لَا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {لَا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} لا يؤاخذكم: لا يحاسبكم ولا يعاقبكم، والمُؤاخذَةُ هي إنزالُ عُقوبَةٍ بِمَنْ لَهُ مَعَكَ عَهْدٌ فخالَفَهُ بعملِ جَريمةٍ نُصَّ عليها؛ فلا يُؤاخِذُهُ أَبَدًا بجريمةٍ لمْ يَنُصَّ عليها، ولا يَتِمُّ توقيعُ عقابٍ على أَحَدٍ دون تحذيرٍ مُسبَقٍ. واللَّغْو مِنَ الكلامِ ما لا يُعتَدُّ بِه مِنْه، وهو مِنَ اللُّغا أي صوتُ العَصافيرِ ونحوِها مِنَ الطُيورِ. وقيل: لَغْوُ اليمين هو الذي يَجري على اللّسانِ بدونِ قَصْدٍ، كقولِكَ لا واللهِ ما رأيتُ، كما قال الشافعيِّ ـ رضي اللهُ عنه: هو ما يَسْبِقُ إليْهِ اللِّسانُ مِنْ غيرِ نِيَّةِ اليَمين، وهو ما لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، كَأَنْ يَحْلِفَ على أَمْرٍ مَضى يَظُنُّهُ كذلك، فإنْ عَلِمَهُ وحَلَفَ على خِلافِ ما عَلِمِهِ فاليَمينُ غَمُوسٌ، وقد تَقَدَّمَ لنَا تفصيلٌ فِي سورة "الْبَقَرَةِ" و"فِي أَيْمانِكُمْ" أَيْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ. وَقِيلَ: وَيَمِينٌ فَعِيلٌ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، سَمَّاهَا اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَحْفَظُ الْحُقُوقَ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَتْ الآيةُ السابقةُ {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} قَالُوا: كَيْفَ نصنع بأيمانِنا؟ فنزلت هذه الآية. فالْمَعْنَى عَلَى هَذَا إِذَا أَتَيْتُمْ بِالْيَمِينِ ثُمَّ أَلْغَيْتُمُوهَا ـ أَيْ أَسْقَطْتُمْ حُكْمَهَا بِالتَّكْفِيرِ وَكَفَّرْتُمْ عنها ـ فَلَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُلْغُوهُ، أَيْ فَلَمْ تُكَفِّرُوا عنه، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْحَلِفَ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا. وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الْحَلَالِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَغْوٌ، كَمَا أَنَّ تَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَغْوٌ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: اسْتَحْلَلْتُ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَتَقْتَضِي الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَغْوًا فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، فَقَالَ: "لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ" أَيْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ كَانَ لَهُ أَيْتَامٌ وَضَيْفٌ، فَانْقَلَبَ مِنْ شُغْلِهِ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. فَقَالَ: أَعَشَّيْتُمْ ضَيْفِي؟ فَقَالُوا: انْتَظَرْنَاكَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ لَا آكُلُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ ضَيْفُهُ: وَمَا أَنَا بِالَّذِي يَأْكُلُ، وَقَالَ أَيْتَامُهُ: وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَكَلَ وَأَكَلُوا. ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ: ((أَطَعْتَ الرَّحْمَنَ وَعَصَيْتَ الشَّيْطَانَ)) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
والْأَيْمَانُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا. وقد جاء ذلك في حديثٍ خَرَّجَه الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ، فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ وَاللهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَلُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَفْعَلُ، وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُلُ يَحْلِفُ وَاللهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ. ومثلُه قولُ سُفْيَانٍ الثوريِّ: قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْدَ نَفْسِهِ صَادِقًا يَرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ. قَالَ: وَإِنْ كان الحالفُ على أنَّه لم يفعلْ كذا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِمٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد ابْنُ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُكَفِّرُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمِيلُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. قَالَ: فَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ الَّذِي اتَّفَقَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَغْوٌ فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، فِي حَدِيثِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدُهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ عِنْدَ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ.
قَوْلُهُ: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ} مُخَفَّفُ الْقَافِ مِنَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كعقد البيع، قال الحطيئة يَمدحُ قومًا عَقَدوا لِجارِهم عهدًا فَوَفَّوْا بِه ولم يَخْفروه:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ............ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
فَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ مُنْفَعِلَةٌ مِنَ الْعَقْدِ، وَهِيَ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَلَّا يَفْعَلَ فَفَعَلَ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فَلَا يَفْعَلُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذِهِ الَّتِي يَحُلُّهَا الِاسْتِثْنَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى ما يأتي. وقرئَ "عَاقَدْتُمْ" بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مَنْ حُلِفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ، لِأَنَّ عَاقَدَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى عَاهَدَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الْجَرِّ، لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى عَاهَدَ، وَعَاهَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ جَرٍّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ} الفتح: 10. وَهَذَا كَمَا عَدَّيْتَ {نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} بِـ "إِلَى"، وَبَابُهَا أَنْ تَقُولَ نَادَيْتُ زَيْدًا {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} مريم: 52. لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى دَعَوْتُ عُدِّيَ بِـ "إِلَى"، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ} فُصِّلت: 33. ثُمَّ اتَّسَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ". فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَوَصَلَ الْفِعْلُ إِلَى المفعول فصار عاقدتموه، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ} الحُجُر: 94. أَوْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا قَالَ تعالى: {قاتَلَهُمُ اللهُ} التوبة: 30. أَيْ قَتَلَهُمْ. وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ وَاحِدٍ بِغَيْرِ مَعْنَى (فَاعَلْتُ) كَقَوْلِهِمْ: سافرتُ وظاهرتُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ التَّشْدِيدَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِلَّا إِذَا كُرِّرَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي)). فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَسْتُ آمَنَ أَنْ يَلْزَمَ مَنْ قَرَأَ بِتِلْكَ الْقِرَاءَةِ أَلَّا تُوجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يُرَدِّدَهَا مِرَارًا. وهذا قولٌ خلافَ الإجْماعِ. روى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَنِثَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكِّدَ الْيَمِينَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، فَإِذَا أكَّدَ الْيَمِينَ أَعْتَقَ رَقَبَةً. قِيلَ: لِنَافِعٍ مَا مَعْنَى أكَّدَ الْيَمِينَ؟ قَالَ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا.
اخْتُلِفَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هَلْ هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا يَمِينُ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَكَذِبٍ فَلَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ)) وَقَوْلُهُ: ((فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)). يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِمَّا يُسْتَقْبَلُ فَلَا يَفْعَلُهُ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ أَلَّا يَفْعَلَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَيَفْعَلُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُكَفِّرَ وَإِنْ أَثِمَ وَعَمَدَ الْحَلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَالَّانِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} البقرة: 224. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ أَلَّا يَصِلَ قَرَابَتَهُ فَجَعَلَ اللهُ لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِيرِ، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْتَلَّ بِاللهِ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ. وَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُلُ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا حَرَامًا هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْآيَةُ وَرَدَتْ بِقَسَمَيْنِ: لَغْوٍ وَمُنْعَقِدَةٍ، وَخَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ النَّاسِ فَدَعْ مَا بَعْدَهَا يَكُونُ مِئَةَ قَسَمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ
ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: ((الْإِشْرَاكُ بِاللهِ)) قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)) قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((الْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: ((الَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ)). وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)) وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رضي الله عنه: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} آل عمران: 77. إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَّارَةً لَسَقَطَ جُرْمُهُ، وَلَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَعِيدَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِفُ الْكَذِبَ، وَاسْتِحْلَالَ مَالِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِخْفَافَ بِالْيَمِينِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالتَّهَاوُنَ بِهَا وَتَعْظِيمَ الدُّنْيَا؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللهُ، وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللهُ وَحَسْبُكَ. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ. الْحَالِفُ بِأَلَّا يَفْعَلَ عَلَى بِرٍّ مَا لَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْتُ. وَإِذَا حَلَفَ بِأَنْ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ عَلَى حِنْثٍ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ فَعَلَ بَرَّ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ.
قَوْلُ الْحَالِفِ: إلَأَفْعَلَنَّ، وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَقَوْلِهِ: لَا أَفْعَلُ، وَإِنْ فَعَلْتُ، بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ. فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَفْعَلَ جَمِيعَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: مِثَالُهُ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَأْكُلَ جَمِيعَهُ: لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ: وَاللهِ لَآكُلَنَّ ـ مُطْلَقًا ـ فَإِنَّهُ يَبَرُّ بِأَقَلِّ جُزْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، لِإِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ فِي الْوُجُودِ. وَأَمَّا فِي النَّهْيِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَلَّا يَدْخُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ دَارًا فَأَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ غَلَّظَ جِهَةَ التَّحْرِيمِ بِأَوَّلِ الِاسْمِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ} النساء: 22، فَمَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي جِهَةِ التَّحْلِيلِ بِأَوَّلِ الِاسْمِ فَقَالَ: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ. الْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى، كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَلِيمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، كَعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِ ذَاتِهِ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِقَدِيمٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، فَكَانَ الْحَالِفُ بِهَا كَالْحَالِفِ بِالذَّاتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْجَنَّةِ وَرَجَعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النَّارِ: وعزتك لا يسمع بها أَحدٌ فَيَدْخُلَهَا. وَخَرَّجَا أَيْضًا وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَفَى رِوَايَةٍ لَا وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: وَاللهِ أَوْ بِاللهِ أَوْ تَاللهِ فَحَنِثَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ: مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَحَقِّ اللهِ وَعَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِ اللهِ وَلَعَمْرِ اللهِ وَايْمِ اللهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّهَا أَيْمَانٌ تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي وَحَقِّ اللهِ وَجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَةِ اللهِ، يَمِينٌ إِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَحَقُّ اللهِ وَاجِبٌ وَقُدْرَتُهُ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ فِي أَمَانَةِ اللهِ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَلَعَمْرِ اللهِ وَايْمِ اللهِ إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِذَا قَالَ: وَعَظَمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ اللهِ وَجَلَالِ اللهِ وَكِبْرِيَاءِ اللهِ وَأَمَانَةِ اللهِ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي وَحَقِّ اللهِ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَلِكَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ وَأَمَانَتُهُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: هِيَ يَمِينٌ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: وَعِلْمُ اللهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ وَهُوَ الْمُحْدَثُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. وَذَهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَقْدُورِ، فَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي الْمَعْلُومِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((وَايْمِ اللهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ)) فِي قِصَّةِ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَايْمِ اللهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا أَرَادَ بِايْمِ اللهِ يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ وَعَقْدِ الْقَلْبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلِفِ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا نَكْرَهُ ذَلِكَ. ولَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاللهِ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنَّه أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رضي الله عنه ـ فِي رَكْبٍ وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)). وَهَذَا حَصْرٌ فِي عَدَمِ الْحَلِفِ بكلِّ شيءٍ سِوَى اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ وَلَا تحلفوا إلَّا بالله، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ثُمَّ يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِمَنْ قَالَ: وَآدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ.
رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ)). وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ الْأَمْرِ وَأَنَا حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بِئْسَ مَا قُلْتَ)): وَفِي رِوَايَةٍ قُلْتَ هُجْرًا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كلِّ شيءٍ قَدِيرٍ وَانْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا وَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَا تَعُدْ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَنْ نَطَقَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تَكْفِيرًا لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ، وَتَذْكِيرًا مِنَ الْغَفْلَةِ، وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ. وَخَصَّ اللَّاتَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ حُكْمُهَا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا، وَكَذَا مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي اللَّاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا اعْتَادُوا الْمُقَامَرَةَ وَهِيَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرانِيٌّ، بَرِئ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ أُشْرِكُ بِاللهِ أَوْ أَكْفُرُ بِاللهِ: إِنَّهَا يَمِينٌ تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ، وَلَا تَلْزَمُ فِيمَا إِذَا قَالَ: وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِيغَةِ الْأَيْمَانِ. وَمُتَمَسَّكُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ مَوْلَاتَهُ أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ، وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَلَيْهَا مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللهِ إِنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ ـ رضي الله عنهم ـ فَكُلُّهُمْ قَالَ لَهَا: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي مِثْلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ؟ وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا وَتُخَلِّيَ بَيْنَهُمَا. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ مَوْلَاتِي لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمًا مَجُوسِيَّةٌ إِنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ: إِنَّ مَوْلَاتِي تُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي، فَقَالَتِ انْطَلِقْ إِلَى مَوْلَاتِكَ فَقُلْ لَهَا: إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكِ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا، قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَجَاءَ حَتَّى انْتَهَى إلى الباب فقال: ها هنا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، فَقَالَتْ: إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ مَالٍ لِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَمِمَّ تَأْكُلِينَ؟ قَالَتْ: وَقُلْتُ أَنَا يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمًا مَجُوسِيَّةٌ، فَقَالَ: إِنْ تَهَوَّدْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَنَصَّرْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَمَجَّسْتِ قُتِلْتِ، قَالَتْ: فَمَا تأمرني؟ قال: تكفري عَنْ يَمِينِكِ، وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ فَتَاكِ وَفَتَاتِكِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللهِ أَنَّهَا يَمِينٌ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ أُقْسِمُ أو أشهد ليكون كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ بِاللهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَيْمَانًا عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا أَرَادَ بِاللهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِاللهِ لَمْ تَكُنْ أَيْمَانًا تُكَفَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ أَيْمَانٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ أَيْمَانًا حَتَّى يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ. وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ.
إِذَا قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، فَإِنْ أَرَادَ سُؤَالَهُ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْيَمِينَ كَانَ ما ذكرناه آنفا.
ومَنْ حَلَفَ بِمَا يُضَافُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِمَّا لَيْسَ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ: وَخَلْقِ اللهِ ورزقه وبيته لا شي عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَحَلِفٌ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى.
إِذَا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: الِاسْتِثْنَاءُ بَدَلٌ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَتْ حَلًّا لِلْيَمِينِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ حَلٌّ لِلْيَمِينِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا مَنْطُوقًا بِهِ لَفْظًا، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ مَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ غَيْرِ حِنْثٍ فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ أَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَنْفَعْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا وَلَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ، قَالَ: فَإِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فَرَغَتْ عَارِيَةً مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَوُرُودُهَا بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ كَالتَّرَاخِي، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى وَالْفَاءُ، لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا تَنْحَلَّ يَمِينٌ ابْتُدِئَ عَقْدُهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاخْتَلَفوا مَتَى اسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ تَخْصِيصَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ الْمَحْلُوفَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُسْمِعَ الْمَحْلُوفَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ إِذَا حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْمَحْلُوفُ لَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُعْتَبَرُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى يُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكَلَامِ يَقَعُ بِالْكَلَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى حَسَبٍ مَا يَسْتَوْفِيهِ لَهُ الْحَاكِمُ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ عَلَى اخْتِيَارِ الْحَالِفِ بَلْ كَانَتْ مُسْتَوْفَاةً مِنْهُ، وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِيهَا حُكْمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُدْرِكُ الِاسْتِثْنَاءُ الْيَمِينَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} الفرقان: 68 الْآيَةَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ عَامٍ نَزَلَ" إِلَّا مَنْ تابَ" مريم: 60. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ قَالَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنِ اسْتَثْنَى بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنِ اسْتَثْنَى قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَوْ يَتَكَلَّمَ فَلَهُ ثُنْيَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ: يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ ذَلِكَ قَدْرَ حَلْبِ النَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْآيَةِ فَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُ فِيهَا، لِأَنَّ الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وَفِي لَوْحِهِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةٍ عَلِمَ الله ذَلِكَ فِيهَا، أَمَا إِنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا فَرْعٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ وَاللهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ الْأَوَّلِ إِنْ شَاءَ اللهُ فِي قَلْبِهِ، وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ مَشِيئَةِ أَحَدٍ، وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ إِرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا. قُلْتُ: وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْآيَةَ الْأُولَى وَأَخْفَى الثَّانِيَةَ، فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إِذَا حَلَفَ إِرْهَابًا وَأَخْفَى الِاسْتِثْنَاءَ. وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ يَقْرَأُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، وَكَانَتِ الْكُتُبُ تَأْتِي إِلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ، فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ وَيُقْطَعُ بِهِ عَنْ طَلَبِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَقَضَى غَرَضًا مِنَ الطَّلَبِ وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ، شَدَّ رَحْلَهُ وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِلَ، فَقَرَأَ فِيهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يَقْرَؤُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهُ مِنْ تَحْصِيلِ حَرْفٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَحَمِدَ اللهَ وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّةِ قُمَاشَهُ وَخَرَجَ إِلَى بَابِ الْحَلَبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيُّ بِالدَّابَّةِ وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ يَبْتَاعُ مِنْهُ سُفْرَتَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إِذْ سَمِعَهُ يَقُولُ لِفَامِيٍّ آخَرَ: أَمَا سَمِعْتَ الْعَالِمَ يَقُولُ ـ يَعْنِي الْوَاعِظَ ـ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، لَقَدِ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَالِي مُنْذُ سَمِعْتُهُ فَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} ص: 44. وَمَا الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ! فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ: بَلَدٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَامِيُّونَ بِهَذَا الْحَظِّ مِنَ الْعِلْمِ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى الْمَرَاغَةِ؟ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا، وَاقْتَفَى أَثَرَ الْكَرِيِّ وَحَلَّلَهُ مِنَ الْكِرَاءِ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ. الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَقَعُ فِي كُلِّ يَمِينٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَالْيَمِينِ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {فَكَفَّارَتُهُ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ هَلْ تُجْزِئُ أَمْ لَا؟ ـ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ مُبَاحٌ حَسَنٌ وَهُوَ عِنْدُهُمْ أَوْلَى ـ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُجْزِئُ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُجْزِئُ بِوَجْهٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَجْهُ الْجَوَازِ مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)). خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ} فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إِلَى الْيَمِينِ وَالْمَعَانِي تُضَافُ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَلٌ عَنِ الْبِرِّ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) زَادَ النَّسَائِيُّ (وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُرْفَعُ فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا، وَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذا حَلَفْتُمْ" أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ فُعِلَتْ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَصِحَّ اعْتِبَارًا بِالصَّلَوَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ بِالْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ، وَلَا تُجْزِئُ بِالصَّوْمِ، لِأَنَّ عَمَلَ الْبَدَنِ لَا يَقُومُ قَبْلَ وَقْتِهِ. وَيُجْزِئُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ.
ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي الْكَفَّارَةِ الْخِلَالَ الثَّلَاثَ فَخَيَّرَ فِيهَا، وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ، وَبَدَأَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَلُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ شبعهم، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ، فَإِنْ عَلِمْتَ مُحْتَاجًا فَالطَّعَامُ أَفْضَلُ، لِأَنَّكَ إِذَا أَعْتَقْتَ لَمْ تَدْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْتَ إِلَيْهِمْ مُحْتَاجًا آخر، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ تَلِيهِ، وَلَمَّا عَلِمَ اللهُ الْحَاجَةَ بَدَأَ بِالْمُقَدَّمِ الْمُهِمِّ.