يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
(51)
قولُه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} نهيٌ مِنَ اللهِ تَباركَ وتَعالى للمؤمنين عن أَنْ يُوالوا اليهودَ والنَّصارى فأولياءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، والوَلِيُّ يُطلَقُ بمَعنى الوَدودِ المُحِبِّ، أوِ الصَديقِ، قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} فُصِّلت: 34. ويطلق أيضًا بمعنى النصيرِ الحافظِ، قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} البقرة: 257. والوَلِيُّ أيضًا مَنْ يَتَوَلَّي الأمرَ، كما قال: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} المائدة: 55. أمَّا في هذِه الآيةِ الكريمةِ فاتِّخاذُ الأولياءِ المَنْهِيُّ عنْه، هو الاسْتِنْصارُ والمَوَدَّةُ والمَحَبَّةُ، بأنْ يَجعلوا وِلايَتَهم لِغَيْرِهم في الانْتِماء، والنُصْرَةِ، ويَقبَلوا أنْ يكونوا هُمْ أَهلَ وِلايَتِهم التي يَنْتَمون إليْها، ويَنْضوُون تحتَ لِوائها، فهي كما في قولِه تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} آل عمران: 28. فقد جاء في أسباب النزول، أنَّ بعضَ الأنصارِ كان يَتَولَّى بعضَ اليهودِ لِما كان يَرى فيهم مِنْ عَدَدٍ كثيرٍ، وما عِنْدَهم مِنْ مالٍ وعَتادٍ وسِلاحٍ. فتَبَرَّأَ مِنهم لَمّا نُهَيَ عنْ أَنْ يَكونَ عليْه أوْ لَهُ أَوْلياءَ غيرُ المؤمنين، واسْتَمَرَّ على وِلايَتِهمْ بعضُ المُنافِقين، فدَلَّ هذا على أَنَّ المُرادَ بالوِلايَةِ هُنا الاسْتِنْصارُ بِهم، والانْدِماجُ في وِلايَتِهم، ولو سِرًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الْمُوَالَاةِ شَرْعًا، وَقَدْ مَضَى فِي "آلِ عِمْرَانَ" لذلك بَيَانٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، الْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِظَاهِرِهِمْ، وَكَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وفي سبب نُزولِها جاء عن عِكْرِمَةَ أنَّها نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ، وقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ يَوْمِ أُحُدٍ حِينَ خَافَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى هَمَّ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنْ يُوَالُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ـ رضي اللهُ عنه ـ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رأسِ النِّفاقِ، فَتَبَرَّأَ عُبَادَةُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ، وَتَمَسَّكَ بِهَا ابْنُ أُبَيٍّ وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ.
وقد قال تعالى في آيةٍ كريمةٍ أُخرى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة: (. وللتوفيق بيْن النصَّيْن نقولُ: إنَّ غيرَ المُسْلِمين على ثلاثةِ أقسامٍ: الأوَّلُ: يَعيشونَ مَعَ المُسْلِمين مسالمين لهم غيرَ مُعادين، وهؤلاءِ لهم ما لِلمُسلمين وعليهم ما عليهم، وتَصِحُّ مُوادَّتُهم، عَمَلاً بقولِه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}. الممتحنة: 8.
والثاني: يُقاتلون المُسْلِمين، ويُدَبِّرون لَهمُ المَكائدَ، وهؤلاءِ لا تَجوزُ مُوادَّتُهم، عملًا بقولِه: "لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ". وقولِهِ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} المُجادلة: (22).
وقد بين ذلك جلَّ وعلا بقولِه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجوكُم مِّن ديَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ} الممتحنة: 9.
الثالث: مَنْ لم يُعلنِ المُجاهرةَ بالعَداوةِ منهم، لكنَّ قلوبَهم معَ أعدائهم، وهؤلاءِ نُعامِلُهم بما عاملَ بِهِ النَبِيُّ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ المُنافِقين، نُسالِمُهم ونحذرُهم فلا نأمَنُ جانبَهم ولا نَكْشِفُ لهم خَبيئةَ نُفوسِهم، أو ندعهم يعرفونَ أنَّنا مطلعون على حقيقتِهم.
