روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 273

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 273 Jb12915568671



فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 273 Empty
مُساهمةموضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 273   فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 273 I_icon_minitimeالإثنين أكتوبر 15, 2012 4:27 pm

فيض العليم ... سورة البقرة، الآية: 273


لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
(273)


قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} ذَكَرَ غيرُ واحدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ المُرادَ الأَوَّلَ بالآيةِ هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالهمْ بِمَكَّة وجاؤوا دَارَ الْهِجْرَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ زِرَاعَةً وَلَا تِجَارَةً، ثمَّ تَعمُّ هذه الآيةُ بعد ذلك كُلَّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ هذه الصِفَةِ أَبَدَ الدَّهْرِ. وَإِنَّمَا خُصَّ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَاهُمْ، وَهُمْ المعروفينَ ب "أَهْلُ الصُّفَّةِ" وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِئَةِ رَجُلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْدُمُونَ فُقَرَاءَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا لَهُمْ أَهْلٌ وَلَا مَالٌ فَبُنِيَتْ لَهُمْ صُفَّةٌ فِي المَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَهْلُ الصُّفَّةِ. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: كُنْت مِنْ "أَهْل الصُّفَّة"، وَكُنَّا إِذَا أَمْسَيْنَا حَضَرْنَا بَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْمُرُ كُلَّ رَجُلٍ فَيَنْصَرِفُ بِرَجُلٍ وَيَبْقَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ عَشَرَةٌ أَوْ أَقَلُّ فَيُؤْتَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِعَشَائِهِ وَنَتَعَشَّى مَعَهُ. فَإِذَا فَرَغْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَامُوا فِي الْمَسْجِدِ)). فتح الباري في شرحِ صحيحِ البخاري، لأحمدَ بْنِ علي بن حَجَرٍ العسقلاني: (18/272). وكَانُوا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فِي الْمَسْجِدِ ضَرُورَةً، وَأَكَلُوا مِنَ الصَّدَقَةِ ضَرُورَةً، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، اسْتَغْنَوْا عَنْ تِلْكَ الْحَالِ، وَخَرَجُوا، ثُمَّ مَلَكُوا وَتَأَمَّرُوا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: وكانوا نَحْوًا مِنْ ثَلاثِمِئةٍ ويَزيدون ويَنقُصون مِن فُقراءِ المهاجرين، يَسْكُنُونَ سَقِيفَةَ المَسْجِدِ، يَسْتَغْرِقون أَوْقاتَهم بالتَّعَلُّمِ والجِهادِ، وكانوا يَخْرُجونَ في كُلِّ سَرِيَّةٍ يَبعَثُها رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وأَخْرَجَ أَبو نُعَيْمٍ عَنْ فُضالَةَ بْنِ عُبيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: كان رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِذا صَلَّى بالنَّاسِ تَخِرُّ رِجالٌ مِنْ قِيامِهم في صَلاتِهم لِمَا بِهم مِنَ الخَصاصَةِ، وهم أَهْلُ الصُّفَّةِ، حَتَّى يَقولَ الأَعْرابُ إِنَّ هَؤلاءِ مَجانينَ. وأخرج أَيْضًا عنْ أَبي هريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، قال: كانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ سَبْعونَ رَجُلًا ليس لواحدٍ منهم رِداءٌ.
