عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 258 الخميس أكتوبر 04, 2012 9:57 pm | |
| َلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَخبرَ الحقُّ ـ سبحانَه ـ أنَّ إبراهيمَ ـ عليه السلامُ ـ انتقل مع العدوِّ اللَّعِينِ مِن الحُجَّةِ الصحيحةِ إلى أخرى، أَوْضَحَ منها، لا لِخَلَلٍ في الحجة ولكنْ لقُصورٍ في فهمِ الكافِرِ، ومَحَكُّ مَنْ سُدَّتْ بصائرُه عن التَّحقيقِ تَضييعُ الوقتِ بِلا فائدةٍ تُجدِي، لا بمِقدارِ ما يَكونُ مِن الحاجةِ لأمرٍ لا بُدَّ منه. قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ} فِي الْكَلَامِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيِ اعْجَبُوا لَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "أَلَمْ تَرَ" بِمَعْنَى هَلْ رَأَيْتَ، أَيْ هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، وَهَلْ رَأَيْتَ الَّذِي مَرَّ على قرية، وهو النُمروذ بنُ كوش بنُ كنعان بنُ سام بنُ نوح ملكُ زمانِه وَصَاحِبُ النَّارِ وَالْبَعُوضَةِ! هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَزَيْدِ ابن أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ إِهْلَاكُهُ لَمَّا قَصَدَ الْمُحَارَبَةَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ فَسَتَرُوا عَيْنَ الشَّمْسِ وَأَكَلُوا عَسْكَرَهُ وَلَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا الْعِظَامَ، وَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي دِمَاغِهِ فَأَكَلَتْهُ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ الْفَأْرَةِ، فَكَانَ أَعَزُّ النَّاسِ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ يَضْرِبُ دِمَاغَهُ بِمِطْرَقَةٍ عَتِيدَةٍ لِذَلِكَ، فَبَقِيَ فِي الْبَلَاءِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَجَبَّرَ وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، وَهُوَ أَحَدُ الكافريْن ـ مَلَكَ الأرضَ مؤمنان هما سُليْمانُ وذو القَرنيْن، وكافران هما نَمْروذُ وبُخْتَ نَصَّرْ ـ وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أنّه النُمروذُ بنُ كوش بنُ كنعان بنُ حام بن نُوحٍ وَكَانَ مَلِكًا عَلَى السَّوَادِ "أي سواد العراق" وَكَانَ مَلَّكَهُ الضحّاكُ الذي يُعْرَفُ بالازْدهاقِ واسْمُهُ "بيوراسب بن أندراست" وَكَانَ مَلِكَ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَهُوَ الَّذِي قتله أفريدون بن أثفيان، وفية يقول حبيب بنُ أوس الطائي (أبو تمام): وَكَأَنَّهُ الضَّحَّاكُ مِنْ فَتَكَاتِهِ ................ فِي الْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أَفْرِيدُونُوَكَانَ الضَّحَّاكُ طَاغِيًا جَبَّارًا وَدَامَ مُلْكُهُ أَلْفَ عَامٍ فِيمَا ذَكَرُوا. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ وَأَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، وَذكروا فِي قَصَّةِ هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ أنّهم خرجوا إلى عيدٍ لهم فدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَكَسَّرَهَا، فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ لَهُمْ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ فَقَالُوا: فَمَنْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: أَعْبُدُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ نُمْرُوذَ كَانَ يَحْتَكِرُ الطَّعَامَ فَكَانُوا إِذَا احْتَاجُوا إِلَى الطَّعَامِ يَشْتَرُونَهُ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ، فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ فَلَمْ يسجد له، فقال: ما لَكَ لَا تَسْجُدُ لِي! قَالَ: أَنَا لَا أَسْجُدُ إِلَّا لِرَبِّي. فَقَالَ لَهُ نُمْرُوذُ: مَنْ رَبُّكَ!؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَذَكَرَ زيد بنُ أَسْلَمٍ أنّ النمروذَ هذا قَعَدَ يَأْمُرُ للنَّاسَ بِالْمِيرَةِ (الميرةُ جلبُ الطعامِ)، فَكُلَّمَا جَاءَ قَوْمٌ يَقُولُ: مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ أَنْتَ، فَيَقُولُ: مِيرُوهُمْ. وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْتَارُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذُ قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ الشَّمْسِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ لَا تَمِيرُوهُ، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إلى أهلِه دون شيءٍ فَمَرَّ عَلَى كَثِيبِ رَمْلٍ كَالدَّقِيقِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ مَلَأْتُ غِرَارَتَيَّ مِنْ هَذَا فَإِذَا دَخَلْتُ بِهِ فَرِحَ الصِّبْيَانُ حَتَّى أَنْظُرَ لَهُمْ، فَذَهَبَ بِذَلِكَ فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ فَرِحَ الصِّبْيَانُ وَجَعَلُوا يَلْعَبُونَ فَوْقَ الْغِرَارَتَيْنِ وَنَامَ هُوَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: لَوْ صَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا يَجِدُهُ حَاضِرًا إِذَا انْتَبَهَ، فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ فَوَجَدَتْ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُوَّارَى (الدقيق الأبيض، وهو لُبابُ الدقيق وأجوده وأخلصه) فَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا قَامَ وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي سُقْتَ. فَعَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسَّرَ لَهُمْ ذلك. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ النُّمْرُوذَ لَمَّا قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَرْسَلَ الْآخَرَ فَقَالَ: قَدْ أَحْيَيْتُ هَذَا وَأَمَتُّ هَذَا، فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الشَّمْسِ بُهِتَ. ثُمَّ أَمَرَ نُمْرُوذُ بِإِبْرَاهِيمَ فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَهَكَذَا عَادَةُ الْجَبَابِرَةِ فَإِنَّهُمْ إِذَا عُورِضُوا بِشَيْءٍ وَعَجَزُوا عَنِ الْحُجَّةِ اشْتَغَلُوا بِالْعُقُوبَةِ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَصَفَ رَبَّهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، قَصَدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَفَزِعَ نُمْرُوذُ إِلَى الْمَجَازِ وَمَوَّهَ عَلَى قَوْمِهِ، فَسَلَّمَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ تَسْلِيمَ الْجَدَلِ وَانْتَقَلَ مَعَهُ مِنَ الْمِثَالِ وَجَاءَهُ بِأَمْرٍ لَا مَجَازَ فِيهِ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أَيِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا الْآتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، لِأَنَّ ذَوِي الْأَلْبَابِ يُكَذِّبُونَهُ. قولُه جلَّ شأنُه: {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ} المُحاجَّةُ: المُقاوَمَةُ في إظهارِ الحُجَّةِ، أيْ مَحِجَّةِ الرُّشْدِ. وتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ. وَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} البقرة: 111. و{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} يونس: 68. أَيْ مِنْ حُجَّةٍ. وَقَدْ وَصَفَ خُصُومَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَمَا فِي سُورَةِ "الْأَنْبِيَاءِ" وَغَيْرِهَا. وَقَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} هود: 32. الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} هود: 35. وَكَذَلِكَ مُجَادَلَةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. فَهُوَ كُلُّهُ تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ وَالْمُجَادَلَةَ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا بِظُهُورِ حُجَّةِ الْحَقِّ وَدَحْضِ حُجَّةِ الْبَاطِلِ. وَجَادَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ الْكِتَابِ وَبَاهَلَهُمْ (المباهلةُ الملاعنة فيقال: لعنةُ الله على الظالمين) بَعْدَ الْحُجَّةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي "آلِ عِمْرَانَ". قَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: وَمِنْ حَقِّ الْمُنَاظَرَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا مَا تبين. وقالوا: لَا تَصِحُّ الْمُنَاظَرَةُ وَيَظْهَرُ الْحَقُّ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُتَقَارِبِينَ أَوْ مُسْتَوِيِينَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْإِنْصَافِ، وَإِلَّا فهو مِراءٌ ومُكابَرَةٌ.قولُه تعالى: {فبًهِتَ الذي كَفَرَ} بَهُتَ الرَّجُلُ وَبَهِتَ وَبُهِتَ وبَهَتَ وبَهُتَ إِذَا انْقَطَعَ وَسَكَتَ مُتَحَيِّرًا، والمَعْنَى فَبَهَتَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي كَفَرَ.قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي} تقدَّم نظيرُه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ} البقرة: 243. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: "تَرْ" بسكون الراء. والهاءُ في "ربه" فيها قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على "إبراهيم"، والثاني: تعودُ على "الذي".قوله: {أَنْ آتَاهُ الله} فيه وجهان، أظهرهُما: أنَّه مَفعولٌ مِن أجلِه على حَذْفِ حرفِ العلةِ، أي: لأنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ "أَنْ" الوجهان المشهوران، أعني النصبَ أو الجرَّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل "أَنْ" لأنَّ المفعولَ مِن أجلِه هنا نَقَّصَ شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ، وإنّما حُذِفَت اللام، لأنَّ حرفَ الجرِّ يَطَّردُ حَذْفُهُ معها ومع أنَّ. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان، أحدُهما: أنّه مِن بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنّه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك، ولكنّه عَمِلَ على عكس القضية، ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} الواقعة: 82، وتقول: "عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه" وهو باب بليغٌ. والثاني: أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك، لأنّه أَوْرَثَهُ الكِبْرَ والبَطَرَ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ.الوجه الثاني: أنَّ "أَنْ" وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان، والضمير في "آتاه" فيه وجهان، أحدُهما ـ وهو الأظهرُ ـ أن يعودَ على "الذي"، وأجاز المهدوي أنْ يَعودَ على "إبراهيم" أي: مَلَكَ النبوَّةَ. وهو قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ اللهَ تعالى قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} البقرة: 124. والمُلْك عهدٌ، ولقولِهِ تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} النساء: 54.قوله: {إِذْ قَالَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنّه معمولٌ لـ "حاجَّ". الثاني: أنْ يكونَ معمولاً لـ "آتاه". وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، إلّا أنْ يُتَجَوَّزَ في الظَرفِ. والثالث: أنْ يكونَ بدلاً من {أنْ آتاه الله المُلْك} إذا جُعِلَ بمعنى الوقت. وذكر بعضُهم أنّه بدلٌ من "أَنْ آتاه" وليس بشيءٍ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل "إذ" بمعنى "أَنْ" المصدريَّة، وقد جاء ذلك. وهذا بناء على أنَّ "أَنْ" مفعولٌ من أجله وليست واقعةً موقعَ الظرفِ، أمَّا إذا كانَتْ "أَنْ" واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط، بل بدلُ كلٍ من كلٍ، مع أنّه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ "أَنْ آتاه" و"أن آتاه" مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره. الرابع: أنَّ العاملَ فيه "تَرَ" من قوله: "ألم ترَ"، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسيرين المذكورين في نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.و{رَبِّيَ الذي يُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول. وقولُه: {قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المَحَلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن "أنا" بالجملةِ الفعلية، وعن "ربي" بالموصولِ بها، لأنَّه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإنّه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك.و"أنا" ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ، والاسمُ منه "أَنْ" والألفُ زائدةٌ لبيانِ الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً، فقيل: أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف. قال الأعشى: وكيفَ أنا وانتحالِ القوا .............. في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَاوقال حميد بن بحدل، شاعر إسلامي من قضاعة. عمَّتُه ميسون أمُّ يَزيد بن معاوية رضي الله عنه: أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني ................ حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناماوالصحيح أنّه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميمٍ، وهي إثباتُ أَلِفِه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: "أنا أُحيي" أو مفتوحةٍ نحو: {وَأَنَاْ أَوَّلُ} الأعراف: 143، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو: {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ} الشعراء: 115، وقراءةُ ابن عامر: {لكِنّا هُوَ الله رَبِّي} على ما سيأتي، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول: "أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف". واللغةُ الثانية: إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلّا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل "أنا" كلُّه ضمير. وفيه لغاتٌ: "أنا" و"أَنْ" و"آن"، وكأنّه قَدَّم الألفَ على النونِ فصار أان. قيل: إنَّ المُرادَ به الزمانُ، وقالوا: أنَهْ وهي هاءُ السكت، لا بدلٌ من الألف: قال: إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ ................ من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْوإنّما أثبتَ نافعٌ ألفَه قبل الهمزِ جمعاً بين اللغتين، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنّها حرفُ مدٍّ.قوله: {فَإِنَّ الله} هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ، بل كان تركيبُ الكلامِ: قال إبراهيم إنَّ الله يأتي. وقال أبو البقاء : دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي، هذا هو المعنى. والباءُ في "بالشمسِ" للتعديةِ، تقولُ: أَتَتِ الشمسُ، وأتى اللهُ بها، أي: أجاءها. و"من المشرق" و"مِن المغرب" متعلِّقان بالفعلَيْن قبلَهما.قوله: {فَبُهِتَ} الجمهورُ: "بُهِتَ" مبنياً للمفعول، والموصولُ مرفوعٌ به، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ، لأنّه المُناظِرُ له. ويُحْتملُ أنْ يكونَ الفاعلُ في الأصلِ ضميرَ المصدرِ المفهوم من "قال" أي: فَبَهَتَه قولُ إبراهيم. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: "فَبَهَتَ" بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أنْ يكونَ الفعلُ متعدِّياً، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم، و"الذي" هو المفعولُ، أي: فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ، أي غَلَبة في الحُجَّة، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ، أي: بَهَتَ الكافرُ إبراهيمَ أي: لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته. والثاني: أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ، والمعنى معنى بُهِت، فتتَّحدُ القراءتان، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان. وقرأ أبو حَيْوة: "فَبَهُتَ" بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ، والفاعلُ الموصولُ. وحكى الأخفش: "فَبُهِتَ" بكسر الهاء، وهو قاصرُ أيضاً. فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ: بَهَتَ بفتحهما، بَهُت بضم العين، بَهِت بكسرها، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً، قال: {فَتَبْهَتُهُمْ} الأنبياء: 40. والبَهْتُ: التحيُّر والدَّهَشُ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ، ومنه الحديث: ((إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ))، وذلك أنَّ الكَذِبَ يُحَيِّر المكذوبَ عليه. | |
|