ومهما تكن أحوالُ المُخالفين فلَا تجوزُ الاستعانةُ بهم في خاصَّةِ شُئونِ الدَولةِ الإسلاميَّة حتَّى لَا يطلعوا على خفاياها كي لا يمكروا بالمسلمين إذا سنحت لهم سانحة. وانضموا إلى صفوف أبناء ديانتهم من المجاهرين بالعداوة، وقد عَلَّلَ سبحانَهُ النَهيَ عنْ توليهم بقولِه: "بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ".
قولُه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الشَّرْعِ الْمُوَالَاةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَتَوارَثَ اليَهودُ والنَّصارى بعضُهم مِن بعضٍ. فالنَّصارى أَولياءُ ونُصَراءُ لإخوانِهم النَّصارى، واليَهودُ أَوْلياءُ ونُصَراءُ لليَهودِ، فكلُّ طائفةٍ تَنْحازُ وِلايَتُها إلى أَهْلِ دِينِها. ويَصِحُّ أنْ نُفَسِّرَ النَّصَّ بأنَّهم يُوالي بعضُهم بَعضًا ضِدَّ المُسلمين، وهو مارأيناه عبر التاريخِ ونراه اليوم.
وقولُه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. أي مَنْ يَجعلْ نُصرتَه منهم ويَخضَعُ لهم بالوِلايةِ فهو منهم. ورُويَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنْه أنَّ هذا النَّصَّ يُفيدُ التَشبيهَ أيْ أنَّه مَثيلُهم في مُعاداةِ الإسلامِ وأَهلِه، واعتبرَهم الكثيرُ مِنَ المُفسرين منهم حقيقةً، فلا تَشبيهَ في القولِ ولا تَمثيلَ، فمن اتَّخذَ مِنْهمْ نُصَراءَ وحُلَفاءَ وأوْلياءَ من دونِ المسلمين، فإنَّه منهم في التَحَزُّبِ على اللهِ تَعالى، وعلى رسوله والمؤمنين وأنَّ اللهَ تعالى ورسولَه والمؤمنين منهم بَراء، وقد قرَّرَ هذا المعنى ابْنُ جَريرٍ فقال: "ومَنْ يَتَوَلَّ اليهودَ والنَّصارى دونَ المؤمنينَ فإنَّهُ منهم، فإنَّ مَنْ تَوَلّاهم ونَصرَهم على المُؤمنين، فهو مِنْ أهلِ دينِهم ومِلَّتِهم، فإنَّه لَا يَتَولَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إلَّا وهو بِه وبِدينِه، وما هو عليْه راضٍ، وإذا رضيَه ورَضيَ دينَه فقد عادى مَا خالَفَه وسَخِطَهُ، وصارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ".
قولُه تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} هذه الجُمْلَةُ من المبتَدأِ والخَبَرِ جملةٌ مُستَأنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، سِيقَتْ تَعليلًا للنَهْيِ المُتَقَدِّمِ، وزَعَمَ الحُوفيُّ أَنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتًا لـ "أَولياء"، والأوَّلُ هو الظاهر، والضميرُ في "بعضُهم" يعودُ على اليهود والنَّصارى على سبيلِ الإِجمالِ، والقَرينَةِ تُبَيِّنُ أَنَّ بَعضَ اليَهودِ أَوْلياءُ بعضٍ، وأَنَّ بَعْضَ النَّصارى أَوْلياءُ بَعْضٍ، وبهذا التقريرِ لا يُحتاجُ إلى تقديرِ مَحذوفٍ يَصِحُّ بِهِ المَعنى ـ كما زَعم بعضُهم ـ وهو: بَعْضُ اليهودِ أَوْلياءُ بعضٍ، وبَعْضُ النَّصارى أَوْلياءُ بَعْضٍ، قال: لأنَّ اليَهودَ لا يَتَوَلَّوْن النَّصارى، والنَّصارى لا يَتَوَلَّوْنَ اليهودَ، وقدْ تقدَّمَ جَوابُه.