وأَصْلُ الفَقيرِ مِنْ "فَقَرَتْه الفاقِرة" أَيْ: كَسَرَتْ فَقَارَ ظَهْرِهِ الداهيةُ. قالَ الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: وأَصلُ الفقيرِ: هوَ المَكْسورُ الفَقَارِ، يُقالُ: فَقَرَتْهُ الفاقِرَةُ، أَيْ: الداهِيَةُ تَكْسِرُ الفَقَارُ، و"أَفْقَركَ الصَّيْدُ فارْمِهِ" أَي: أَمْكَنَكَ من فَقارِه. وقيل: هوَ مِنَ الفُقْرَةِ أَيْ الحُفْرَةِ، ومِنْهُ قِيلَ لِكُلِّ حُفْرَةٍ يَجْتَمِعُ فيها الماءُ: فقيرٌ. وَفَقَرْتُ الخَرَزَ: ثَقَبْتُهُ. وقالَ الهَرَوِيُّ: يُقالُ "فَقَرَهُ" إذا أَصابَ فَقَارَ ظَهْرِهِ نَحْوَ: رَأَسَهُ أَيْ: أَصابَ رَأْسَه، وَبَطَنَهُ: أَيْ: أَصابَ بَطْنَهُ. وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الفَقْر: أَنْ يُحَزَّ أَنْفُ البَعيرِ حتَّى يَخْلُصَ الحَزُّ إلى العَظْمِ، ثُمَّ يُلْوَى عَلَيْهِ جَريرٌ يُذَلَّلُ بِهِ الصَّعْبُ مِنَ الإِبِلِ، ومِنْهُ قِيلَ: "عَمِلَ بِهِ الفاقِرَةَ". والفِقَراتُ ـ بِكَسْرِ الفاءِ وفَتْحِ القافِ: جمع فِقَرَةٍ: وهي الأمورُ العِظامُ، ومِنْهُ حَديثُ السَّعْيِ: ((فِقَراتُ ابْنِ آدَمَ ثلاثٌ: يومَ وُلِدَ ويومَ يَموتُ، ويومَ يُبْعَثُ)). والفُقَرُ ـ بِضَمِّ الفاءِ وفتحِ القافِ: جَمْعُ فُقْرَةٍ وهي الحَزُّ، وخَرْمُ الخَطْمِ، ومِنْهُ قَوْلُ أَبي زِيادٍ: يُفْتقَرُ الصَعبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خَطْمِهِ. ومِنهُ حَديثُ سَعْدٍ ـ رضي اللهُ عنه: فأَشارَ إِلى فُقَرٍ في أَنْفِهِ. أَي: شَقٍّ وحَزٍّ. أَمَّا الإِحصارِ، فقدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فيه والفَرْقُ بَيْنَ فَعَلَ وأَفْعَلَ مِنْهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى، مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مَا يُوجِبُ الْحُنُوَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ" أي حُبِسُوا وَمُنِعُوا. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى "أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ" حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَعَايِشِهِمْ خَوْفَ الْعَدُوِّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: "لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ" لِكَوْنِ الْبِلَادِ كُلِّهَا كُفْرًا مُطْبِقًا. وَهَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَعِلَّتُهُمْ تَمْنَعُ مِنَ الِاكْتِسَابِ بِالْجِهَادِ، وَإِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ إِسْلَامَهُمْ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ فَبَقُوا فُقَرَاءَ.
قَوْلُهُ: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أَيْ تَركوا الْمَسْأَلَة وتوكَّلوا عَلَى اللهِ بِحَيْثُ يَظُنُّهُمُ الْجَاهِلُ بِحالِهِمْ أَغْنِيَاءَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَقْرِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنْ لَهُ كِسْوَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِإِعْطَاءِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَكَانُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ مَرْضَى وَلَا عُمْيَانَ. وَالتَّعَفُّفُ تَفَعُّلٌ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى تَعَاطِيهِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَها قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. قال رُؤبَةُ بْنُ العجَّاجِ:
فَعَفَّ عن أسرارِها بعد الغَسَقْ ............ ولم يَدَعْها بعد فَرْكٍ وعَشَقْ
وقال عنترَةُ:
يُخْبِرْكَ مَنْ شهدَ الوقيعةَ أنني ......... أَغْشَى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ
ومنه يقالُ: "فلانٌ عفيفُ الإِزارِ" كِنَايَةً عَنْ حَصَانَتِهِ. وعَرَّفَ التَّعَفُّفَ لأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمْ مِرارًا فَصارَ كالمَعْهودِ.
