وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
(96)
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس ..} هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه: واللهِ لَتَجِدَنَّهُم . و” وجَدَ ” هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ ، والثاني “أَحْرَصَ” ، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ ك “عَلِمَ” في المعنى نحو: { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } الأعراف: 10. ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ و”أَحْرَصَ” منصوب على الحالِ .
{على حَيَاةٍ}متعلِّق بـ “أَحْرَصَ”لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى بـ “على” تقول: حَرَصْتُ عليه . والتنكيرُ في ” حياة ” تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ ” على الحياة” بالتعريفِ . وقيل: إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: على طُولِ حياةٍ ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ، بل يكونُ المعنى : أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ . وأصلُ حياة: حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها وقُلِبَتْ أَلِفاً .
{وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} متصل داخل تحتَ أَفْعَل التفضيلِ ، حُمِل على المعنى ، أي : أَحْرَصَ من الناسِ ، فكأنه قيل: أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا. ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه فيكونُ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } خبراً مقدَّماً ، و” يَوَدُّ أحدُهم ” صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم . والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ اليهودِ .
{يَوَدُّ أحدُهم} هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم ، فإنْ قيل بأنَّ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} داخلٌ تحتَ “أَفْعَل” كانت “يَوَدُّ” حالاً من الضمير في “لَتَجِدَنَّهم” أي: لتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم . وإنْ قيلَ بالانقطاع فيكونُ في محلِّ رفعٍ ، صفةً لمبتدأٍ محذوفٍ .
و”يودُّ” مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ . والوَدادة التمني .
{لو يُعَمَّر} لو: حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره ، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ ” يَوَدُّ ” عليه ، وحُذِفَ مفعولُ ” يَوَدُّ ” لدلالةِ “لو يُعَمَّرَ” عليه ، والتقديرُ : يَوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك ، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلَّ عليه الآخرُ ، ولا محلَّ لها من الإِعراب . أو نقول إنّ معناها التمني فلا تحتاجُ إلى جوابٍ لأنها في قوة: يا ليتني أُعَمَّر ، وتكونَ الجملةُ من لَوْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به على طريقِ الحكايةَ بيَوَدُّ ، إجراءً له مُجْرى القول . وإنما أَجْرَى ” يَوَدُّ ” مُجْرى القولِ لأنَّها ” فعلٌ قَلبي والقولُ يَنْشَأُ عن الأمورِ القلبيَّةِ .
و{ ألفَ سَنَةٍ } منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر ، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ و”سَنَة”أصلَها: سَنَوة لقولهم: سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ أو: من سَنَهَة لقولِهم: سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ ، واللغتان ثابتتان عن العربِ .
{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} الضميرِ عائدٌ على ” أحد” اسمُ “ما” الحجازيةِ ، و”بمُزَحْزِحِه” خبرُ “ما” فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة.
{ أَنْ يُعَمَّر } فاعلٌ بقولِه ” بمُزَحْزِحِه ” والتقديرُ : وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه . أو ” هو “: مبتدأ ، و” بمُزَحْزِحِهِ ” خبرُه، و”أَنْ يُعَمَّر” فاعلٌ به ، وهذا على كَوْنِ “ما” تميميَّةً ، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه : {مَا هذا بَشَراً } يوسف: 31 { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } المجادلة : 2 .
{من العذابِ} متعلِّقٌ بقوله: “بمُزَحْزِحِه” و”مِنْ” لابتداءِ الغاية . والزَّحْزَحَةُ: التنحِيَةُ ، تقولُ: زَحْزَحْتُه فَزَحْزَحَ ، فيكون قاصراً ومتعدِّياً.
{أَنْ يُعَمَّر} إمَّا أَنْ يكونَ فاعِلاً أو بدلاً من “هو” أو مبتدأً .
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مبتدأٌ وخبرُه و”بما”متعلِّقٌ ببصير. و”ما” يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي:يَعْمَلُونه،ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي:بِعَمَلِهم.
وقرأ الجمهورُ “يعملون” بالياء ، نَسَقَاً على ما تقدَّم، وقرأ الحسنُ وغيرُه “تَعْمَلُون” بالتاء للخطاب على الالتفات .