كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} أَيْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد ، وهو المروي عن أُبيّ بن كعب أو بين آدم وإدريس عليهما السلام. فاختلفوا فبعث اللهُ النبيين ..
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَنُو آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ نَسَمًا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَقَرُّوا له بالوحدانية. قال مُجَاهِدٌ: النَّاسُ آدَمُ وَحْدَهُ، وَسُمِّيَ الْوَاحِدُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسْلِ. وَقِيلَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْقُرُونُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَهِيَ عَشَرَةٌ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى اخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا فَمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: منذ خلق الله آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ أَلْفُ سَنَةٍ وَمِائَتَا سَنَةٍ. وَعَاشَ آدَمُ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، مُتَمَسِّكِينَ بِالدِّينِ، تُصَافِحُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ رُفِعَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاخْتَلَفُوا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ إِدْرِيسَ بَعْدَ نُوحٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْكَلْبِيُّ وَالْوَاقِدِيُّ: الْمُرَادُ نُوحٌ وَمَنْ فِي السَّفِينَةِ، وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاةِ نُوحٍ اخْتَلَفُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْكُفْرِ، يُرِيدُ فِي مُدَّةِ نُوحٍ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّةً وَاحِدَةً، كُلُّهُمْ كُفَّارٌ، وَوُلِدَ إِبْرَاهِيمُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ. فَـ"كَانَ" عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْمُضِيِّ الْمُنْقَضِي. وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَ النَّاسَ فِي الْآيَةِ مُؤْمِنِينَ قَدَّرَ فِي الْكَلَامِ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ: "وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ" أَيْ كَانَ النَّاسُ عَلَى دِينِ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَى. وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَهُمْ كُفَّارًا كَانَتْ بَعْثَةُ النَّبِيِّينَ إِلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "كانَ" لِلثُّبُوتِ، وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ هُمُ الْجِنْسُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ، وَجَهْلِهِمْ بِالْحَقَائِقِ، لَوْلَا مَنُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَفَضُّلُهُ بِالرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. فَلَا يَخْتَصُّ "كانَ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِالْمُضِيِّ فَقَطْ، بَلْ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً". وَ"أُمَّةً" مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَمْتُ كَذَا، أَيْ قَصَدْتُهُ، فَمَعْنَى"أُمَّةً" مَقْصِدُهُمْ وَاحِدٌ، وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ: أُمَّةٌ، أَيْ مَقْصِدُهُ غَيْرُ مَقْصِدِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ: "يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ". وَكَذَلِكَ قال في زيد بن عمر وابن نُفَيْلٍ. وَالْأُمَّةُ الْقَامَةُ، كَأَنَّهَا مَقْصِدُ سَائِرِ الْبَدَنِ. وَالْإِمَّةُ (بِالْكَسْرِ): النِّعْمَةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ قَصْدَهَا. وَقِيلَ: إِمَامٌ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ قَصْدَ مَا يَفْعَلُ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "كَانَ الْبَشَرُ أُمَّةً وَاحِدَةً" وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ". قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} وَجُمْلَتُهُمْ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَالرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وأول الرسل آدم، على مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، أَخْرَجَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ. وَقِيلَ: نُوحٌ، لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: إِدْرِيسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي"الْأَعْرَافِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الكِتابَ} اسْمُ جِنْسٍ المراد به التوراة. و{لِيَحْكُمَ} مُسْنَدٌ إِلَى الْكِتَابِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، أَيْ لِأَنْ يَحْكُمَ، وَهُوَ مَجَازٌ مِثْلَ "هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ". وَقِيلَ: أَيْ لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بِكِتَابِهِ، وَإِذَا حَكَمَ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّمَا حَكَمَ الْكِتَابُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيَحْكُمَ اللَّهُ، وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ. وَ"أُوتُوهُ" أُعْطُوهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ وَمَا اخْتَلَفَ فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا الَّذِينَ أُعْطُوا عِلْمَهُ. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أَيْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا لِلْبَغْيِ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى السَّفَهِ في فعلهم، والقبح الذي واقعوه. و"فَهَدَى" مَعْنَاهُ أَرْشَدَ، أَيْ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِلَى الْحَقِّ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَ بَعْضُهُمْ كِتَابَ بَعْضٍ، فَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ اللَّهَ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مِنْ قِبْلَتِهِمْ، فَإِنَّ الْيَهُودَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالنَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَلِلْيَهُودِ غَدٌ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ)) وَمِنْ صِيَامِهِمْ، وَمِنْ جَمِيعِ ما اختلفوا فيه.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى فَجَعَلَتْهُ الْيَهُودُ لِفِرْيَةٍ، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا، فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ جَعَلُوهُ عبد الله. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ وَتَقْدِيرُهُ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَدَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفُ أَنْ يَحْتَمِلَ اللَّفْظُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَعَسَاهُ غَيْرَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ. وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: "مِنَ الْحَقِّ" جِنْسُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَقُدِّمَ لَفْظُ الِاخْتِلَافِ عَلَى لَفْظِ الْحَقِّ اهْتِمَامًا، إِذِ الْعِنَايَةُ إِنَّمَا هِيَ بِذِكْرِ الِاخْتِلَافِ.