قَوْلُهُ: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلسِّيمَا أَثَرًا فِي اعْتِبَارِ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى في سورة (محمد) صلى اللهُ عليه وسلَّم: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ صَرْفِ الصَّدَقَةِ إِلَى مَنْ لَهُ ثِيَابٌ وَكِسْوَةٌ وَزِيٌّ فِي التَّجَمُّلِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا بَعْدَهُ فِي مِقْدَارِ مَا يَأْخُذُهُ إِذَا احْتَاجَ. فَقد اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِقْدَارَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قُوتَ سَنَةٍ، أَمّا َمَالِكٌ ـ رضي اللهُ عنه، فقد اعْتَبَرَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَصْرِفُ الزَّكَاةَ إِلَى الْمُكْتَسِبِ. وَ ال "سيمَا" الْعَلَامَةُ، قالَ طَرَفَةُ بْنُ العبدِ:
غَلامٌ رَماهُ اللهُ بالحُسْنِ يافِعًا ........... له سِيمِياءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
وقيلَ البيتُ لابنِ عنقاء ولهذا البيتِ قِصَّةٌ يَجْمُلُ ذِكْرُها. ذَلكَ أَنَّ ابْنَ عَنْقاءَ كانَ مِنْ أَكثَرِ أَهلِ زَمانِه مالًا وأَشَدِّهم عارِضَةً ولِسَانًا، فَطَالَ عُمُرُهُ، ونَكَبَهُ دَهْرُهُ، فاخْتَلَّتْ حالُهُ، فمَرَّ بِهِ عُمَيْلَةُ بْنُ كِلْدَةَ الفِزَارِيُّ، وهُوَ غُلامٌ جَميلٌ مِنْ ساداتِ فِزارَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وقالَ: يا عَمُّ، مَا أَصارَكَ إِلى مَا أَدْري؟ فقال: بُخْلُ مِثْلِكَ بِمَالِهِ، وصَوْنِي وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ. فقالَ: واللهِ لَئِنْ بَقيتُ إِلَى غَدٍ لأُغيِّرَنَّ مَا أَدري مِنْ حَالِكَ. فرَجَعَ ابْنُ عَنْقاءَ فأَخْبَرَ أَهْلَهُ، فقالت: لقد غَرَّكَ كَلامُ جُنْحِ لَيْلٍ. فبَاتَ مُتَمَلْمِلًا بَيْنَ اليَأْسِ والرَّجاءِ. فلَمَّا كانَ السَّحَرُ، سَمِعَ رُغاءَ الإبلِ، وثُغَاءَ الشَّاءِ وصَهيلَ الخَيْلِ، ولَجْبَ الأَمْوالِ، فقالَ: ما هَذَا؟ فقال: هَذا عُمَيْلَةُ سَاقَ إِلَيْكَ مالَهُ. ثمَّ قَسَمَ عُمَيْلَةُ مَالَهُ شَطريْنِ وسَاهَمَهُ عَلَيْهِ، فقالَ ابْنُ عَنْقاءَ فِيهِ يُمجِّدُهُ:
رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ........ إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ..... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ........ وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ............ لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ...... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ .......... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلٍّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ............... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرتْ ثِيَابُه ........ تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
وقد تُمَدُّ فَيُقَالُ "السِّيمَاءُ" وَقَدْ تُقصَرُ "سيما" فالهمزةُ فيها منقلبةٌ عن حرفٍ زائدٍ للإِلحاقِ: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي ك عِلْباء فالهمزةُ للإلحاقِ وليستْ للتَأْنيثِ وهيَ مُنْصَرِفَةٌ لِذلِكَ. و "سيما" مقلوبةٌ قُدِّمَتْ عينُها على فائها لأنَّها مُشتقَّةٌ مِنَ الوَسْمِ فهِيَ بِمَعْنَى السِّمَةِ أَي: العَلامَةُ، فلَمَّا وَقَعَتِ الواوُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ ياءً، فَوَزْنُ "سيما" عِفْلا، كَمَا يُقالُ اضْمَحَلَّ، وامْضَحَلَّ، و "خِيمة" و "خامة"، ولَهُ جاهٌ وَوَجَهْ، أَيْ: وَجاهة.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا هُنَا، وما هِيَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وقالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ أَثَرُ الفاقَةِ والحاجَةِ في وُجوهِهم وقِلَّةِ النِّعْمَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ، ـ وَحَكَاهُ مَكِّيٌّ واسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عطيَّةَ: أَثَرُ السُّجُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ للعلمِ والعبادةِ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ لَا شُغْلَ لهم ـ فِي الْأَغْلَبِ، إِلَّا الصَّلَاةُ، فَكَانَ أَثَرُ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَهَذِهِ السِّيمَا الَّتِي هِيَ أَثَرُ السُّجُودِ اشْتَرَكَ فِيهَا جَمِيعُ الصَّحَابَةِ ـ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، بِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى عنهم فِي آخِرِ سورةِ (الْفَتْحِ) بِقَوْلِهِ: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الآية: 29. فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السِّيمَاءُ أَثَرَ الْخَصَاصَةِ وَالْحَاجَةِ، أَوْ يَكُونَ أَثَرُ السُّجُودِ أَكْثَرَ، فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِصُفْرَةِ الْوُجُوهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَوْمِ النَّهَارِ، وَأَمَّا الْخُشُوعُ فَذَلِكَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا اخْتَرْنَاهُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وقَوْلُهُ: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا} أَيْ :مُلْحِفِينَ، مِنْ أَلْحَفَ إذا أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، كما يقالُ: أَحْفَى فهما سواء، قالَ بشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
الحُرُّ يُلْحى والعصا للعبْدِ .................. وَلَيْسَ لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ
وَاشْتِقَاقُ الْإِلْحَافِ مِنَ اللِّحَافِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ، مِنَ التَّغْطِيَةِ، أَيْ هَذَا السَّائِلُ يَعُمُّ النَّاسَ بِسُؤَالِهِ فَيُلْحِفُهُمْ ذَلِكَ، أي: يعمَّهم ويُغطِّيهم، وَمِنْ ذلك قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
فَظَلَّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ ........................ وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا
يَصِفُ ذَكَرَ النَّعَامِ يَحْضُنُ بِيضًا بِجَنَاحَيْهِ وَيَجْعَلُ جَنَاحَهُ لَهَا كَاللِّحَافِ وَهُوَ رَقِيقٌ مَعَ ثَخْنِهِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اقرؤوا إنْ شِئْتم: ((لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا)). وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قوله: "لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا" عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْأَلُونَ الْبَتَّةَ، وهذا على أنَّهم متعَفِّفون عنِ الْمَسْأَلَةِ عِفَّةً تَامَّةً، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَكُونُ التَّعَفُّفُ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ، أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَاحًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَاحٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، أَيْ إِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَهَذَا هُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ، أَيْ يَسْأَلُونَ غَيْرَ مُلْحِفِينَ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُوءِ حَالَةِ مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ)). وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ)) فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ يَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا)). وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ حُكْمُ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَحُكْمِ مَنْ دُونَهُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، لِارْتِفَاعِ الْجُرْحَةِ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَثُبُوتِ الْعَدَالَةِ لَهُمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ هَذَا الْحَدُّ وَالْعَدَدُ وَالْقَدْرُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَيَكُونُ عِدْلًا مِنْهَا فَهُوَ مُلْحِفٌ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ السُّؤَالَ لِمَنْ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ عِدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَمَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يأكله إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الزَّكَاةِ فَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
سُئِلَ الإمامُ أَحمدُ بْنُ حنبل ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، عَنِ الْمَسْأَلَةِ مَتَى تَحِلُّ قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عندَه مَا يُغَذِّيهِ وَيُعَشِّيهِ عَلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ تَعَفَّفَ؟ قَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ! اللهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه: ((مَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللهُ)). وَحَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ ـ رضي اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: ((تَعَفَّفْ)). قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَسَمِعْتُهُ (أي: الإمام أحمد) يُسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ شَيْئًا أَيَسْأَلُ النَّاسَ أَمْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ؟ فَقَالَ: أَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ، هَذَا شَنِيعٌ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يُسْأَلُ هَلْ يَسْأَلُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنْ يُعَرِّضُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ جَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ فَقَالَ: ((تَصَدَّقُوا)) وَلَمْ يَقُلْ أَعْطُوهُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا)). أخرجَهُ البُخاريُّ في (الأَدَبِ المُفردِ، باب: تعاون المؤمنين) وأخرجه مسلم في صحيحه: (البرّ والصِلَة، باب: استحبابِ الشفاعة) مِنْ حديثِ أَبي موسى الأَشعَرِيِّ، وبَقِيَّةُ الحديث: ((ويَقْضِي اللهُ عَلى لسانِ نَبِيِّهِ ما شاءَ). وَفِيهِ إِطْلَاقُ السُّؤَالِ لِغَيْرِهِ. فقد رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْفِرَاسِيَّ (مِنْ بَني فِراسٍ، مِنْ كِنانة) قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((لا، وإنْ كنتَ سائلًا لا بُدَّ، فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ)). فَأَبَاحَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُؤَالَ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذلك، وإنْ أَوْقَعَ حاجتَهُ بِاللهِ فَهُوَ أَعْلَى. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: سُؤَالُ الْحَاجَاتِ مِنَ النَّاسِ هِيَ الْحِجَابُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، فَأَنْزِلْ حَاجَتَكَ بِمَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وَلْيَكُنْ مَفْزَعُكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَكْفِيكَ اللهُ مَا سِوَاهُ وَتَعِيشُ مَسْرُورًا. فإنْ جاءَه شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَلَا يَرُدَّهُ، إِذْ هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ. فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنه، بِعَطَاءٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِمَ رَدَدْتَهُ؟)) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ أَحَدَنَا خَيْرٌ لَهُ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا ذَاكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَكَهُ اللهُ)) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَأْتِينِي بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلَّا أَخَذْتُهُ. وَهَذَا نَصٌّ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خُذْهُ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غير مُشرِفٍ ولا سائلٍ فخذْه وما لا فَلَا تُتْبِعُهُ نَفْسَكَ)). زَادَ النَّسَائِيُّ ـ بَعْدَ قَوْلِهِ خُذْهُ ـ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ)).
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطّابِ ـ رضي اللهُ عنه، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ)) وَهَذَا يُصَحِّحُ لَكَ حَدِيثَ مَالِكٍ الْمُرْسَلَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ عَنْ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَتَاكَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافٍ)). أَيَّ الْإِشْرَافِ أَرَادَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَسْتَشْرِفَهُ وَتَقُولَ بِقَلْبِكَ: لَعَلَّهُ يُبْعَثُ إِلَيَّ. وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْهُ جَارِحَةٌ. وَأَمَّا مَا اعْتَقَدَهُ الْقَلْبُ مِنَ الْمَعَاصِي مَا خَلَا الْكُفْرَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يعمَلَ لَهُ، وَخَطَرَاتُ النَّفْسِ مُتَجَاوَزٌ عَنْهَا بِإِجْمَاعٍ. والْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَافُ فِيهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا، حَرَامٌ لَا يَحِلُّ. لِحَديثِ أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ)). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وإِذَا كَانَ السَّائِلُ مُحْتَاجًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُكَرِّرَ الْمَسْأَلَةَ ثَلَاثًا إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْؤولُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَيُعْطِيهِ مَخَافَةَ أَنْ
يَكُونَ صَادِقًا فِي سُؤَالِهِ فَلَا يُفْلِحُ فِي رَدِّهِ.
