فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَاسِكُ الذَّبَائِحُ وَهِرَاقَةُ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ: هِيَ شَعَائِرُ الْحَجِّ، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم)). المعنى: فَإِذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ. وَأَبُو عَمْرٍو يُدْغِمُ الْكَافَ فِي الْكَافِ، وَكَذَلِكَ "مَا سَلَكَكُمْ" لأنهما مثلان. و"قَضَيْتُمْ" هُنَا بِمَعْنَى أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ" الجمعة: 10 أَيْ أَدَّيْتُمُ الْجُمُعَةَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْقَضَاءِ عَمَّا فُعِلَ مِنَ الْعِبَادَاتِ خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا.
قوله تعالى: "فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ" كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَضَتْ حَجُّهَا تَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَتُفَاخِرُ بِالْآبَاءِ، وَتَذْكُرُ أَيَّامَ أَسْلَافِهَا مِنْ بَسَالَةٍ وَكَرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ، عَظِيمَ الْجَفْنَةِ ـ القصعة الكبيرة ـ كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنَ الْتِزَامِهِمْ ذِكْرَ آبَائِهِمْ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: مَعْنَى الْآيَةِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ الْأَطْفَالِ آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ: أَبَهْ أُمَّهْ، أَيْ فَاسْتَغِيثُوا بِهِ وَالْجَئُوا إِلَيْهِ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي حَالِ صِغَرِكُمْ بِآبَائِكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ اذْكُرُوا اللَّهَ وَعَظِّمُوهُ وَذُبُّوا عَنْ حَرَمِهِ، وَادْفَعُوا مَنْ أَرَادَ الشِّرْكَ فِي دِينِهِ وَمَشَاعِرِهِ، كَمَا تَذْكُرُونَ آبَاءَكُمْ بِالْخَيْرِ إِذَا غَضَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَتَحْمُونَ جَوَانِبَهُمْ وَتَذُبُّونَ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ الْيَوْمَ لَا يَذْكُرُ أَبَاهُ، فَمَا مَعْنَى الْآيَةِ؟ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ أَنْ تَغْضَبَ لله تعالى إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ لِوَالِدَيْكَ إِذَا شُتِمَا. قَالَوا كانت العرب في الجاهلية تدعوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَقَطْ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ وَالظَّفَرَ بِالْعَدُوِّ، وَلَا يَطْلُبُونَ الْآخِرَةَ، إِذْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ الدُّعَاءِ الْمَخْصُوصِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَجَاءَ النَّهْيُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ هَذَا الْوَعِيدُ الْمُؤْمِنَ أَيْضًا إِذَا قَصَرَ دَعَوَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا فَـ "مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ" أَيْ كَخَلَاقِ الَّذِي يَسْأَلُ الْآخِرَةَ وَالْخَلَاقُ النَّصِيبُ.
قوله تعالى: {مَّنَاسِكَكُمْ} جمعُ "مَنْسَك" بفتحِ السين وكسرِها، وقد تقدَّم اشتقاقُها قريباً. والقُراء على إظهار هذا، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً "مناسككم" ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو: {جِبَاهُهُمْ} التوبة: 35 و{وُجُوهُهُمْ} آل عمران: 106.
قوله:{كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله:{كَمَا هَدَاكُمْ} البقرة:198 إلاَّ في كونِها بمعنى "على" أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفت إليه. والجمهورُ على نصبِ "آباءكم" مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل. وقرأ محمد بن كعب: "آباؤكم" رفعاً، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه. ورُوِيَ عنه أيضاً: "أباكم" بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُد أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري "أباك" ونحوَهُ مُجرى المقصورِ.
قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} يجوزُ في "أشد" أنْ يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على "ذكِركم" المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُه: أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً. والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري: أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه: "كذكركم" كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً" وهذا معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ "أشد" من صفات الذاكرين، إلّا أنّ فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة.
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ، أحدُه: أن يكونَ معطوفاً على "آباءكم" قال الزمخشري، فإنه قال: "بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم، على أن "ذِكْراً" من فِعْلِ المذكور وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ، فقولُه: "هو معطوفٌ على آباءكم" معناه أنك إذا عَطَفْتَ "أشدّ" على "آباءكم" كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم، فكان القومُ مذكورين، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد "أشدَّ" هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكورين، لأنه جاء بعد "أَفْعَلَ" الذي هو صفةٌ للقومِ، ومعنى "من آبائِكم" أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في "كذكركم" لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدَّ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم: شعرٌ شاعِرٌ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني.
الثالث: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ، تقديرُه: فاذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكروه بالغين في الذِّكْر.
الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون، ذلك أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: "فاذكروا الله" أي: كونوا ذاكِريه، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز.
الخامس: أن يكون "أشدَّ" نصباً على الحال من "ذِكْراً" لأنّه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له، كقوله:
لميَّةَ موحشاً طَلَلٌ .................................. يَلُوح كأنه خِلَلُ
فـ "موحشاً" حالٌ من "طلل"، لأنّه في الأصلِ صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً فَجُعِلَ حالاً.
و"ذِكْراً" تمييزٌ، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً وذلك أن أفعلَ التفضيلِ يجب أن تُضاف إلى ما بعدها إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها نحو: "وجهُ زيدٍ أحسنُ وجهٍ، وعِلْمُهُ أكثرُ علم" وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها وجب نصبُه نحو: "زيد أحسنُ وجهاً وخالدٌ أكثرُ علماً". فقولُه: "ذِكْراً" هو من جنس ما قبلها فكان يقتضي جَرّه، لأنّه نظيرُ: "اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ" بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في "أشدَّ" من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم: "شِعْرٌ شاعرٌ" أو يُجْعَل "أشدَّ" من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار، أو يُجْعَل "أشدَّ" حالاً من "ذِكْراً" أو ننصبَه بفعلٍ. و"أو" هنا قيل للإباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى "بل".
قوله: {مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا} مَنْ: مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً، وأن تكونَ نكرةً موصوفة. وفي هذا الكلام التفاتٌ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل: "فمنكم"، وحُمِل على معنى "مَنْ" إذ جاء جَمْعاً في قوله: "ربَّنا آتِنا"، ولو حُمِل على لفظِها لقال "ربِّ آتني.
وفي مفعول "آتِنا" الثاني ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً، لأنه من باب "أعطى"، أي: آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا. والثاني: أنّ "في" بمعنى "مِنْ" أي: من الدنيا.