وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
(103)
يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة ، بعد بين لهم أن السحر كفر ، وأن من يقوم به يبعث كافراً يوم القيامة ويخلد في النار ، فلو أنهم آمنوا واتقوا الله لكان ذلك ثواباً لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة ، وتوعدهم بالعقوبة في الآخرة .
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} لو:حرف لِما كان سيقع لوقوعِ غيره ، ويجوز أن تكونَ للتمني أي: ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له ، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ. و"أنهم آمنوا" مؤولٌ بمصدرٍ ، وهو في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ ، تقديرُه: ولو إيمانُهم ثابتٌ ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو ، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال . وقيل: لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ "أَنَّ" ، أوهو في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه: ولو ثَبَتَ إيمانُهم ، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً . والضميرُ في "أنهم" يعود على اليهودِ ، أو على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ .
قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله} في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : أنها لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك ، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه ، وعلى هذا فجوابُ "لو" محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره:لأُثيبوا. والثاني: أنها جوابُ "لو" ، فإنَّ "لو" تجابُ بالجملةِ الاسميةِ . وأُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ "لو" لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المثُوبة واستقرارها ، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في "سلامٌ عليكم " و"لمَثُوبةٌ" فيها قولان أحدُهما: أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل: مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب ، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول ، فهي مصدرٌ . والثاني: أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء، ويقال: "مَثْوَبة" بسكون الثاءِ وفتحِ الواو ، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال: " مَثابة " كمَقامَة ، إلا أنهم صَحَّحُوها ، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة . ومعنى " لَمَثُوبة " أي: ثوابٌ وجزاءٌ من الله . وقيل: لَرَجْعَةٌ إلى الله .
قوله: {مِّنْ عِندِ الله} في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله . والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره . والتنكيرُ في "لَمَثُوبَةٌ" يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ ـ وإنْ قَلَّ ـ خَيرٌ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ، ونظيرُه: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} التوبة:72.
وقوله: "خيرٌ" خبرٌ لِمَثُوبَةٌ ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ ، كقوله: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} الفرقان: 24 {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ} فصلت: 40 .
قوله: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ تقديرُه: لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً ، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى . وفي مفعولِ "يَعْلَمُون" وجهان أحدُهما: أنه محذوفٌ اقتصاراً أي: لو كانوا من ذوي العلمِ ، والثاني: أنه محذوفٌ اختصاراً ، تقديرُه: لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك ، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى .