عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 73 السبت ديسمبر 22, 2012 11:50 am | |
| وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) قولُه تعالى: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} هُوَ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ لِلسِّفْلَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هو مِنْ قَوْلِ يَهُودِ خَيْبَرَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ. ورُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لِأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فَإِنَّكُمْ أَصَحُّ مِنْهُمْ دِينًا.قَوْلُهُ: {إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ أي قُلْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَنَحْنُ عَلَيْهِ.قولُه: {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَفَرْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْفَضَائِلِ.قولُه: {أو يحاجوكم عند ربكم} أَوْ: بِمَعْنَى "أَنْ" لِأَنَّهُمَا حَرْفَا شَكٍّ وَجَزَاءٍ يُوضَعُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ. وَالتَقْدِيرُ: وَأَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.قولُه: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقل لهم ذلك يا محمَّدُ. ويكون المعنى الإجمالي للآية أنَّ علماءَ اليَهودِ قالوا لأتباعهم: لا تصدِّقوا إلَّا من هو على دينكم وملتكم أنْ يؤتيهم اللهُ ما آتاكم مِن نعم كالتوراة وغيره من النعم التي أنعم الله بها عل بني إسرائيل، ولا تصدقوا أنَّ غيركم من الأمم ـ والمقصود المسلمون ـ أنهم سوف يُقيمون الحجَّة عليكم يوم القيمة، ويَردُّ الله عليهم بعد أن فضحهم بأنْ طِمأنَ المُؤمنين بأنَّه سبحانَه هو الهادي إلى الخير يَهدي مَنْ يَشاء إليْه ويأمُرُ نَبيَّهُ محَمَّدًا صلى الله عليه وسلَّم ـ أنْ يَرُدَّ عليهم بأنَّ ".. الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ". قوله تعالى: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} اللَّامِ زائدةٌ مؤكِّدةٌ، كهي في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} النمل: 72 أي: رَدِفَكم، وقول الشاعر عبد الشارِق بن عبد العُزَّى الجُهَني: فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنَا قليلاً ........................... أَنَخْنا للكلاكِلِ فارتَمَيْنَاوقول الآخر : ما كنتُ أخدَعُ للخليلِ بخُلَّةٍ .............. حتى يكونَ لِيَ الخليلُ خَدُوعاأي: أَنَخْنَا الكلاكل، وأَخْدَعُ الخليلَ.أو نقولُ بأنَّ "أَمِنَ" ضُمِّنَ معنى أَقَرَّ واعترَفَ، فَعُدِّي باللام أي: ولا تُقِرُّوا ولا تَعْتَرِفوا إلّا لِمَنْ تَبعَ دينكم، ونحوُه: {فَمَا آمَنَ لموسى} يونس: 83 {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} يوسف: 17. و{آمَنتُمْ لَهُ} طه: 71 {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} التوبة: 61.وقولُه: {إلاَّ لِمَنْ تَبع} اسثناءٌ مفرغ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه استثناءٌ مِمَّا قبلَه، والتقديرُ: ولا تُقِرُّوا إلا لِمَنْ تَبع، فعلى هذا اللامُ غيرُ زائدةٍ، ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً، ويكون محمولاً على المعنى أي: اجْحَدُوا كلَّ أحدٍ ممَنْ تَبعَ، والثاني: أنَّ النيةَ به التأخيرُ والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أنْ يؤتَى أحَدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلَّا مَنْ تَبِعَ دينَكم، فاللامُ على هذا زائدَةٌ، و"مَنْ" في موضِعِ نصبٍ على الاستثناءِ مِن "أحد".قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} اختلفَ العلماء في هذه الآيةِ على وجوهٍ، أحدُها: أنَّ "أَن يؤتى أَحَدٌ" متعلِّقٌ بقوله: "وَلاَ تؤمنوا" على حذفِ حرفِ الجرِّ، والأصلُ: ولا تؤمنوا (تصدِّقوا) بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلَّا مَنْ تَبعَ دينَكم، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل "أَنْ"، ويكونُ قولُهُ: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} جملةً اعتراضيةً، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ: ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقولِهِ: "أَنْ يُؤْتَى أحد"، وما بينهما اعتراضٌ أي: ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلَّا لأهلِ دينِكم، أرادوا: أَسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أُوتيتم ولا تُفْشُوهُ إلَّا لأَشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين، لِئَلَّا يَزيدَهم ثباتاً، ودونَ المشركين لِئَلَّا يَدْعُوهم إلى الإِسلام، و"أو يُحاجُّوكم" عطفٌ على "أَنْ يُؤْتَى". والضميرُ في "يُحاجُّوكم" لـ "أحد" لأنَّه في معنى الجميع، أي: ولا تؤمنوا لِغيرِ أتْباعِكم، فإنَّ المسلمين يُحاجُّوكم عند ربِّكم بالحقِّ، ويغالِبونُكم عند الله. ومعنى الاعتراض أنَّ الهدى هُدى الله، مَنْ شاءَ أَنْ يَلطُفَ به حتَّى يُسْلِمَ أو يَزيدَ ثباتاً كان ذلك، ولم ينفع كَيْدُكم وحِيَلُكُم وإخفاؤكم تصديقَكم عن المسلمين والكافرين، وكذلك قولُه: "قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ" يُريدُ الهِدايةَ والتوفيق. وعلى هذا يكونُ قولُه "إِلاَّ لِمَن تَبِعَ" مستثنًى من شيءٍ محذوفٍ، تقديرُه: ولا تُؤمِنُوا (بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم) لأحَدٍ مِن الناسِ إلَّا لأشياعِكم دونَ غيرهم، وتكونَ هذه الجملةُ أعني قولَه: ولا تُؤْمِنُوا إلى آخرها، من كلامِ الطائفةِ المتقدِّمة، أي: وقالَتْ طائفةٌ كذا، وقالَتْ أيضاً: ولا تُؤمِنُوا، وتكونُ الجملةُ من قولِهِ: "قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله" مِنْ كلام اللهِ لا غير.الثاني: أنَّ اللامَ في"لِمَنْ تَبعَ" زائدةٌ، وهو، أي (اللامُ) مستثنى من "أحد" المتأخِّرِ، والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلَّا مَنْ تبِع دينَكم، فَمَنْ تَبعَ منصوبٌ على الاستثناء من "أحد"، وعلى هذا الوجه جَوَّز أبو البقاء في محل "أن يؤتى" ثلاثةَ أَوْجُهٍ: الأوَّلُ والثاني مَذْهبُ الخليلِ وسِيبَويْهِ وقد تقدَّما. والثالث: النصبُ على المفعولِ مِنْ أجلِه تقديرُهُ: مخافَةَ أَنْ يُؤْتَى.وهذا الوجهُ الثاني لا يَصِحُّ مِن جِهةِ المَعنى ولا مِنْ جهةِ الصِناعة: أمَّا المعنى فواضحٌ، وأَمَّا الصناعةُ فلأنَّ فيه تقديمَ المستثنى على المستثنى منه وعلى عامله، وفيه أيضاً تقديمُ ما في صلةِ "أَنْ" عليها، وهو غيرُ جائز.