عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآيات: 98، 99، 100 الثلاثاء فبراير 19, 2013 4:11 am | |
| قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قولُه تباركت أسماؤه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} أمرٌ مِنَ اللهِ لِرسولِه عليه الصلاةُ والسلام أن يقول لهل الكتاب من اليهود والنصارى {لمَ تكفرون بآيات الله} وهذا الاستفهام الإنكاريُّ توبيخ وتعنيفٌ من اللهُ تَعَالَى لأَهْلِ الكِتَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَصَدِّهِمِ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى صَنِيعِهِمْ بِمَا خَالَفُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ كُتُبِ الأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ ألاّ يَجْتَرِئُوا عَلَى الكُفْرِ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ. وآيَاتِ اللهِ دالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وقد خاطَبَهم بِعنوانِ أَهْلِيَّةِ الكِتابِ المُوجِبَةِ للإيمانِ به وبما يُصدِّقُه مُبالَغةً في تقبيحِ حالِهم في تكذيبِهم بذلك، والاستِفهامُ للتوبيخِ والإشارةُ إلى عَجزِهم عن إقامَةِ العُذرِ في كفرِهم كأنَّه قِيلَ: هاتوا عُذرَكم إنْ أَمكَنَكم. والمُرادُ من الآياتِ مُطلَقُ الدلائلِ الدالَّةِ على نبوَّةِ رسولِه صلى اللهُ عليه وسلَّم وصِدْقِ ما جاء به ومِنْ جُملَة ذلك الحجُّ، وبِه تَظهَرُ مُناسَبَةُ الآيةِ لِما قبلَها. قولُه: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} جُملةٌ حاليَّةٌ العاملُ فيها {تَكْفُرُونِ} وهي مُفيدةٌ لتشديدِ التوبيخِ والإظهارِ في موضِعِ الإضمارِ، والشهيدُ العالِمُ المُطَّلِعُ، وصِيغَةُ المُبالَغَةِ للمُبالَغَةِ في الوَعيدِ.قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) قولُه ـ جلَّ مِن قائلٍ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} أمرٌ من الله ـ سبحانه ـ لنبيِّه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ بتوبيخ أهلِ الكتاب لأنهم لا يَكتفون بكفرهم، بل يبغون ذلك في غيرهم، فيصُدُّون عن سبيلِه.وقوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} معناه لِمَ تصرِفون الناسَ عن سبيلِ اللهِ ـ تعالى ـ وهو سبيلُ النور وسبيلُ الحَقِّ، فالصَدُّ هو الصَرْفُ والمَنْعُ، والحَيْلُولَةُ بيْن الشخصِ والوُصولِ إلى الأمرِ؛ و"سبيل الله" هي السبيلُ التي وَضَّحَها وبيَّنَها، وهي الصِراطُ المستقيمُ الموصِلُ إلى رِضاهُ، وإذا كان أولئك يُحاولون منعَ الناسِ من سلوكِ الطريقِ الذي رَسَمَه الله لعبادِه وحَدَّ حُدودَه فهم يُعانِدونَ إرادةَ اللهِ ويحادُّونه، ومَن يُحادِّ اللهَ فإنَّه مغلوبٌ لَا مَحالَةَ، وقد وَصَفَ ـ سبحانَه وتعالى ـ حالَهم في الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ فقال: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تَرغَبونَ العِوَجَ لَها، أي تُريدون أنْ تكونَ مُلْتَويَةً مُلائمةً لأهوائكم، غيرَ واضحةٍ ولا بَيِّنَةٍ في أَعْيُنِ المُهتَدين، كما التوتْ نفُوسُكم، فلم تُدرِكِ الحقَّ مُستقيمًا بعد أنْ قامتْ بَيِّناتُه. وذلك أنَّكم تُلَبِّسون على الناسِ حتَّى تُوهِموهم أنَّ فيها عِوَجًا بقولِكم: إنَّ شريعةَ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ لَا تُنْسَخُ، وبِتَغْيِيرِكم صِفةَ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن وجْهِها، ونحو ذلك. لأنَّكم تتَّبِعون أهواءكم في إخْفاءِ الحقِّ وابتغاءِ العِوَجِ فيما هو أقومُ مِنْ كلِّ مستقيمٍ. وقولُه تعالى: {وَأَنتمْ شُهَدَاءُ} أي: الحالُ أنَّكم شُهداءُ عالِمون بالحقِّ عِلْمَ مَنْ يُعايِنُ ويُشاهِدُ ويَحكُمُ بأنَّه الحقُّ والصوابُ، فهو جُحودٌ عن عِلْمٍ، وكفرٌ عن وعيٍ ودرايةٍ، وإيغالاً في الكُفر تَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ، وبيِّناتُ الحَقِّ وأماراته بيْن أيديكم.وقولُه: {وَمَا اللَّه بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ} نفيٌ مُؤكِّدٌ لإهمالِ اللهِ تعالى عملَهم، وغفلتِه عنهم وما يُضمِرون ويَفعلون، وقد تأكَّدَ النَّفْيُ بالباء الزائدةِ التي تُفيدُ توكيدَ النَّفْي، وكان ذلك النفي المؤكَّدُ لِبيانِ عاقِبةِ أَعمالِهم، فإذا كان ما يَفعلون في كتابٍ لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلَّا أَحصاها، فإنَّهم مَجْزِيون به، مُحاسَبونَ عليْه، وهو مِن جِنْسِ ما صَنَعوا، بكُفرِهم وصرفِهم الناسَ عن طريقِ اللهِ تعالى، وطريقِ الحقِّ. قولُه تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ عن سبيلِ اللهِ مَنْ آمن} لِمَ: مُتعلِّقٌ بالفِعْلِ بعدَه، و"مَنْ آمن" مفعولٌ به، وقولُه "يَبْغُونها" يجوزُ فيها أنْ تكونَ جملةً مستأنفةً أَخْبَرَ عنهم بذلك، وأَنْ تَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو أظهرُ من الأول لأنَّ الجملةَ الاستفهاميَّةَ جِيءَ بعدَها بجُملَةٍ حاليَّةٍ أيضاً وهي قولُه: "وأنتم شُهَداء" فتتَّفِقُ الجُملتان في انتِصابِ الحالِ عن كلٍّ منهُما، ثمَّ إذا قلْنا بأنَّها حالٌ ففي صاحبِها احتمالان، أحدُهما: أنَّه فاعلُ "تَصُدُّون"، والثاني: أنَّه "سبيل الله" وإنَّما جازَ الوَجهانِ لأنَّ الجُملةَ اشتملَتْ على ضميرِ كلٍّ منهما. والعامة على "تَصُدُّون" بفتح التاء مِن صَدَّ يَصُدُّ ثلاثياً، ويُستعمَل لازماً ومتعدِّياً. وقرأ الحسن : "تُصِدُّون" بضمِّ التاء مِنْ أَصَدَّ مثلُ أَعَدَّ، ووجهُه أَنَّ يكونَ عَدَّى "صَدَّ" اللازم بالهمزة، قال ذو الرِّمَّة: أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ .... صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ و"عِوَجا" فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مفعولٌ به، وذلك أن يُرادَ تبغون: تَطْلُبون، أي: تطلبون لها اعْوجاجاً، تقولُ العَرَبُ: أَبْغِني كذا "بوصلِ الألِفِ" أي: اطْلُبْه لي و"ابْغني كذا" بِقَطْعِ الأَلَفِ أي: أَعِنِّي على طَلَبِه، والبَغْيُ يُقْتَصَرُ له على مفعولٍ واحدٍ إذا لم يكن معه اللَّامُ كقولِك: بَغَيْتُ المالَ والأجرَ والثوابَ ..، وههنا أُريدَ: يَبغون لها عِوَجاً، فلمَّا سَقَطَتِ اللامُ عَمِلَ الفعلُ فيما بعدَها كما قالوا : وَهَبْتُك درهماً. يُريدون: وَهَبْتُ لك، ومثلُه: صُدْتُكَ ظَبْياً. أي: صُدْتُ لك، قال الشاعر: فَتَولَّى غلامُهمْ ثم نادى ....................... أَظَلِيماً أَصِيدُكم أَمْ حِمارايريد: أَصِيدُ لكم ظَلِيماً ومثلُه: جَنَيْتُكَ كَمْأَةً وجَنَيْتُك رُطَباً. والأصلُ: جَنَيْتُ لك، فَحَذَفَ ونَصَبَ.والثاني: أنَّه حالٌ مِن فاعلِ "يَبْغُونَها" وذلك أَنْ يُرادَ بـ "تَبْغُون" معنى تتعَدَّوْن، والبَغْيُ التعدِّي، والمعنى: تَبْغُون عليها أو فيها.كأنَّه قال: تَبْغُونها ضالِّين. والعِوَجُ بالكَسْرِ والعَوَجُ بالفتحِ المَيْلُ، ولكنَّ العَرَبَ فَرَّقوا بينَهما، فَخَصُّوا المَكسورَ بالمَعاني والمَفتوحَ بالأعْيانِ، تقول: في دِينِه وكلامِه عِوَجٌ بالكسر، وفي الجِدارِ عَوَجٌ بالفتح. فالعِوَجُ بالكسرِ المَيْلُ في الدِينِ والكلامِ والعَمَلِ، وبالفتحِ في الحائطِ والجَذْعِ، والعِوَجُ بالكَسْرِ فيما لا تَرى له شَخْصاً، وبالفتح فيما له شخصٌ، وقالوا: "العَوَجُ" بالفتحِ في كلِّ منتصِبٍ كالحائطِ، و"العِوَج" بالكسرِ ما كان في بِساطٍ أو دِينٍ أو أَرضٍ أو مَعاشٍ. وقال الراغبُ: العِوَجُ: العَطْفُ عن حالِ الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعيرَ بزِمِامِه، وفلان ما يَعُوجُ عن شيءٍ يَهُمُّ به أي يَرْجَع، و"العَوَجُ" بالفتحِ يقال فيما يُدْرَكُ بالبَصر كالخَشَبِ المُنْتَصِبِ ونحوِه، والعِوَج يقال فيما يُدْرَكُ بفِكرٍ وبَصيرةٍ، كما يَكون في أرضٍ بسيطةٍ عِوَج فيُعرف تفاوتُه بالبَصيرَةِ وكالدين والمَعاش، وهذا قريبٌ من قول ابنِ فارس لأنه كثيراً ما يَأْخذ منه. ومِنْ مجيءِ العِوَج بمعنى المَيْلِ مِنْ حيثُ الجُمْلةُ قولُه: تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجوا ....................... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُأي: ولم تَميلوا، والبيتُ من قصيدة لجرير هجا بِها الأخطلَ النَّصْرانيَّ. وهذا مَطْلِعُها: متى كان الخيام بذي طلوح .................. سقيت الغيث أيتها الخيامتنكر من معالمها ومالت ....................... دعائمها وقد بلي الثمامأقول لصُحبَتي لما ارتحلنا .................... ودمع العين منهمر سجامتمرون الديار ولم تعوجوا ........................ كلامكم علي إذاً حراملقد ولد الأخيطلَ أمُّ سُوءٍ .................. على بابِ استِها صَلْبٌ وَشام وقولُ امرئ القيس: عُوجا على الطَّلَلِ المُحيلِ لأنَّنا .......... نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِذَامِ أي: مِيلا. وأَمَّا قولهم: ما يَعيج زيدٌ بالدواء. أي: ما ينتفِعُ به فمِنْ مادةٍ أخرى ومعنى آخر. والعاجُ: هذا هو العظمُ أَلِفُه مجهولةٌ، لا نَعْلَم: أَمُنْقَلِبَةٌ عن واوٍ أو ياءٍ، وفي الحديث: أنَّه ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ قال لِثُوبان: ((اشترِ لفاطمةَ سِواراً من عاج)). المرادُ بالعَاجِ ها هُنا الذَّبْلُ، أو هو ظَهُرُ السُلْحُفاةِ البَحْريَّةِ ولم يُرَدْ بِه ما يُخْرَطُ من أنيابِ الفَيِلةِ لأَنَّ ذلك مِيْتَةٌ. وقال أبو خِراشٍ الهُذَلِيُّ في امرأةٍ: فجاءَتْ كخاصِي العَيْرِ لمْ تَحْلَ جَاجَةً .... ولا عاجةً منها تلوحُ على وَشْمِقال الأصمعيّ: العاجةُ: الذَّبْلَةُ، والجاجة: تخمينُ خرزةٍ ما يساوي فلساً، وقولُه كخاصي العَيْر: هذا مَثَلٌ تقولُه العربُ لِمَنْ جاءَ مُسْتَحْيِياً مِنْ أمرٍ فيُقالُ: جاء كخاصِي العَيْر. والعَيْر: الحِمار، يعنون جاء مستحيياً. ويُقالُ: عاجَ بالمَكانِ وعَوَجَ به أي: أَقامَ وقَطَنَ وفي حديثِ إسماعيلَ ـ عليه السلامُ: (ها أنتم عَائجون) أي مُقيمون، وأنشدوا للفرذدق: هَلَ انتم عائِجُونَ بِنَا لَغَنَّا ................... نَرَى العَرَصاتِ أو أثرِ الخيامِلَغَنّا: لَعَلَّنا، ففي لَعَلَّ لُغاتٌ، يقولُ: بعضُ العرَبِ لَعَلِّي، ويَقولُ بعضُهم: لَعَلَّني، وبعضُهم: عَلِّي، وبعضُهم: عَلَّني، وبعضُهم: لَعَنِّي، وبعضُهم: لَغَنّي. كذا أنشدَ هذا البيتَ الهرويُّ مُستَشْهِداً بِهِ على الإِقامةِ، وليسَ بِظاهرٍ، بلْ المرادُ بعائجون في البيتِ مائِلُون ومُلْتَفِتون، جاء في غريب الحديثِ لابن الجوزي: ((ثم عاجَ رأسَه إليها)). أي التفت إليها.وقولُهُ: {يَبْغُونها} ها:عائدةٌ على سبيل، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث كما تقدَّم، ومن التأنيثِ هذه الآيةُ، وقولُه تعالى: {هذه سبيلي} يوسف: 108 وقول الشاعر: فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتى أُناسٍ ................... سيصبحُ سالكاً تلك السَّبيلاقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال: إمَّا من فاعلِ "تَصُدُّون" وإمَّا مِن فاعلِ "تَبْغُون"، وتقدَّم أنَّ "شهداء" تصحُّ جمعَ شهيدٍ أو شاهدٍ.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطابٌ للأوسِ والخَزْرَجِ على ما يَقتَضيهِ سببُ النُّزولِ، ويَدخُلُ غيرُهم مِن المُؤمنين في عُمومِ اللَّفظِ، وخاطَبَهم اللهُ تعالى بنفسِه بعدَ ما أَمَرَ رَسولَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخطابِ أهلِ الكِتابِ إظهاراً لِجلالَةِ قدْرِهم، وإشعاراً بأنَّهم هُمُ الأَحِقَّاءُ بخاطبِ اللهِ تعالى وبكلامِهِ. والمُرادُ من الفريقِ بعضٌ غيرُ مُعَيَّنٍ أو هو شاسُ بنُ قيسٍ اليَهوديُّ، لما أَخرجَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ)، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ اسمُه شاسُ بنُ قيسٍ ـ وكان شيخاً قد عسا في الجاهليَّةِ عظيمَ الكفرِ شديدَ الضِّغْنِ على المسلمين شديدَ الحسدِ لهم ـ، مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَسَاءَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَالْأُلْفَةِ، فَبَعَثَ رَجُلًا كان مَعَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ، وَيُذَكِّرَهُمْ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِهِمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَتِلْكَ الْحُرُوبِ فَفَعَلَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى حَمِيَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ، وَغَضِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَثَاوَرُوا وَنَادَوْا بشعارهم، وطلبوا أَسْلِحَتَهُمْ وَتَوَاعَدُوا إِلَى الْحَرَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يُسَكِّنُهُمْ ويقول: ((أَبِدعوى الجاهليَّةِ وأنا بيْن أظهُرِكم؟)) وَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ فعرف القوم أنها نزعة مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ. {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يَعْنِي شَاسًا وَأَصْحَابَهُ. {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ} قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كَانَ طَالِعٌ أَكْرَهَ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا بِيَدِهِ فَكَفَفْنَا وَأَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيْنَنَا، فَمَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ وَلَا أَوْحَشَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قوله تعالى: {يَرُدُّوكُم} رَدَّ: يجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ معنى "صَيَّر" فيَنْصِبَ مفعوليْن، ومنه قولُ الشاعر عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ الأسَدِيِّ: رَمَى الحِدْثانُ نسوةَ آلِ حرب ................. بمِقْدَارٍ سَمَدْن له سُمودافَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً .................... ورَدَّ وجوهَهن البِيضَ سُوداوبعدهما:وإنكُ لو رأيت بكاءَ هِنْدٍ ................. . . ورَمْلَة إذ تَصُكَانِ الخدُودابَكَيتَ بُكاءَ مُعْوِلةٍ حَزين . .............. . أصابَ الدهرُ واحدَها الفقيداويجوز ألاَّ يتضمَّن، فيكونُ المنصوبُ الثاني حالاً. وقولُه: {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجوزُ أنْ يكونَ منصوباً بـ "يردُّوكم"، وأَنْ يتعلَّق بكافرين، ويَصيرُ المعنى كالمَعنى في قولِه: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} آل عمران: 90.وقولُهُ: {كافرين} مفعولٌ ثانٍ لـ "يردُّ" وكاف "يردوكم" مفعولٌ أوّل. | |
|