قولهُ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} لِلْفُقَرَاءِ: جارٌّ ومجرورٌ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ جَوازًا؛ تَقْديرُهُ: الصَّدَقاتُ مَصْروفَةٌ أو مستَحقَّةٌ للفقراءِ، والجُملةُ مِنَ المُبْتَدَأِ المَحْذوفِ وخَبَرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّهم لَمَّا أُمِروا بالصَّدَقاتِ قالوا: فَلِمَنْ هِيَ، ولمنْ نُعطيها؟ فأُجِيبوا: بِأَنَّها لِهَؤُلاءِ الفُقَراءِ المَذْكورينَ. وفيها فائدةُ بَيَانِ مَصْرِفِ الصَدَقاتِ. وهذا اختيارُ ابْنِ الأَنْبارِيِّ. والأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِياقُ الكَلامِ، واخْتَلَفَتْ عَباراتُ المُعْرِبِينَ فِيهِ، فقالَ مَكِيٌّ: "أَعْطُوا للفقراءِ" وفيه نظرٌ، لأنَّه يلزمُ زيادةُ اللامِ في أحدِ مفعولَي أَعْطى، ولا تُزادُ اللامُ إلَّا لِضَعْفِ العامِلِ: إمَّا بِتَقَدُّمِ مَعْمُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالى في الآية: 43، من سورة يوسُفَ: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وإمَّا لِكونِه فَرْعًا نَحْوَ قولِهِ تَعَالى في الآيةِ: 107، مِنْ سورةِ هودٍ: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، ويَبْعُد أَنْ يُقالَ: لَمَّا أُضْمِرَ العاملُ ضَعُفَ فَقَوِيَ باللامِ، على أنَّ بعضَهم يُجيزُ ذَلِكَ وإِنْ لَمْ يَضْعُفِ العامِلُ، وجَعَلَ مِنْهُ قولَهُ في سورةِ النملِ: {رَدِفَ لَكُم} الآية: 72، وسَيَأْتي بَيَانُهُ في مَوْضِعِهِ إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالى: وقَدَّرَهُ أبو البقاء: "اعجبوا للفقراءِ" وفيه نظرٌ أَيْضًا، لأَنَّهُ لا دَلالَةَ مِنْ سِيَاقِ الكَلامِ عَلَى العَجَبِ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: "اعْمَدوا أَوِ اجْعَلوا ما تُنْفقون" والأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ ما قدَّرَهُ مَكِيٌّ، لكنْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ.
وقيلَ: إِنَّ اللامَ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ في الآية: 271، السابقة: {إِنْ تُبْدُواْ الصَدَقاتِ}، وهوَ مَذْهَبُ القَفَّالِ، وقد اسْتَبْعَدَهُ النَّاسُ لِكَثرةِ الفواصِلِ.
وقيل: إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: "وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ" وفيه نظرٌ من حيث إنَّه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ، فيَصيرُ نظيرَ قولِك: مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إِلَيْهِ زَيْدًا. وقد صَرَّح الوَاحديُّ بالمنع من ذلك ـ مُعَلِّلاً بما تقدَّمَ ذِكْرُهُ ـ فقالَ: ولا يَجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذِهِ اللامِ "تُنْفِقوا" الأَخيرَ في الآيةِ المُتَقَدِّمَةِ، لأَنَّه لا يُفْصَلُ بَيْنَ العامِلِ والمَعْمُولِ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لا يَجوزُ قولُكَ: كانَتْ زَيْدًا الحُمَّى تَأْخُذُ. وقالوا إنَّ "للفقراءِ" بَدَلٌ مِنْ قولِهِ: {فلأنفُسِكم}، وهذا مَرْدودٌ، قالَ الواحدِيُّ وغيْرُهُ: لأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ غَيْرِهِ لا يَكونُ إلَّا والمَعْنَى مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ، ولَيْسَ كَذلِكَ ذِكْرُ النَّفْسِ هَهُنا، لأَنَّ الإِنْفاقَ مِنْ حَيْثُ هوَ عائدٌ عَلَيْها، وللفُقَراءِ مِنْ حَيْثُ هوَ واصِلٌ إِلَيْهِمْ، ولَيْسَ مِنْ بابِ قولِه تعالى في سورةِ آل عمران: {وَللهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} الآية: 97. لأنَّ الأَمْرَ لازِمٌ للمُسْتَطيعِ خاصَّةً، يَعْني أَنَّ الفُقراءَ لَيْسَتْ هِيَ الأَنْفُسَ ولا جُزْءًا منها ولا مُشْتَمِلةً عليها، وكأَنَّ القائلَ بذلك توهَّم أَنَّه مِنْ بابِ قولِهِ تعالى في سورة النساءِ: {وَلاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُمْ} الآية: 29، في أَحَدِ التَأْويلَيْنِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ جرِّ صِفَةٍ ل "الْفُقَرَاءِ". و "أُحْصِرُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ نائبِ فاعِلِهِ، والألفُ الفارقةُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصولِ فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ ضَميرُ نائبِ الفاعلِ. و "فِي سَبِيلِ" جارٌّ ومَجرورٌ مُضافٌ، مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ قَبْلَهُ فَهو ظَرْفٌ لَهُ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحذوفٍ عَلى أَنَّه حالٌ مِن فاعِلِ "أُحْصِروا" أَيْ مُسْتَقِرِّين في سَبيلِ اللهِ. وقَدَّرَهُ أَبو البَقاءِ بِمُجاهِدين في سَبيلِ اللهِ. فهو تَفْسيرُ مَعْنًى لا إِعْرابٌ، لأَنَّ الجارَّ لا يَتَعَلَّقُ إلَّا بالكَوْنِ المُطْلَقِ. ولفظُ الجلالةِ: "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليه.