الثالث: أَنْ يكونَ "أَنْ يُؤْتَى" مَجروراً بحرفِ العِلَّةِ وهو اللَّامُ، والمُعَلَّلُ محذوفٌ تقديرُه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وعلى هذا يكونُ كلامُ الطائفةِ قد تَمَّ عند قوله "إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ"، وقد وضَّحْ الزمخشري ـ رحمه الله ـ هذا الوجه فقال: أو تمَّ الكلامُ عند قوله: "إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ"، على معنى: ولا تُؤمِنُوا هذا الإِيمانَ الظاهرَ وهو إيمانهم وجهَ النهار إلَّا لِمَنْ تَبعَ دينكم، إلَّا لِمَنْ كانوا تابِعين لديِنكم مِمَّنْ أَسلَموا منكم، لأنَّ رجوعَهم كانَ أَرْجَى عندهم مِنْ رُجُوعِ مَنْ سِواهم، ولأنَّ إسلامَهم كان أغيظَ لهم، وقولُه: "أَن يؤتى أَحَدٌ" معناه: لِأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرْتموه لا لِشيءٍ آخر، يَعْني أنَّ ما بِكم مِنَ الحَسَدِ والبَغْيِ أَنْ يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم مِن فضلِ العِلمِ والكِتابِ دَعاكم إلى أنْ قُلْتُم ما قُلتم، والدليلُ عليه قراءةُ ابنِ كثيرٍ: "أَأَنْ يُؤْتَى أحد" بزيادةِ همزةِ الاستفهامِ للتَقريرِ والتوبيخِ بمعنى: ألِأنْ يُؤْتَى أحدٌ؟ وعلى هذا فمعنى قوله "أو يُحاجُّوكم" معناه دَبَّرْتُم ما دَبَّرْتُم لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلُ ما أُوتيتم ولِمَا يتصلُ به عند كُفْرِكُم به مِنْ مُحَاجَّتِهم لكم عند رَبِّكم.الرابع: أنْ يَنتَصِبَ "أَنْ يُؤْتَى" بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه {وَلاَ تؤمِنوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنَّه قِيل: قل إنَّ الهدى هُدى اللهِ فلا تُنْكروا أَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم، فلا تُنْكِرُوا ناصبٌ لأنْ وما في حَيِّزها، لأنَّ قولَه {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكارٌ لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتوا.الخامس: أَنْ يكونَ "هُدى الله" بدلاً من "الهدى" الذي هو اسمُ إنَّ، ويكون خبرُ إنَّ: "أَن يؤتى أَحَدٌ"، والتقديرُ: قل إنَّ هُدى اللهِ أَنْ يُؤْتى أحدٌ، أي: إنَّ هُدَى اللهِ إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتم، وتكونَ "أو" بمعنى "حتَّى"، والمعنى: حتَّى يُحاجُّوكم عند ربِّكم فيَغلبوكم ويَدْحَضُوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون "أَوْ يُحاجُّوكم" معطوفاً على "أَنْ يُؤتى" وداخلاً في حَيِّزِ أَنْ.السادس: أَنْ يكونَ "أَنْ يُؤْتَى" بَدَلاً مِنْ هُدى الله، ويكون المعنى: قل إنَّ الهدى هُدى اللهِ وهو أَنْ يُؤْتَى أحدٌ كالذي جاءنا نحن، ويكونُ قولُه: "أو يُحاجُّوكم" بمعنى أو فلْيُحاجُّوكم فإنَّهم يَغْلبونَكم، وفيه نظرٌ، لأنَّه يُؤَدِّي إلى حَذْفِ حرفِ النهيِ وإبقاءِ عملِهِ.السابع: أَنْ تكونَ "لا" النافيةُ مقدرةً قبل "أَنْ يؤتى" فَحُذِفَتْ لدَلالةِ الكلامِ عليها وتكونُ "أو" بمعنى إلاَّ أَنْ، والتقديرُ: ولا تؤمنوا لأحدٍ بشيءٍ إلاَّ لِمَنْ تَبعَ دينَكم بانتفاءِ أنْ يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلَّا مَنْ تَبِعَ دينَكم، وجاء بمثلِه وعاضِدًا له، فإنَّ ذلك لا يُؤْتاه غيرُكم إلَّا أنْ يُحاجُّوكم كقولِك: لألْزَمنَّك أو تقضيَني حقّي، وفيه ضَعفٌ من حيث حَذْفُ "لا" النافية، وما ذكروه مِن دَلالةِ الكلامِ عليها غيرُ ظاهرٍ.الثامن: أَنْ يكونَ "أَنْ يُؤْتى" مفعولاً من أجله، بأَنْ تجعلَ قولَه: "أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ" ليس داخلاً تحتَ قولِه "قل" بل هو متَّصلٌ بقولِهم: "ولا تُؤمِنُوا إلا لِمَنْ جاءَ بمثلِ دينِكم مخافَةَ أَنْ يُؤْتى أحدٌ من النبوةِ والكرامَةِ مثلَ ما أوتيتم، ومخافَةَ أَنْ يُحاجُّوكُم بتصديقِكُم إيَّاهم عند ربِّكم لِمَ تتبعوا دين الإسلام طالَما أنكم صدقتموه. وقولهم هذا بسببِ حسَدِهم وكُفرهم مع معرفتِهم بِنُبوَّةِ محمَّدٍ عله الصلاةُ والسلام، ولَمَّا قَدَّر المبرد المفعولَ من أجله هنا قَدَّر المضاف: كراهَةَ أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أي: مِمَّن خالَفَ دينَ الإِسلام، لأنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هو كاذبٌ وكَفَّارٌ، فهُدى اللهِ بعيدٌ مِنْ غيرِ المؤمنين، والخطابُ في "أوتيتم" و"يُحاجُّوكم" لِأُمَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.