ خيراً كقولهم: مَنْ كَذَبَ كان شرًّا له. ِأي: كان الكذبُ شَرَّاً له، ونحوُه: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} المائدة: 8، وقوله: إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه ................... وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِأي: جرى إليه السَّفَهُ. والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيراً لهم مِنْ كفرهم وبقائِهم على جهلهم. قوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون} إلى آخره: جملة مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك. | |
|