وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي
الأَرْضِ مُفْسِدِينَ
(60)
إنَّ الذي قَدِرَ على إخراجِ الماءِ مِنَ الصَّخْرةِ الصَمَّاءِ كان قادراً على إروائهم بغيرِ ماءٍ ولكنْ لإظهارِ المُعجزةِ فيه.
ثم
أراد الحقُّ ـ سبحانَه ـ أنْ يكونَ كلُّ قومٍ جارياً على سُنَّته، ملازماً
لحَدّه، غير مُزَاحِمٍ لصاحبِه. وحين كفاهم ما طلبوا أمرَهُم بالشكر،
وحِفْظِ الأمرِ، وتَرْكِ اختيار الوِزر.
والمناهلُ
مختلفةٌ، والمشاربُ مُتفاوِتَةٌ، وكلٌّ يَرِدَ مَشْرَبه. فمَشْرَبٌ عَذْبٌ
فُراتٌ، ومشربٌ مِلْح أُجاج، ومشربٌ صافِ زلالٌ ... وسائقُ كلِّ قومٍ
يَقودُهم، ورائدُ كُلِّ طائفةٍ يَسوقُهم؛ فالنُّفوسُ تَرِدُ مناهلَ المُنى
والشَهَواتِ، والقُلوبُ تَرِدُ مشارِبَ التَّقوى والطاعاتِ، والأرواحُ
تَرِدُ مدارجَ الكَشْفِ والمُشاهدات، والأسرارُ تَرِدُ معارجَ الحقائقِ
بالاختِطافِ عن الكون والمرسومات، ثمَّ عنِ الإحساسِ والصِّفاتِ ثمّ
بالفناءِ في حقيقةِ الوجودِ والذاتِ.
{استسقى موسى لِقَوْمِهِ}
طَلَبَ وَسَأَلَ السَّقْيَ لِقَوْمِهِ. وفي الآيةِ تذكيرٌ بنِعمةٍ عظيمةٍ
كفروا بها، وكان ذلك في التِّيهِ لمّا عَطِشوا وقالوا: مَنْ لنا بالماءِ؟
فأُمِرَ موسى ـ عليه السلامُ ـ بِضرْبِ الحَجَرِ. وقد بسطنا لذلك في آنفًا
في الآيات السابقة.
والِاسْتِسْقَاءُ
إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عُدْمِ الْمَاءِ وَحَبْسِ الْقَطْرِ وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ
وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالذِّلَّةِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ.
وَقَدِ اسْتَسْقَى نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا مُتَخَشِّعًا
مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا وَحَسْبُكَ بِهِ! فَكَيْفَ بِنَا وَلَا تَوْبَةَ
مَعَنَا إِلَّا الْعِنَادَ وَمُخَالَفَةَ رَبِّ الْعِبَادِ فَأَنَّى
نُسْقَى! لَكِنْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله تعالى عنهما: ((.. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ
أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا
الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)). الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ.
وسُنَّةُ
الِاسْتِسْقَاءِ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى ـ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي
ذَكَرْنَا ـ وَالْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
سُنَّتِهِ صَلَاةٌ وَلَا خُرُوجٌ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ لَا غَيْرُ.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ. وَقالوا: لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ دُعَاءٌ
عُجِّلَتْ إِجَابَتُهُ فَاكْتُفِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ
بِذَلِكَ بَيَانَ سُنَّةٍ، وَلَمَّا قَصَدَ الْبَيَانَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ
حَسَبَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بن زيد الْمَازِنِيُّ قَالَ: خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى
فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} الْعَصَا: مَعْرُوفٌ وَقَدْ
يُعَبَّرُ بِالْعَصَا عَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَمِنْهُ
يُقَالُ فِي الْخَوَارِجِ: قَدْ شَقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ أَيْ
اجْتِمَاعَهُمْ وَائْتِلَافَهُمْ. وَانْشَقَّتِ الْعَصَا أَيْ وَقَعَ
الْخِلَافُ قَالَ لبيدُ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا .... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
أَيْ يَكْفِيكَ وَيَكْفِي الضَّحَّاكَ. وَقَوْلُهُمْ: لَا ترفع عصاك عن أهلِك يُرادُ بِهِ تأديبُهم. وَ"الْحَجَرُ" مَعْرُوف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْفَجَرَتْ}
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَقَدْ كَانَ
تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَفْجِيرِ الْمَاءِ وَفَلْقِ الْحَجَرِ مِنْ
غَيْرِ ضَرْبٍ لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْبِطَ الْمُسَبِّبَاتِ
بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً مِنْهُ لِلْعِبَادِ فِي وُصُولِهِمْ إِلَى
الْمُرَادِ وَلِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي
الْمَعَادِ. وَالِانْفِجَارُ: الِانْشِقَاقُ وَمِنْهُ انْشَقَّ الْفَجْرُ.
وَانْفَجَرَ الْمَاءُ انْفِجَارًا انْفَتَحَ. وَالْفُجْرَةُ: مَوْضِعُ
تَفَجُّرِ الْمَاءِ وَالِانْبِجَاسِ أَضْيَقُ مِنَ الِانْفِجَارِ لِأَنَّهُ
يَكُونُ انْبِجَاسًا ثُمَّ يَصِيرُ انْفِجَارًا. وَقِيلَ: انْبَجَسَ
وَتَبَجَّسَ وَتَفَجَّرَ وتفتق بمعنى واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً}
الْعَيْنُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُقَالُ: عَيْنُ الْمَاءِ
وَعَيْنُ الْإِنْسَانِ وَعَيْنُ الرُّكْبَةِ. وَعَيْنُ الشَّمْسِ.
وَالْعَيْنُ: سَحَابَةٌ تُقْبِلُ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ. وَالْعَيْنُ:
مَطَرٌ يَدُومُ خَمْسًا أَوْ سِتًّا لَا يُقْلِعُ. وَبَلَدٌ قَلِيلُ
الْعَيْنِ أَيْ قَلِيلُ النَّاسِ وَمَا بِهَا عَيَنٌ مُحَرَّكَةُ الْيَاءِ،
والْعَيْنُ: الثَّقْبُ فِي الْمَزَادَةِ. وَالْعَيْنُ مِنَ الْمَاءِ
مُشَبَّهَةٌ بِالْعَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْهَا
كَخُرُوجِ الدَّمْعِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ
عَيْنُ الْحَيَوَانِ أَشْرَفَ مَا فِيهِ شُبِّهَتْ بِهِ عَيْنُ الْمَاءِ
لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا فِي الْأَرْضِ.
لَمَّا
اسْتَسْقَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ أُمِرَ أن يضرب عند
استسقائه بعصاه حجرًا قيل: مُرَبَّعًا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الشَّاةِ
يُرْحَلُ بِهِ فَإِذَا نَزَلُوا وُضِعَ فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ وَذُكِرَ
أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْمِلُونَ الْحَجَرَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا
يَجِدُونَهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فِي مَنْزِلَتِهِ مِنَ الْمَرْحَلَةِ
الْأُولَى وَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْآيَةِ وَالْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
أَطْلَقَ لَهُ اسْمَ الْحَجَرِ لِيَضْرِبَ مُوسَى أَيَّ حَجَرٍ شَاءَ
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ بَيَّنَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ مُوسَى ثَوْبَهُ لَمَّا
اغْتَسَلَ وَفَرَّ بِثَوْبِهِ حَتَّى بَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا رَمَاهُ
بِهِ قَوْمَهُ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُنْفَصِلًا
مُرَبَّعًا تَطَّرِدُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ثَلَاثُ عُيُونٍ إِذَا ضَرَبَهُ
مُوسَى وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَاءِ ورحلوا جفت العيون.
ومَا
أُوتِيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
نَبْعِ الْمَاءِ وَانْفِجَارِهِ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنَ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ
فِي الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنَ
الْأَحْجَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَمُعْجِزَةُ
نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ لِنَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ لَحْمٍ
وَدَمٍ! رَوَى الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ وَالْفُقَهَاءُ الْأَثْبَاتُ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمْ نَجِدْ مَاءً فَأُتِيَ بِتَوْرٍ(إناءٌ يُشْرَبُ منه أو
يُتُوَضَّأُ) فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ
يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَيَقُولُ: ((حَيَّ عَلَى
الطَّهُورِ)). قَالَ الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي
الْجَعْدِ قَالَ قُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ:
أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. هذا لَفْظُ النَّسَائِيِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ}
يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنًا قَدْ عَرَفَهَا لَا
يَشْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْمَشْرَبُ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. وَقِيلَ:
الْمَشْرُوبُ. وَالْأَسْبَاطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي
الْعَرَبِ وَهُمْ ذُرِّيَّةُ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مِنْ تِلْكَ
الْعُيُونِ لَا يَتَعَدَّاهَا. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ لِلْحَجَرِ أَرْبَعَةُ
أَوْجُهٍ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ
عَيْنٌ لَا يُخَالِطُهُمْ سِوَاهُمْ. وَبَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ
سِبْطٍ خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ سِوَى خَيْلِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ. قَالَ
عَطَاءٌ: كَانَ يَظْهَرُ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ ضَرْبَةِ مُوسَى
مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْحَجَرِ فَيَعْرَقُ أَوَّلًا ثُمَّ
يَسِيلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا}
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْمُتَفَجِّرَ مِنَ الْحَجَرِ
الْمُنْفَصِلِ. {وَلا تَعْثَوْا} أَيْ
لَا تُفْسِدُوا. وَالْعَيْثُ: شِدَّةُ الْفَسَادِ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِبَاحَةُ النِّعَمِ وَتَعْدَادُهَا والنهي
عنالمعاصي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ}
كُسِرَتِ الذَّالُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. والسينُ للطلبِ على
وَجْهِ الدُّعَاءِ أي: سَأَل لهم السُّقيا، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ
لأنّه من السَّقْيِ، وقد تقدَّم معنى استفْعَلَ مستوفًى في أوّلِ السورة.
ويقال: سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه بمعنى قال لبيد:
سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى .................. نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ
وقيل:
سَقَيْتُه: أَعْطَيْتُه، ما يَشْرَبُ، وأَسْقَيْتُه جَعَلْتُ ذلك له
يَتناولُهُ كيف شاء، والإِسقاءُ أَبْلَغُ من السَّقْي على هذا، وقيل:
أَسْقَيْتُه دَلَلْتُه على الماءِ. "لقومِه"
متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة، أي: لأجلِ، أو تكونُ للبيان لَمَّا
كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم "سُقْياً لك" فتتعلَّقُ بمحذوفٍ
كنظيرتِها.
قولُه:
{اضْرِبْ بِّعَصَاكَ } الإِدغامُ هنا واجبٌ؛ لأنّه متى اجتمعَ مِثْلان في
كلمتيْنِ أو كلِمَةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ نحو: اضربْ بكرًا .
وألفُ "عصاك" منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النَّسَبِ إلى العصا: عَصَوِيٌّ، وفي التثنيةِ عَصَوانِ، قال ذو الرمَّة:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه: ......... على عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع:
عِصِيّ وعُصِيّ بضمِّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً، وأَعْصٍ، مثل: زَمَن
وأَزْمُن، والأصل: عُصُوو، وأَعْصُو، فَأُعِلَّ. وعَصَوْتُه بالعَصا
وعَصَيْتُه بالسيفِ، و"ألقى عصاه" يُعَبَّر به عن بُلوغ المنزلِ، قال
مُعَقِّرُ بنُ حِمارٍ البارقيُّ يصف امرأَةً كانتْ لا تَسْتَقِرُ على زَوْج
كلما تَزَوَّجت رجلاً فارَقتْه واسْتَبْدلتْ آخرَ به ولم تُواتِه ولم
تَكْشِفْ عن رأْسِها ولم تُلْقِ خِمارَها وكان ذلك علامةَ إبائِها، ثم
تَزَوَّجها رجُلٌ فرَضِيتْ به وأَلْقَتْ خِمارها وكَشفتْ قِناعَها:
فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى ....... كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ
ونُسِبَ
هذا البَيتُ أيضًا لعبدِ رَبِّه السلمي، ولسُلَيْم بن ثُمامَة الحَنَفي.
وانشقَّت العصا بين القومِ أي: وقع الخلافُ، قال جرير:
إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا .... فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ
قال الفراء: أوَّلُ لَحْنٍ سُمِع بالعراقِ هذه عصاتي يعني بالتاء، و"الحَجَرَ" مفعولٌ و"أل" فيه للعهدِ، وقيل: للجنسِ.
قوله: {فانفجرت} فـ:
عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه، تقديرُه: فَضَرَبَ فانفجَرَت، وقال ابنُ
عصفور: إنّ هذه الفاءَ الموجودةَ هي الداخلةُ على ذلك الفعلِ المحذوفِ،
والفاءُ الداخلةُ على "انفجَرتْ"
محذوفةٌ. وكأنّه يقولُ: حُذِفَ الفعلُ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه،
وحُذِفَتِ الفاءُ الثانيةُ لدلالةِ الأولى عليها. ولا حاجةَ تَدْعُو إلى
ذلك، بل يُقال: حُذِفَتْ الفاءُ وما عَطَفَتْه قبلها. وجَعَلَها الزمخشري
جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ، قال: أو: فإنْ ضَرَبْتَ فقد انفجرَتْ، قال: وهي على
هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقعُ إلَّا في كلامٍ بليغ، وكأنّه يُريدُ تفسيرَ المعنى
لا الإِعرابِ. والانفجارُ: الانشقاقُ والتفتُّح، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه
بالضوءِ.
قوله: {اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} فاعل "انفجرت"،
والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى، وليس بمثنَّى حقيقةً
إذ لا واحد له من لفظِه، وكذلك مذكَّرهُ "اثنان" ولا يُضاف إلى تمييز
لاستغنائِه بذكر المَعدودِ مثنَّى، تقول: رجلان وامرأتان، ولا تقول: اثنا
رجلٍ ولا اثنتا امرأةٍ، إلّا ما جاءَ نادراً فلا يُقاسُ عليه: قال خطامٌ
المجاشعي:
كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ................. ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَل
وهو من أبيات هي من نوادر الرجز، وتمامُها:
يا رُبَّ بيضاء بوعسِ الأرْمَلِ ................. شبيهةَ العينِ بعيْنَيْ مِغْزَلِ
فيها طِماحٌ عن حَليلٍ حَنْكَلِ ................... وهي تُداري ذاكَ بالتَجَمُّلِ
قد شَفَعَتْ بناشئٍ هَبَرْكَلِ ..................... يَنْفُضُ عِطْفَيْ خَضِلٍ مُرَجِّلِ
يُحْسَبُ مُختالاً وإلَّمْ يَخْتَلِ ....................... دَسَّ إليها بِرسولٍ مُجْمِلِ
عن كيف بالوصل لكمْ أمْ كيفَ لي ........ فلم تَزَلْ عن زَوجِها المُخْتَشِلِ
ابعثْ وكُنْ في الرائحين أو كُلِ .................. وكلُّ ما أَكَلْتَ في مُحَلَّلِ
وأَوْقِرَنْ ـ يا هُدِيتَ ـ جَمّلي ............. حتّى إذا دَبَّ الرِّضا في المِفْصَلِ
من الرِّضا جَنَعْدَلِ التَّكَتُّلِ ........................ كأنَّ خِصْيَيْهِ مِن التَّدَلْدُلِ
ظَرْفَ عَجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَلِ ................... لمّا غَدا تَبَهَّلتْ: لا تَأْتَلي
عن: رَبِّ يا ربِّ عليه عَجِّلِ ....................... بِرَهْصَةٍ تَقْتُلُهُ أو دُمَّلِ
أو حَيَّةٍ تَعَضُّ فوقَ المِفْصَلِ
فقولُه:
كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ، أَذَمُّ ذَمٍّ يَكونُ في الشيخ.
وذلك أنّهما يَتَدَلَّيانِ مِنَ الكِبَرِ. وثِنْتان مثلُ اثنتين، وحكمُ
اثنين واثنتين في العددِ المركب أنْ يُعْرَبا بخلافِ سائرِ أخواتهما،
قالوا: لأنّه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المُعرَبِ عند الإِضافة وهي
النونُ فأشْبَهَا المُعرَبَ فأُعْرِبا كالمُثنّى بالأَلِف رفعاً وبالياءِ
نَصْبّاً وجَرَّاً، وأمَّا "عَشْرة" فمَبْنِيٌّ لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و"عَيْناً" تمييز.
وقُرئ:
"عَشِرة" بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ، قال النحاس: "وهذا عجيبٌ فإنَّ لغةَ
تميم عَشِرة بالكسر، وسبيلُهم التخفيفُ، ولُغةَ الحجازِ عَشْرة بالسّكونِ
وسبيلُهم التثقيلُ. وقرأ الأعمشُ: عَشَرة بالفتح.
قوله: {كُلُّ أُنَاسٍ}
قد تقدَّم الكلامُ على أنّه أصلُ الناس. وقال الزمخشري في سورة الأعراف:
إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسيرٍ، ثم قال: ويجوز أنْ يكونَ الأصلُ الكسرَ،
والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من الفتحة.
قوله: {مَّشْرَبَهُمْ} مفعولٌ لـ "عَلِمَ" بمعنى عَرَف، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ؛ وقيل: هو نفسُ المشروب. فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به.
والعِثِيُّ
والعَيْثُ: أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان. وقال بعضُهم: "إلاَّ أنَّ
العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ
حُكْماً، يقال: عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ، وعثا يَعْثُوا
عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً، وليس عاثَ مقلوباً من عثى كَجَبَذَ وجَذَبَ
لتفاوتِ مَعنَيَيْهما كما تقدَّم، ويُحْتمل ذلك، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ
بنوعٍ. ويُقال: عَثِيَ يَعثى عِثِيّاً ومَعَاثاً، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ،
فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها كَرَضِيَ مِنَ الرُّضوانِ
لثُبوتِ العِثِيّ وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك. وعَثَا كما تقدَّم، ويقال:
عَثَّ يَعُثُّ مضاعفاً أي فَسَدَ، ومنه: العُثَّةُ سُوسةٌ تُفْسِدُ الصوفَ،
وأمَّا "عَتَا" بالتاءِ المثنَّاة فهو قريبٌ من معناه وسيأتي الكلامُ
عليه.
و"مُفْسدين"
حالٌ من فاعل "تَعْثَوْا"، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، لأنَّ معناها قد فُهِم من
عامِلها، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين، ومثله: {ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ} التوبة: 25، هكذا قالوا: ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً،
لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم، ولهذا قال الزمخشري:
فقيل لهم: لا تَتَمادَوا في الفسادِ في حالِ فَسادِكم، لأنّهم كانوا
متمادِيْنَ فيه، فغايَر بينهما كما ترى.
وقولُهُ: {فِي الأرض} يَحْتمل أن يتعلَّق بـ "تَعْثَوْا" وهو الظاهرُ، وأنْ يَتَعلَّقَ بمفسدين.
قوله: {كُلُواْ واشربوا} هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ، تقديرُه: وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا، وقد تقدَّم تصريفُ "كُلْ" وما حُذِف منه.
قولُه: {مِن رِّزْقِ الله}
هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه،
وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ، والتقديرُ: وكُلوا منه. و"مِنْ"
يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ، ويجوزُ أن يكونَ
مفعولُ الأكلِ محذوفاً، وكذلك مفعولُ الشُّرْب، للدَّلالةِ عليهما،
والتقديرُ: كُلوا المَنَّ والسَّلْوى، لتقدُّمِهما في قوله: {وَأَنزَلْنَا
عَلَيْكُمُ المن والسلوى} البقرة: 57. واشرَبوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ،
وعلى هذا فالجارُّ والمجرورُ يُحْتمل تعلُّقُه بالفعلِ قبله، ويُحْتمل أن
يكونَ حالاً من ذلك المفعولِ المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. وقيل: المرادُ
بالرزق الماءُ وحدَه، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماءِ ما
يُؤكل وحياتِهِ، فهو رِزْقٌ يُؤْكَلُ منه ويُشْرَبُ، والمُرادُ بالرزقِ
المَرْزُوقُ، وهو يَحْتَمل أنْ يَكونَ من بابِ ذِبْحٍ ورِعْيٍ، وأن يكونَ
من باب "درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ".
قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أصلُ "تَعْثَوا":
تَعْثَيُوا، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ
فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما
قبلَها فُلِبَت ألفاً، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ
تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى، فوزنُه تَفْعُون.