قَرأَ العامَّةُ: {إلى مَيْسَرَةٍ} بفتح السينِ، وقرَأَ نافعٌ وحدَهُ: "مَيْسُرَةٍ" بِضَمِّها، والفتحُ هو المشهورُ إذ مَفْعَل ومَفْعَلَةٌ بالفتحِ كثيرٌ، ومَفْعُلٌ بالضمِّ معدومٌ إلّا عِنْدَ الكسائيِّ، وأَمّا مَفْعُلَةٌ فقليلٌ جِدًّا وهي لُغَةُ الحِجازِ، وقدْ جاءَتْ مِنْها أَلفاظٌ نَحْوَ: المَسْرُقَة والمَقْبُرَةِ والمَشْرُبة، والمَسْرُبة والمَقْدُرَة والمَأْدُبَة والمَفْخُرَة والمَزْرُعة ومَعْوُلَةٌ ومَكْرُمَةٌ ومَأْلُكةٌ.
وقد رَدَّ النَّحَّاسُّ الضَمَّ تجرُّؤًا منْه، وقال: لم تَأْتِ مَفْعُلةٌ إلّا في حروفٍ مَعدودةٍ ليس هذِهِ مِنْها، وأَيضًا فإنَّ الهاءَ زائدةٌ ولم يَأْتِ في كلامِهِ مَفْعُلٌ البَتَّةَ. وقال سِيبَوَيْهِ: ليس في الكلامِ مَفْعُل. قال أَبو علي: يعني في الآحادِ. وقد حُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ "مَهْلَك" مثلَّثَ اللَّام. وقال الكَسائيُّ: "مَفْعُل" في الآحادِ، وأوردَ منه "مَكْرُمًا" في قولِ الشاعِرِ أَبِي الأَخْزَرِ الحمَّانِيِّ:
نِعْمَ أخُو الهَيْجَاءِ في اليَومِ اليَمي ............ لِيَوْمِ رَوْعٍ أو فَعَالِ مَكْرُمِ
وك "مَعْوُن" في قولِ جميلِ بْنِ معمر:
بُثَيْنُ الْزَمي "لا" إنَّ لا إنْ لَزِمْتِهِ ...... على كثرةِ الواشين أيُّ مَعْوُنِ الدُرِّ
وك "مَأْلُكًا" في قولِ عَدِيٍّ:
أَبْلِغِ النعمانَ عني مَأْلُكًا ................. أَنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
وهذا لا يَرِدُ على سيبويهِ لوجهين، أحدُهما: أَنَّ هَذَا جَمْعٌ لِ "مَكْرُمَة" و "مَعُونَة" وَ "مَأْلُكَة"، وإِلَيْهِ ذَهَبَ البَصْريُّون والكوفِيُّونَ خَلَا الكَسائيُّ، ونُقِلَ عن الفراءِ أَيْضًا. والثاني: أَنَّ سِيبَوَيْهِ لا يَعتَدُّ بالقَليلِ فَيَقول: لم يَرِدْ كذا. وإنْ كان قد ورَدَ مِنْهُ الحَرْفُ والحَرْفانِ، لِعَدَمِ اعْتِدادِهِ بالنَّادِرِ القَليلِ. وإذا تَقَرَّر هذا فَقَدْ خَطَّأَ النَّحْوِيُّون مُجاهِدًا وعَطاءً في قراءتِهِما: "إلى مَيْسُرِهِ" بإضافةِ "مَيْسُر" مَضْمومِ السِّينِ إِلى ضَميرِ الغَريمِ، لأَنَّهم بَنَوْهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ في الآحادَ مَفْعُل، ولا يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ هَذا خَطَأً، لأَنَّهُ عَلَى تقديرِ تَسْلِيمِ أَنَّ مَفْعُلًا لَيْسَ في الآحادِ، فَ "مَيْسُر" هُنَا لَيْسَ واحِدًا، إنَّما هو جَمْعُ مَيْسُرَةٍ كَمَا قُلْتُم أَنْتُم: إِنَّ "مَكْرُمًا" جَمْعُ "مَكْرُمَة" ونحوِهُ، أَوْ يَكونُ قَدْ حَذَفَ تاءَ التأنيثِ للإِضافةِ كقولِ زُهَيْرِ بْنِ أبي سُلْمَى:
إنَّ الخَليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانْجَرَدوا .... وأَخْلَفوكَ عِدَ الأَمْرِ الذي وَعَدوا
أَيْ: عِدَّةَ الأَمْرِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أَنَّهم نَقَلوا عَنْهُما أَنَّهُما قَرَآ أَيْضًا: "إلى مَيْسَرِهِ" بِفَتْحِ السِّينِ مُضافًا لِضَميرِ الغَريمِ، وهذَهِ القِراءَةُ نَصٌّ فيما ذَكَرْناهُ مِنْ حَذْفِ تاءِ التَأْنِيثِ للإِضافَةِ لِتُوافِقَ قِراءَةَ العامَّةِ: "إلى مَيْسَرَةٍ" بتاءِ التَأْنيثِ.
وقدْ خَرَّجَها أَبُو البَقاءِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وهوَ أَنْ يَكونَ الأَصْلُ: "مَيْسُورِه" فَخُفِّفَ بِحَذْفِ الواوِ اكْتِفاءً بِدَلالَةِ الضَّمَّةِ عَلَيْها، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ ما هذَا عَلَى ضَعْفَهِ بقراءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ، فإنَّهُ قَرَأَ: إلى "مَيْسُورِهِ" بإضافةِ "ميْسورِ" للضَميرِ، وهوَ مَصْدَرٌ عَلى وزنِ "مَفَعْولٍ" كالْمَجْلودِ والمَعْقُولِ، وهَذا إِنَّما يَتَمَشَّى عَلَى رَأْيِ الأَخْفَشِ، إِذْ أَثْبَتَ مِنَ المَصَادِرِ زِنَةَ "مَفْعُولٍ"، ولم يُثْبِتْه سِيبَوَيْهِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَأَنْ تَصَّدَّقُواْ} بتثقيلِ الصادِ، وقَرَأَ عَاصِمٌ:"وأن تَصَدَقوا" بتخفيفِها، وأَصْلُ القِراءَتَيْنِ واحِدٌ، إِذِ الأَصْلُ: "تَتَصَدَّقُوا"، فَحَذَفَ عاصِمٌ إِحْدَى التاءَيْنِ، إمَّا الأُولى وإِمَّا الثانِيَةِ، وغيرُهُ أَدْغَمَ التَّاءَ في الصَّادِ، وبِهَذا الأَصْلِ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ بنُ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: "تَتَصَدَّقوا" وحُذِفَ مفعولُ التَصَدُّقِ للعِلْمِ بِهِ، أَيْ: بالإِنظار. وقيل: بِرَأْسِ المالِ عَلَى الغَريمِ.