و"أحد" يجوزُ أَنْ يكونَ في الآيةِ الكريمةِ مِنَ الأسماءِ المُلازِمةِ للنَفيِ وألاَّ يَكونَ، بل يكون بمعنى واحد. وقد تقدَّم الفرقُ بينَهما بأنَّ المُلازِمَ للنَّفْيِ هَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، والذي لا يُلازِمُ النفيَ همزتُه بدلٌ من واو، فعلى جَعْلِهِ مُلازِمًا للنفيِ يَظهَرُ عَوْدُ الضميرِ عليه جمْعًا اعتِبارًا بمعناه، لأنَّ المُرادَ بِه العُمومُ، وعليه قولُه: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} الحاقَّة: 47 جَمَعَ الخَبَرَ لمَّا كان "أحد" في معنى الجَميعِ، وعلى جَعْلِهِ غيرَ المُلازِمِ للنَفْيِ يَكونُ جَمْعُ الضميرِ في "يُحاجُّوكُم" باعتبارِ الرَّسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ وأتباعِهِ. وبعضُ الأوْجُهِ المُتَقَدِّمةِ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ فيها "أحد" المذكورُ المُلازِمُ للنفيِ، وذلك إذا كان الكلامُ على معنى الجَحْدِ، وإذا كان الكلامُ على معنى الثُّبوتِ كما مَرَّ في بعضِ الوُجوهِ فيَمتنِعُ جَعْلُه المُلازِمَ للنَّفْيِ، والأمرُ واضحٌ مِمَّا تقدَّم. وقرأ ابْنُ كثيٍر: "أأن يؤتى" بهمزةِ استفهامٍ وهو على قاعدتِهِ في كونِه يُسَهِّل الثانيةَ بيْنَ بينَ مِن غيرِ مَدٍّ بينَهما. وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أوْجُهٍ، أحدُها: أنْ يكون "أنْ يُؤتى" على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو لامُ العِلَّةِ والمُعَلَّلُ مَحذوفٌ، تقديرُه: أَلِأنْ يُؤتى أَحَدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه. فحينئذٍ يَسُوغُ في مَحَلِّ "أَنْ" الوجهان: أعني النَّصبَ مَذْهبَ سيبويهِ، والجَرَّ مذهَبَ الخليل.الثاني: أَنَّ "أَنْ يُؤتَى" في مَحلِّ رفعٍ بالابتداءِ والخَبرُ محذوفٌ تقديرُه: أأنْ يُؤتى أَحَدٌ يا معشرَ اليَهودِ مثلَ ما أُوتيتُم مِنَ الكِتابِ والعِلْمِ تُصَدِّقون به أو تعترفون به أوْ تَذْكُرونَه لِغيرِكم أو تُشيعونَه في النَّاسِ، ونحوُ ذلك مِمَّا يَحْسُنُ تقديرُه، وهو وجْهٌ مَرجوحٌ، كذا قَدَّرَهُ الواحدي تَبَعاً للفارسي، وأحسنُ من هذا التقدير: أَإِتيانُ أَحَدٍ مثلَ ما أُوتيتم مُمْكِنٌ أو مُصَدَّقٌ به؟ لأنَّه الأصلُ.الثالث: أنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ يُفسِّرُه هذا الفعلُ المضمرُ، وتكونُ المَسألةُ مِن بابِ الاشْتِغالِ والتقدير: أَتَذْكُرون أَنْ يُؤْتَى أحدٌ تذكرونَه، فتذكرونَه مفسِّرٌ لتذكرون الأوَّلِ، ثمَّ حُذِفَ الفعلُ الأخيرُ المفسِّرُ لدَلالَةِ الكلامِ عليه، وكأنَّه مَنْطوقٌ به، ولكونِهِ في قوَّةِ المَنطوقِ بِه صَحَّ لَه أنْ يُفَسِّرَ مُضْمَرًا، وهذه المَسْألةُ مَنصُوصٌ عليها. وهذا أَرجَحُ مِن الوَجْهِ قبلَه، وهو راجحٌ لأجلِ الطالبِ للفعلِ، ومثلُ حَذْفِ هذا الفعلِ المُقدَّرِ لدَلالةِ ما قبلَ الاستفهامِ عليه حَذْفُ الفعلِ في قوله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} يونس: 91 قيل: تقديرُه: الآن آمنتَ ورَجَعْتَ وتُبْتَ ونحو ذلك.قال الواحدي: فإنْ قيل: كيف وُجِدَ دخولُ "أحد" في هذه القراءةِ وقد انقطَع من النَفيِ والاستفهامِ، وإذا انقطع الكلامُ إيجابًا وتقريرًا فلا يجوزُ دُخولُ "أحد"؟ قيل: يجوزُ أَنْ يكونَ "أحد" في هذا الموضع "أحداً" الذي في نحو: أحد وعشرين وهذا يقع في الإِيجاب، ألَا ترى أنَّه بمَعنى واحدٍ. وقال أبو العبَّاسِ المبرِّدُ: إنَّ أحدًا ووَحَدًا وواحِدًا بمعنى.وقولُه: "أو يُحاجُّوكم" "أو" في هذه القراءةِ بمَعنى حتَّى، ومعنى الكلام: أَأَنْ يُؤتى أحَدٌ مثلَ ما أُوتيتُم تَذكرونَه لِغيرِكم حتَّى يُحاجّكم عند ربِّكم. ومثلُه في الكلام: تَعَلَّقْ به أو يُعْطِيَكَ حقَّكْ، ومثلُه قولُ امرىء القيس: فَقُلْتُ له : لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنما ........... نحاوِلُ مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرَا أي: حتَّى، ومِنْ هذا قولُه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} آل عمران: 128 فهذا وجهٌ، وأَجودُ منه أنْ تجعلَه عَطفاً على الاستِفهامِ، والمعنى: أَأَنْ يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتُم أو يُحاجَّكم أحَدٌ عندَ اللهِ تُصَدِّقونَه؟، ويَجوزُ أن يكون "أن يؤتى أحد" منصوبًا بفعلٍ مُقدَّرٍ لا على سبيلِ التفسيرِ، بل لِمُجَرَّدِ الدَّلالةِ المَعنويَّةِ تقديرُه: أَتذكرون أو أَتشيعونَ أَنْ يُؤْتَى أحدٌ، وهذا هو الوجهُ الرابع.الخامس: أَنْ يكونَ "أَنْ يؤتى" في قراءتِه مفعولًا مِنْ أجلِه على أنْ يَكونَ داخِلًا تحتَ القولِ لا مِن قولِ الطائفةِ. وهو أَظهرُ مِنْ جَعْلِهِ من قولِ الطائفة.وقد ضَعَّف الفارسيُّ قراءةَ ابنِ كثيرٍ فقال: وهذا موضِعٌ يَنبغي أنْ تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثيرٍ على قراءة ابن كثير، لأنَّ الأسماءَ المفردةَ ليس بمُسْتَمِرٍّ فيها أنْ تَدُلَّ على الكثرة. وقرأ الأعمشُ وشعيب بنُ أبي حمزة: "إنْ يؤتى" بكسر الهمزة، وخَرَّجها الزمخشريُّ على أنَّها: "إنْ" النافية فقال: على إنَّ النافيةَ، وهو متَّصِلٌ بكلامِ أهلِ الكِتابِ أي: ولا تؤمنوا إلَّا لِمَن تَبِعَ دينَكم وقولوا لهم: ما يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم حتَّى يُحاجُّوكم عند ربكم، يعني لا يُؤْتَوْن مثلَه فلا يُحاجُّونكم.وهذه القراءةُ تحتمِلُ أنْ يَكونَ الكلامُ خِطابًا منَ الطائفةِ القائلةِ، ويكونُ قولُها "أو يحاجُّوكم" بمعنى: أو فلْيُحاجُّوكم، وهذا على التصميمِ على أنَّه لا يُؤتى أحَدٌ مثلَ ما أوتي، أو تكون بمعنى: إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكم، وهذا على تجويزِ أَنْ يؤتى أحدٌ ذلكَ إذا قامتْ له الحُجَّةُ، فقد ظَهَرَ أنَّه يجوزُ في "أو" حسْبَ هذه القراءةِ أنْ تكونَ على بابِها مِنْ كونِها للتخييرِ والتنويعِ، وأَنْ تكونَ بمعنى "إلَّا"، إلاَّ أنَّ فيه حَذْفَ حرفِ الجزْمِ وإبقاءَ عملِه، وهو لا يجوز، وقيل هي بمعنى حتى.وقرأ الحسنُ: "أَنْ يُؤْتي أحدٌ" على بِناءِ الفعلِ للفاعل. ولَمَّا نقل هذه القراءةَ بعضُهم لم يتعرَّض لـ "ان" بفتحٍ ولا كسرٍ، وتعرَّض لها بعضُهم فقيَّدَها بكسرِ "إنْ" وفسَّرَها بـ "إنْ" النافية، والظاهرُ في مَعناها أنَّ إنعامَ اللهِ لا يُشبهُه إنعامُ أحدٍ مِنْ خلقِه، وهي خطابٌ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: إنْ يؤتي أحدٌ أحداً مثلَ ما أوتيتُم، فحُذِفَ المفعولُ الأولُ وهو "أحداً" لدَلالةِ المعنى عليه، وأُبْقِيَ الثاني. قال الواحديّ: وهذه الآيةُ مِن مُشكِلاتِ القُرآنِ وأصْعَبِهِ تفسيرًا، ولقدْ تدَبَّرْتُ أقوالَ أهلِ التفسيرِ والمعاني في هذه الآيةِ، فلم أَجِدْ قوْلًا يَطَّرِدُ في هذه الآيةِ مِن أوَّلِها إلى آخِرها مع بيانِ المعنى وصحَّةِ النظم. | |
|