عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 65 الأحد مارس 04, 2012 1:48 am | |
| وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) { اعتدوا } الاعتداء : مجاوزة الحد ، يقال : اعتدى فلان وتعدى إذا ظلم . بعد أن بين الله جلّ جلاله لنا كيف أنه فتح باب الفضل والرحمة لليهود فتركوه ، أراد أن يبين لنا بعض الذي فعلوه في مخالفة أوامر الله والتحايل عليها . وملخص قصة اعتداء بني إسرائيل في يوم السبت ، أن الله - تعالى - أخذ عليهم عهداً بأنْ يتفرّغوا لعبادته في ذلك اليوم ، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام ، وقد أراد - سبحانه - أن يختبر استعدادهم للوفاء بعودهم ، فابتلاهم بتكاثر الحيتان في يوم السبت دون غيره ، فكانت تتراءى لهم على الساحل في ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا : لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك يوم السبت حياضاً تنساب إليها المياه في ذلك اليوم ، ثم نصطادها من تلك الحياض في يوم الأحد وما بعده ، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا في يوم السبت ، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك ، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا إنما هو امتثال ظاهري لأمر الله ، ولكنه في حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد في يوم السبت ، فلم يعبأ أكثرهم بذلك ، بل نفّذ تلك الحيلة ، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة ، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت فتبطح بأفنيتهم كأنها المخاض ثم تذهب فلا ترى فلما طال عليهم أمر الحيتان وإتيانها يوم السبت ولا تأتي في غيره ، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً يوم السبت فحزمه بخيط وأرسله في الماء ووتّدَ له وتداً في الساحل فأوثقه ، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله ، فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك ، فوجد الناس ريح الحيتان ، ثم علموا بما فعل ذلك الرجل ففعلوا مثل ما فعل وأكلوا زمناً طويلاً، ولم يعجل الله عليهم بالعقوبة حتى صادوا علانية وباعوها في الأسواق . فقالت طائفة من أهل التقوى: " ويحكم اتقوا الله " ونهوهم عما يصنعون . وقالت طائفة أخرى لم يصنعوا مثل ما صنع أولئك : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } الأعراف: 164، فنجى الله الذين ينهون عن السوء ومسخ الفاعلين " . واختلف في الذين لم يعملوا ولم ينهوا وقالوا: { لِمَ تَعِظُونَ } الآية قيل: إنهم نجوا مع الناجين . وقيل : مُسِخُوا مع مَن مسخ . وقيل : كان الرجل منهم من شهوة الحوت يحفر الحفرة ويجعل نهراً إلى البحر ، فيدخله الماء يوم السبت بالحوت ، ثم لا يقدر الحوت أن يرجع إلى البحر لقلة الماء ، فيصبح يوم الأحد ويأخذه . فنهوهم علماؤهم عن ذلك فلم ينتهوا . والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا في سورة الأعراف كما جاءت الإِشارة إليه في سورتي النحل والنساء . ثم بين - سبحانه - العقوبة التي حلت بهم بسبب اعتدائهم في يوم السبت ، وتحايلهم على استحلال محارم الله فقال - تعالى : - { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } . أي: صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء . والخسوء: الطرد والإِبعاد ، يقال: خسأت الكلب خسأ وخسوءاً - من باب منع - طردته وزجرته ، وذلك إذا قلت له : اخسأ . وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا على الحقيقة ثم ماتوا بعد ذلك بوقت قصير . ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، أي : إنهم مسخوا مسخاً نفسياً فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها . وتلك العقوبة كانت بسبب إمعانهم في المعاصي ، وتأبيهم عن قبول النصيحة ، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم ، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإِنسان ، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان . والضمير في قوله : { فَجَعَلْنَاهَا } يعود إلى العقوبة التي هي مسخهم قردة و{ نَكَالاً } أي عبرة تنكل المعتبر بها بحيث تمنعه وتردعه من ارتكاب الشر . يقال : نكل به تنكيلا إذا صنع به صنعاً يردعه ويجعل غيره يخاف ويحذر . وأصل " السبت " الهدوّ والسكون في راحة ودعة ، ولذلك قيل للنائم " مسبوت " لهدوّه وسكون جسده واستراحته ، كما قال جل ثناؤه : {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} النبأ: 9 أي راحة لأجسادكم . وهو مصدر من قول القائل : "سبت فلان يسبت سبتا " . والسبت ضرب من السير أيضاً . والسبت الحلق ؛ يقال سَبَتَ رَأسَهُ إذا حَلَقَهُ . والسبت القطع . وجمعه: " أَسْبُتٌ " و " سَبَتَاتٌ " بالتحريك لأنه اسم. وفي الكثير السبوت والسبات . وقد قيل: إنه سمي " سبتا " لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة - وهو اليوم الذي قبله - من خلق جميع خلقه . قال ابن عباس: " لم يبعث الله قط نبياً إلا عرفه فضل الجمعة وعظمها في السماوات وأن الساعة تقوم فيها ، وتشريف الملائكة لها . وبلّغت الرسلُ أُممَها ذلك ، فسمع أكثرهم وأطاع وعرف فضلها . فلما كان موسى أخبر بني إسرائيل بفضلها على الأيام فقالوا : يا موسى ، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام ، والسبت أفضل لأن كل شيء سبت لله مطيعاً يوم السبت ، وخلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة . ويوم السبت كمل الأمر؟ وقالت النصارى لعيسى صلى الله عليه وسلم إذ أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها : كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها ، والله واحد ، والواحد الأول ، والأحد أول؟ فأوحى الله عز وجل إلى عيسى صلى الله عليه وسلم أن دَعْهُم والأحد ، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا فلم يفعلوا . وقال لموسى صلى الله عليه وسلم كذلك في السبت . وأمرهم أن لا يصيدوا فيه سمكاً ولا غيره ، ولا يعملوا فيه عملاً . فكان يوم السبت تظهر فيه الحيتان على وجه الماء فهو قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} الأعراف : 163 ثم إنهم تناولوها في السبت فلم ينكر بعضهم على بعض ، ثم كَفّوا فلما رأوا العقوبة لا تنزل بهم عادوا وأخذوا . وكان موسى قد حذرهم . وروي عن مجاهد أنه قال: " مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفاراً ". وجميع أهل التفسير على خلاف ذلك لأنهم مسخوا قردة حقيقة. وقوله: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً } . هو أمر، وتأويله الخبر . أي : فكوناهم قردة ، وهذا هو الأمر الذي يكون به الخلق، فحولهم من خلقة إلى خلقة أخرى، فهو مثل قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } النحل : 40 { خَاسِئِينَ } أي : مبعدين ، أي مطرودين . هذا قول أهل اللغة . وقال مجاهد وقتادة : خاسئين صاغرين ، وقال الربيع : أذلة صاغرين ولقد كان مسخ اليهود حقيقة ومسْخُ هذه الأمة حصل على القلوب ، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما أُلزموا به من الشرع - عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النَّصُّ ، فهذه الأمة مِنْ نَقْضِ العهدِ ورفض الحدِّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال ، قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ } الأنعام : 110 وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس . قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } : اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لقد ، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها ، و " قد " حرف تحقيق وتوقّع ، ويُفيد في المضارع التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق ، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى المُضيِّ كقوله : قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه .............. كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ ، وتُحْدِثُ في الماضي التقريبَ من الحالِ . وفي عبارة بعضِهم : « قد : حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال » ويكونُ اسماً بمعنى حَسْب نحو : قدني درهمٌ أي : حسبي ، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم غالباً ، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين ، قال: قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه : أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا .................. لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ أي : قد زالت . و{ عَلِمْتُمِ } بمعنى عَرَفْتُم ، فيتعدَّى لواحدٍ فقط ، والفرقُ بين العلم والمعرفة أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي عليه من الأحوال نحو : عَلمتُ زيداً قائماً أو ضاحكاً ، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ ، وقيل : لأنَّ المعرفةَ يسبقها جهلٌ ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ عليه سبحانه . {الذين اعتدوا} الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ ، كما قدَّره بعضُهم ، أي : أحكامُ الذين اعتدوا ، لأنَّ المعنى عَرَفْتم أشخاصَهم وأعيانَهم . وأصلُ اعتَدَوْا : اعتَدَيُوا ، فأُعِلَّ بالحذف ووزنه افْتَعَوا ، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه . قوله : " منكم " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في " اعتدَوا " ويجوز أن يكونَ من " الذين " أي : المعتدين كائنين منكم ، و " مِنْ " للتبعيض . قوله : { فِي السبت } متعلِّقٌ باعتَدَوا ، والمعنى : في حُكْم السبت . والأصلُ فيه المصدرُ كما سبق أن ذكرنا ، ثم سُمِّي به هذا اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ وقُطِعَ ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً ، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما أشبهه من أسماءِ الأزمنة مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه نحو : اليوم الجمعةُ ، اليوم العيدُ ، كما يقال : اليوم الاجتماعُ والعَودُ ، فإنْ ذُكِرَ مع " الأحد " وأخواتِه وَجَب الرفعُ على المشهورِِ . قوله : { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها أن يكونا خبرين ، أي : كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء وهذا التقديرُ بناءً على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ ، فلذلك قُدِّرا بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب : هذا حُلْوٌ حامِضٌ . الثاني : أن يكون " خاسئين " نعتاً لقِردة ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ ، وهذا جَمْعُ العقلاء . فإنْ قيل : المخاطبون عُقَلاء . فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد ، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ : كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء ، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك ، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء ، كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } يوسف : 4 { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } فصلت : 11. الثالث : أن يكون حالاً من اسم " كونوا " والعاملُ فيه " كونوا" وهذا عندَ مَنْ يُجيز لـ " كان " أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ . الرابع وهو الأجْوَدُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في "قِرَدَةً" لأنه في معنى المشتقِّ ، أي : كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ ، وجَمْعُ فِعْل على فِعَلة قليلٌ لا ينقاس . ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون ، تقول : " قَرَد بمكان كذا " أي : لَصِق به وسكن ، ومنه الصوفُ القَرَد أي المتداخلُ ، ومنه أيضاً : القُراد هذا الحيوانُ المعروف . ويقال : خَسَأْتُه فَخَسَأَ ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض ، وقيل : يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ . وخَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً ، وخَسَأَ هو خُسُوءاً .
| |
|