قوله: {بِإِذْنِهِ} مَعْنَاهُ بِأَمْرِهِ، وَإِذَا أَذِنْتَ فِي الشَّيْءِ فَقَدْ أَمَرْتَ بِهِ، أَيْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَبْدَ يستبدّ بهداية نفسه.
قولُه تعالى: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالان من "النبيين".
قوله: {مَعَهُمُ} المرادَ بالإِنزالِ الإِرسالُ ، لأنّه مُسَبِّبٌ عنه، كأنه قيل: وأرسلَ معهم الكتابَ فتصِحُّ مشاركتُهم له في الإِنزالِ بهذا التأويلِ. والألفُ واللامُ في "الكتاب" يجوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ بمعنى أنه كتابٌ معينٌ كالتوراةِ مثلاً، فإنّها أُنْزِلَتْ على موسى وعلى النبيين بعدَه، بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستداموا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزلَ مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنسِ. وهذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِهِ: "فَبَعَثَ" لا يُقال: البشارة والنِّذارة ناشئةٌ عن الإِنزال فكيفَ قُدِّما عليه؟ لأنا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يكونَان بإنزالِ كتابٍ، بل قد يكونَانِ بوحيٍ من اللَّهِ تعالى غير مَتْلُوٍّ ولا مَكْتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما لأنهما حالان من "النبيين" فالأَوْلَى اتَّصالُهُما بهم.
قوله: {بالحق} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ متعلِّقاً بمحذوف على أنه حالٌ من الكتابِ أيضاً عند مَنْ يُجَوِّزُ تعَدُّدَ الحالِ وهو الصحيحُ. والثاني: أن يتعلَّق بنفسِ الكتابِ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ. والثالث: أن يتعلَّق بأنزالَ، وهذا أَوْلَى لأنَّ جَعْلَه حالاً لا يَسْتَقِيم إلّا أَنْ يكونَ حالاً مؤكدةً، إذ كُتُب اللَّهِ تعالى لا تكونُ ملتبسةً بالحقِّ، والأصلُ فيها أَنْ تكونَ منتقلةً، ولا ضرورةَ بنا إلى الخروج عن الأصلِ. ولأنَّ الكتابَ جارٍ مَجْرى الجوامِدِ.
قوله: {لِيَحْكُمَ} هذا الجارُّ متعلقٌ بقوله: "أنزل" واللامُ للعلةِ. وفي الفاعلِ المضمرِ في "ليحكم" قولان، الأول: وهو الأظهرُ، أنّه يعودُ على اللَّهِ تعالى لتقدُّمِهِ في قوله: "فَبَعَثَ الله" ولأنَّ نسبةَ الحكمَ إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجَحْدَرِي: "لنحكمَ" بنون العظَمَةِ، وفيه التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلُّمِ. والثاني: أنّه يعودُ على "الكتاب" أي: ليحكم الكتابُ، ونسبةُ الحكم إليه مجازٌ كنسبةِ النطق إليه في قوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} الجاثية: 29، ونسبةُ القضاء إليه في قوله:
ضَرَبَتْ عليكَ العنكبُوتُ بنَسْجِها .... وقضى عليك به الكتابُ المُنَزَّلُ
ووجهُ المجازِ أنَّ الحكمَ فيه فَنُسِبَ إليه.
و{بين} متعلق بـ "يَحْكم". والظرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك "فيما اختلفوا" متعلقٌ به أيضاً. و"ما" موصولةٌ، والمرادُ بها الدين، أي:ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أن كانوا متفقين عليه. ويَضْعُفُ أن يُرَادَ بـ "ما" النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لأنها لغير العقلاءِ غالباً. و"فيه" متعلِّقٌ بـ "اختلفوا"، والضميرُ عائدٌ على "ما" الموصولةِ.
قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ} الضمير في "فيه" فيه أوجهٌ، أظهُرها: أنه
عائدٌ على "ما" الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في "أُوتُوه". وقيل: يعودان على الكتابِ، أي: وما اخْتَلَفَ في الكتاب إلا الذين أُوتوا الكتابَ. وقيل: يعودان على النبيِّ. أي: وما اختلفَ في النبيّ إلّا الذين أُوتوا علمَ نبوتِه. وقيل: يعودُ على عيسى ـ عليه السلام ـ للدلالةِ عليه.
قوله: {مِن بَعْدِ} فيه وجهانِ، أحدُهما: وهو الصحيحُ، أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُهُ: اختلفوا فيه مِنْ بَعْد. والثاني: أنه متعلِّقٌ بـ "اختلف" الملفوظِ به، ولا تَمْنَعُ "إلاَّ" من ذلك، كما تقول: "ما قام إلّا زيدٌ يومَ الجمعة". و"إلا" لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ، وذلك أنَّ "إلاَّ" مُعَدِّيَةٌ للفعلِ، ولذلك جازَ تَعَلُّقُ ما بعدها بما قبلَها، فهي كواوِ مع وهمزة التعدية، فكما أن واو "مع" وهمزة التعدية لا يُعَدِّيان الفعلَ لأكثرَ من واحدٍ، إلاَّ مع العطفِ، أو البدليةِ كذلك "إلّا". من ذلك قولُه سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي} النحل: 43 ــ 44.
ثم قال: "بالبينات"، فظاهر هذا أن "بالبينات" متعلقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِيَ بـ "إلّا" شيئان، أحدُهما "رجالاً" والآخرُ "بالبينات". وتأويلُه أنَّ "بالبينات" متعلِّقٌ بمحذوفٍ.
قوله: {بَغْياً} في نصبِهِ وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ من أجلِهِ لاستكمالِ الشروطِ، هو علةٌ باعثةٌ. والعامِلُ فيه مضمرٌ على ما اخترناه، وهو الذي تُعَلّقُ به "فيه" و"اختلف" المفلوظُ به عند مَنْ يرى أنَّ "إلاَّ" يُسْتثنى بها شيئان. والثاني: أنّه مصدرٌ في محلِّ حالٍ أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّم. و"بينهم" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنّه صفةٌ لـ "بغياً".
أي: بَغْياً كائناً بينهم.
قوله: {لِمَا اختلفوا فِيهِ} لِما" متعلِّقٌ بـ "هَدَى" وما موصولةٌ، والضمِيرُ في "اختلفوا" عائدٌ على "الذين أوتوه"، وفي "فيه" عائدٌ على "ما" وهو متعلِّقٌ بـ "اختلف".
و{مِنَ الحق} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنّه في موضعِ الحالِ من "ما" في "لِما". و"مَنْ" يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ وأن تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك تقديرُهُ: الذي هو الحق. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ "مِنَ الحق" حالاً من الضميرِ في "فيه" والعامِلُ فيها "اختلفوا". وزعم الفراء أنَّ في الكلامِ قَلْباً والأصلُ: "فَهَدى الله الذينَ آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا" واختاره الطبري. وقال ابن عطية: "ودعَاه إلى هذا التقديرِ خَوْفُ أن يحتملَ اللفظُ أنهم اختلفوا في الحقِّ، فهدى الله المؤمنين لبعضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاهُ أن يكونَ غيرَ حقٍ في نفسِهِ" قال: والقلبُ في كتابِ اللَّهِ دونَ ضرورةٍ تدفعُ إليه عجزٌ وسوءُ فهمٍ.
وهذا الاحتمالُ الذي جَعَلَه ابنُ عطية حاملاً للفراء على ادعاءِ القلبِ لا يُتَوَهَّمُ أصلاً.
قوله: {بِإِذْنِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "الذين آمنوا" أي: مأذوناً لهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمرهِ.