الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(146)
المراد بـ {الذين آتيناهم الكتاب} هم العلماء لأن العرفان لهم حقيقة ، ولذا وضع المظهر موضع المضمر ، ولأن أوتوا يستعمل فيمن لم يكن له قبول ، و"آتينا" أكثر ما جاء فيمن له ذلك . والذين أوتوا هم أحبار اليهود والنصارى وعلماؤهم {يعرفونه} أي الرسول صلى الله عليه وسلم {كما يعرفون أبناءهم} أي يعرفونه صلى الله عليه وسلم بأوصافه الشريفة المكتوبة فى كتابهم لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه عليهم أبناؤهم وتخصيصهم البناء بالذكر دون البنات لكون الذكور أشهر وأعرف عندهم منهن وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ، فإن قيل لمَ لمْ يقلْ كما يعرفون أنفسهم مع أن معرفة الشخص نفسه أقرب إليه من معرفة سائر الأشياء ، فالجواب إن الإنسان لا يعرف نفسه إلاّ بعد انقضاءِ فترة من دهره ويعرف ولدَه من حين ولادته {وإن فريقاً منهم} هم الذين كابروا وعاندوا {ليكتمون الحق وهم يعلمون} أنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ الكعبة قبلةُ الله والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يُظهرون الحقّ ولا يكتمونه وأما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما في تضاعيفِه فما هم بصدد الإظهار ولا بصدد الكتم وإنما كفرُهم على وجه التقليد .
قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ} فيه ستةُ أوجهٍ أظهرُها: أنَّه مرفوع بالابتداءِ ، والخبرُ قوله {يَعْرفونه} . الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الذين آتيناهم . الثالث: النصبُ بإضمار أعني "الذين" . الرابعُ: الجرُّ على البدلِ من "الظالمين" . الخامس: على الصفةِ للظالمين . السادس: النصبُ على البدلِ من {الذين أُوتُواْ الكتاب} في الآيةِ قبلَها .
وفي قوله: {يَعْرفونه} وجهان ، أحدُهما: أنه خبرٌ للذين آتيناهم كما تقدَّم في أحدِ الأوجهِ المذكورةِ في "الذين آتيناهم" . الثاني: أنه نصبٌ على الحالِ على باقيةِ الأقوالِ المذكورةِ ، وفي صاحبِ الحالِ وجهان ، أحدُهما: المفعولُ الأولُ لآتيناهم ، والثاني: المفعولُ الثاني وهو الكتاب ، لأنَّ في "يَعْرفُونه" ضميرين "هم" المستتر ويعود على الذين ، و"ـه" المتصل الذي يعود عليه صلى الله عليه وسلم أو على الحقِّ الذين هو التحوُّل . وأُضْمِرَ وإنْ لم يَسْبِقْ له ذِكْرٌ لدلالة الكلامِ عليه وعَدِمِ الَّلبْسِ ، ومثلُ هذا الإِضمارِ فيه تفخيمٌ له كأنَّه لشُهْرَتِه وكونِه علماً معلوماً مستغنىً عن ذِكْرِهِ بلفظِه . بل هذا من بابِ الالتفات من الخطابِ في قوله: "فولِّ وجهَك" إلى الغيبة .
قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ} الكافُ في محلِّ نَصْبٍ . إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ ، التقديرُ: يعرفونه المعرفةَ المماثلة لعرفانهم . و "ما" مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه .
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون ، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ "يكتمُون الحق" يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ ، وقيل: متعلَّقُ العلم هو ما على الكاتمِ من العقابِ ، أي: وهم يعلمونَ العقابَ المُرَتَّبَ على كاتم الحق ، فتكونُ إذ ذاكَ حالاً مبيِّنةً .