قولُهُ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} لَا: نافِيَةٌ لا عملَ لها، و "يَسْتَطِيعُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في مجلِّ رفعِ فاعلِهِ، وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ حالًا مِنْ ضميرِ نائبِ الفاعلِ في "أُحْصِرُوا"، والعاملُ فِيهِ "أُحْصِرُوا" أَيْ: أُحْصِروا عاجِزينَ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُسْتَأْنَفًا. و "ضَرْبًا" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ. "فِي الْأَرْضِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِـ "ضَرْبًا"، أوْ بِمَحذوفِ صِفَةٍ لِـ "ضَرْبًا"، و "يَحْسَبُهُمُ" فعلٌ مضارعٌ مِنْ أَفعالِ الظَّنِّ فيَأْخُذُ مفعولينِ، مَرْفوعٌ لِتَجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وضَميرُ الغائبينَ: "هُمْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ أَوَّلُ، و " الْجَاهِلُ" فاعُلُهُ مَرْفوعٌ، وهو هُنا: اسمُ جِنْسٍ لا يُراد به واحدٌ بعينِه. و "أَغْنِيَاءَ" مَفعولٌ به ثانٍ. و "مِنَ التَّعَفُّفِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ، بِـ "يَحْسَبُ" أَيْ: يَحْسَبُهمْ لأَجْلِ تَعَفُّفِهم. وجَرُّهُ بِحَرْفِ السَّبَبِ هُنَا واجِبٌ لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُروطِ النَّصْبِ وهوَ اتِّحادُ الفاعِلِ، وذَلِكَ أَنَّ فاعِلَ الحُسْبانِ الجَاهِلُ، وفاعِلَ التَّعَفُّفِ هُمُ الفُقَراءُ، ولو كَانَ هَذا المَفْعُولُ لَهُ مُسْتَكْمِلًا لِشُروطِ النَّصْبِ لَكَانَ الأَحْسَنُ جَرَّهُ بالحَرْفِ لأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِ "أَلْ"، وجَرُّ هَذا النَّوعِ أَحْسَنُ مِنْ نَصْبِه، نَحْوَ: جِئْتُ للإكْرامِ، وقدْ جاءَ نَصْبُهُ في قولِ الشاعرِ:
لا أقعدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ .................. ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
أَيْ: لِلْجُبْنِ، وَإِنَّمَا عُرِّفَ الْمَفْعُولُ لَهُ، هُنَا لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمُ التَّعَفُّفُ مِرَارًا، فَصَارَ مَعْهُودًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ تَعَفُّفِهِمُ ابْتَدَأَتْ مَحْسَبَتُهُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِمْ لَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ غِنَى تَعَفَّفٍ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مَالٍ، فَمَحْسَبَتُهُ مِنَ التَّعَفُّفِ نَاشِئَةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ عِفَّةً تَامَّةً مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَوْنُهَا لِلسَّبَبِ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: حَالُهُمْ يَخْفَى على الجاهل به، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَلَى تَعْلِيقِ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَكِنْ بِالتَّعَفُّفِ، وَالْغَنِيُّ بِالتَّعَفُّفِ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، قَالَ: يَكُونُ التَّعَفُّفُ دَاخِلًا فِي الْمَحْسَبَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ سُؤَالٌ، بَلْ هُوَ قَلِيلٌ. وَبِإِجْمَالٍ فَالْجَاهِلُ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِفَقْرِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ عِفَّةٍ. فَمِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ حالٌ أَيضًا مِنْ ضَميرِ النائبِ في "أُحْصِرُوا"، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مُسْتَأْنَفًا.
قولُه: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} تَعْرِفُهُمْ: فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازم، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنتَ" يَعودُ على مَنْ هو أهلٌ للخِطابِ، و ضميرُ الغائبينَ "هم" في محلِّ النَّصبِ مَفعولٌ بِهِ، والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ أَيْضًا، ويجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها. و "بِسِيمَاهُمْ" جَارٌّ ومجرورٌ مضافٌ متعلق بـ "تَعْرِفُهُمْ"، ومعنى الباءِ السَّبَبِيَّةُ، أَيْ: إنَّ سَبَبَ مَعْرِفَتِكَ إِيَّاهم هي سِيماهُم.
قولُهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} لَا: نافيَةٌ. و "يَسْأَلُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهَ من الأفعال الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "النَّاسَ" مفعولٌ أَوَّلُ منصوبٌ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ: أَمْوالَهم، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ من ال "فقراء"، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعراب. و "إِلْحَافًا" نَصْبٌ عَلَى المَصْدَرِ بِفِعْلٍ محذوفٍ والتقَديرُ؛ أيْ: يُلْحِفون إِلْحافًا، والجُمْلَةُ المُقَدَّرَةُ حالٌ مِنْ فاعِلِ: "يَسْأَلُونَ". ويجوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعولًا لأَجْلِهِ؛ أَيْ: لا يَسْأَلونَ لأَجْلِ الإلْحافِ. أو أَنْ يَكونَ مَصْدرًا في مَوْضِعِ الحالِ والتَقديرُ: لا يَسْأَلونَ مُلْحِفينَ.
قولُهُ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} الواوُ: استئنافيَّةٌ. و "ما" اسْمُ شَرْطٍ جازمٌ، مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ مُقَدَّمٌ. و "تُنْفِقُوا" فعلٌ مضارعٌ مجزوم بـِ "ما" فعلَ شرطٍ لها، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ من آخِرهِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، و "مِنْ خَيْرٍ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بحالٌ مِنْ "ما". و "فَإِنَّ" الفاءُ: رابِطَةٌ لِجَوابِ "ما" الشَّرطِيِّةِ. و "إنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتأكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُها مصوبٌ بِها، و "عَلِيمٌ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "ما" عَلى أَنَّها جوابًا لها، وجُمْلَةُ "ما" الشَّرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قرأ الجمهورُ: {يحسِبُهُمُ} بكسرِ السينِ، وقرَأَ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ "يحسَبُ" بفتْحِها حيثُ وَرَدَ. فأَمَّا القراءةُ الأُولى بالكسْرِ لُغَةُ الحِجازِ، وبِها قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقدْ شَذَّتْ أَلْفاظٌ أُخَرُ جاءَتْ في المَاضِي والمُضارِعِ بِكَسْرِ العَيْنِ، مِنْها "نَعِمَ يَنْعِم"، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِسُ مِنَ اليُبُوسَةِ، وعَمِدَ يَعْمِدُ، وقياسُها كلُّها الفَتْحُ، وأَمَّا القراءةُ الثانيةُ فَجاءَتْ عَلى القِياسِ، لأَنَّ قِياسَ فَعِلَ (بِكَسْرِ العَيْنِ) يَفْعَلُ (بِفَتْحِها) لِتَتَخالَفَ الحَرَكَتانِ فَيَخِفَّ اللَّفظُ، وهيَ لغةُ تَميم، واللُّغَتَانِ فَصيحَتَانِ في الاسْتِعْمَالِ، والقارِئُ بِلُغَةِ الكَسْرِ اثْنَانِ مِنْ كِبارِ النُّحاةِ أَبو عَمْرٍو ـ وكَفَى بِهِ، والكِسائيُّ، وقارِئا الحَرَمَيْنِ نافعٌ وابْنُ كَثِيرٍ.
وفي الآيَةِ طِبَاقٌ في مَوْضِعَيْنِ، الأوَّلُ: "أُحْصِروا" مَعَ قولِهِ: "ضَرْبًا فِي الأرض"، والثاني قولُهُ: "أغنياءَ" مَعَ قولِهِ: "للفُقَراءِ".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 273
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: