يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(85)
{ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } فيه سبعة أقوال ، أحدها : وهو الظاهرُ
أنَّ " أنتم " في محلِّ رفع بالابتداء، و" هؤلاء " خبرُه . و" تَقْتُلون " حالٌ العاملُ فيها اسمُ الإِشارةِ لِما فيه من معنى الفِعْل ، وهي حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها ، وقد قالتِ العربُ: " ها أنت ذا قائماً " و"ها أنا ذا قائماً" و"ها هو ذا قائماً" فأخبروا باسمِ الإِشارةِ عن الضميرِ في اللفظِ ، والمعنى على الإِخبارِ بالحال ، فكأنه قال: أنت الحاضرُ وأنا الحاضرُ وهو الحاضرُ في هذه الحالِ . ويَدُلُّ على أنَّ الجملةَ من قوله " تَقْتُلون " حالٌ وقوعُ الحالِ الصريحةِ موقعَها، كما تقدَّم في: ها أنا ذا قائماً ونحوِه، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال: "ثم أنتم هؤلاء" استبعادٌ لِما أُسْنِد إليهم من القَتْل والإِجلاءِ بعد أَخْذِ الميثاق منهم،وإقرارِهم وشهادتِهم،والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون ، يعني أنكم قومٌ آخرون غيرُ أولئك المُقِرِّين ، تنزيلاً لتغيُّر الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ ، كما تقول:رَجَعْتُ بغير الوجه الذي خَرَجْتُ به . وقوله: "تَقْتُلون" بيانٌ لقوله: ثم أنتم هؤلاء . والظاهرُ أنَّ المشارَ إليه بقوله : " أنتم هؤلاء " المخاطبون أولاً ، فليسوا قوماً آخرين ، ألا ترى أنَّ التقديرَ الذي قدَّره الزمخشري مِنْ تقديرِ تغيُّرِ الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المخاطَبُ هو المُشارُ إليه مِنْ غيرِ تغيُّرٍ " ولم يتضحْ لي صحةُ الإِيرادِ عليه وما أبعدَه عنه .
الثاني : أن " أنتم " أيضاً مبتدأٌ ، و" هؤلاء " خبرُه، ولكنْ بتأويل حذفِ مضافٍ تقديرُه: ثم أنتم مثلُ هؤلاء و"تقتلونَ" حالٌ أيضاً، العاملُ فيها معنى التشبيه ، إلا أنَّه يلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين ، لأن المرادَ بهم أسلافُهم على هذا ، وقد يُقال: إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ .
الثالث: أن " أنتم " خبرٌ مقدمٌ ، و" هؤلاء " مبتدأٌ مؤخرٌ ، وهذا فاسدٌ؛ لأن المبتدأ والخبرَ متى استويا تعريفاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدُّمُ الخبرِ .
الرابع: أنَّ "أنتم" مبتدأٌ و"هؤلاء" منادى حُذِفَ منه حرفُ النداءِ و"تقتلون" خبرُ المبتدأ،وفَصَلَ بالنداءِ بين المبتدأ وخبرِه . وهذا لا يُجيزه جمهورُ البصريين ، وإنما قال به الفراءُ وجماعةٌ وأنشدوا :
إنَّ الأُولى وُصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ..هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداك مَخْذولا أي: يا هذا، وهذا لا يَجُوز عند البصريين، ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله:
هَذِي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رَسيسا ........... ثم انصرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسا
الخامس:أنَّ "هؤلاء" موصولٌ بمعنى الذي. و"تَقْتُلون" صلتُه، وهو خبرٌ عن "أنتم" أي:أنتم الذين تقتلونَ. وهذا أيضاً ليس رأيَ البصريين، وإنما قالَ به الكوفيون، وأنشدوا :
عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ ............... أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
أي: والذي تحملينَ ، ومثلُه:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} طه:17أي:وما التي؟ .
السادسُ: أن "هؤلاء"منصوبٌ على الاختصاصِ، بإضمارِ "أعني"
و"أنتم" مبتدأٌ ، وتقتلونَ خبرُه، اعترَض بينهما بجملةِ الاختصاصِ، وإليه ذهب ابن كيسان . وهذا لا يَجُوز ؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنَّ الاختصاصَ لا يكون بالنكراتِ ولا أسماءِ الإِشارةِ ، والمستقرأُ مِنْ لسانِ العرب أنَّ المنصوبَ على الاختصاصِ: إمَّا "أيُّ" نحو: "اللهم اغْفِر لنا أَيَّتُها العِصابةَ"، أو معرَّفٌ بأل نحو: نحنُ العربَ أَقْرى الناس للضيفِ، أو بالإِضافةِ نحو : "نحن معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ" وقد يَجِيءُ عَلَما كقولِه:
بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ ..............................
وأكثرُ ما يجيء بعد ضمير متكلِّم كما تقدَّم ، وقد يَجيء بعدَ ضميرٍ مخاطَبٍ ، كقولِهم "بكَ اللهَ نرجو الفضلَ" وهذا تحريرُ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ .
السابع: أن يكونَ {أَنْتُمْ هؤلاء} على ما تقدَّم مِنْ كونِهما مبتدأ وخبراً ، والجملةُ من "تقتلون" مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها ، يعني أنتم هؤلاء الأشخاصُ الحَمْقَى ، وبيانُ حماقتِكم أنكم تقتلون أنفسَكم وتُخْرِجون فريقاًَ منكم من ديارِهم ، وهذا ذكره الزمخشري في سورة آل عمران في قوله: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ}آل عمران:66ولم يَذْكُرَه هنا ، وسيأتي بنصِّه هناك إنْ شاء الله تعالى .
{ تَظَاهَرُونَ } هذه الجملةُ في محل نصب على الحال من فاعل {تُخْرِجُونَ } وفيها خمسُ قراءات : " تظَّاهرون " بتشديد الظاء ، والأصل: تَتَظاهرون فأُدْغِم لقُرْبِ التاء من الظاء ، و"تَظَاهرون" مخفَّفاً ، والأصل كما تقدَّم ، إلا أنَّه خفَّفَه بالحذف . وهل المحذوفُ الثانية وهو الأَوْلى لحصول الثقل بها ولعَدَم دَلالِتها على معنى المضارعة أو الأُولى كما زعم هشام؟ قال الشاعر :
تَعَاطَسُون جميعاً حولَ دارِكُمُ ............ فكُلِّكم يا بني حمدانَ مَزْكُومُ
أراد: تتعاطَسون فحَذَف .
و" تَظَهَّرُون " بتشديد الظاء والهاء ، و" تُظَاهِرون " من تَظاهَرَ . و" تتظاهَرون " على الأصل مِنْ غيرِ حذفٍ ولا إدغامٍ ، وكلُّهم يَرْجِعُ إلى معنى المُعاوَنة والتناصُرِ من المُظاهَرة ، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُسْنِدُ ظهرَه للآخر ليتقوَّى به فيكونَ له كالظهر ، قال :
تَظَاهَرْتُمُ أَسْتاهَ بيتٍ تَجَمَّعَتْ .......... على واحدٍ لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحِدِ
والإِثْمُ في الأصل : الذَّنْبُ وجمعُه آثام ، ويُطْلَقُ على الفعلِ الذي يَسْتَحِقُّ به صاحبه الذمِّ واللومَ . وقيل هو : ما تَنْفِرُ منه النفسُ ولا يَطْمئنُّ إليه القلبُ ، فالإِثمُ في الآيةِ يَحْتمل أن يكونَ مراداً به ما ذَكَرْتُ من هذه المعاني . ويَحْتَمِلُ أن يُتَجَوَّزَ به عَمَّا يُوجِبُ الاثمَ إقامةً للسَّبب مُقَامَ المُسَيَّب كقول الشاعر :
شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي ............ كذاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ
فَعَبَّر عن الخمرِ بالإِثمِ لمَّا كان مُسَبَّباً عنها .
والعُدْوانُ: التجاوُزُ في الظلمِ ، وقد تقدَّم في {يَعْتَدُونَ } البقرة : 61 وهو مصدرٌ كالكُفْران والغُفْران ، والمشهورُ ضَمُّ فائِه ، ضَمُّ فائِه ، وفيه لغةٌ بالكسرِ .
{ وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ } إنْ شرطيةٌ ويَأْتوكم مجزومٌ بها بحَذْفِ النونِ والمخاطبُ مفعولٌ و"أُسارى"حالٌ من الفاعل في "يأتوكم".
وقرأ الجماعةُ غيرَ حمزة " أُسارى " وقرأ هو أَسْرَى ، وقُرئ "أَسارى" بفتح الهمزة . فقراءةُ الجماعة تحتمل أربعة أوجه ، أحدُها: أنّه جُمِعَ جَمْعَ كَسْلان لِمَا جَمَعَهما مِنْ عدمِ النشاطِ والتصرُّف، فقالوا : أَسير وأُسارى "بضم الهمزة " كَكَسْلان وكُسَالى وسَكْران وسُكارى ، كما أنه قد شُّبِّه كَسْلان وسَكْران به فجُمِعا جَمْعَه الأصليَّ الذي هو على فَعْلَى فقالوا: كَسْلان وكَسْلى ، وسَكْران وسَكْرى كقولهم: أَسير وأَسْرى .
الثاني: أن أُسارى جمعُ أَسير ، وقد وَجَدْنا فَعِيلاً يُجْمع على فُعَالى قالوا: شيخٌ قديم وشيوخٌ قُدامى، وفيه نظرٌ فإن هذا شاذٌّ لا يُقاس عليه.
الثالث: أنه جَمْعُ أسير أيضاً وإنما ضَمُّوا الهمزةَ من أُسارى وكان أصلُها الفتح كنديم ونَدامى كما ضُمَّتِ الكافُ والسينُ من كُسَالى وسُكارى وكان الأصلُ فيهما الفتحَ نحو: عَطْشَان وعَطَاشى .
الرابع: أنه جَمْعُ أَسْرى الذي هو جمعُ أسير فيكونُ جَمْعَ الجمعِ .
وأمَّا قراءةُ حمزةَ فواضحةٌ ؛ لأن فَعْلى ينقاس في فَعيل بمعنى مُمَات أو مُوْجَع نحو: جَريح وجَرْحى وقَتيل وقَتْلى ومَريض ومَرْضى .
وأما "أَسارَى" بالفتح وقد تقدَّم أنها أَصْلُ أُسارى بالضم عند بعضهم ، وقالوا: إنه ما كان في الوَثاق فهم الأُسارى وما كان في اليدِ فهم الأَسْرَى . وقيل: ما جاء مُسْتأسِراً فهم الأَسْرى ، وما صار في أيديهم فهم الأُسارى وقيل: أَسير وأُسَراء كشهيد وشُهَداء . والأسيرُ مشتقّ من الإِسار وهو القَيْدُ الذي يُرْبط به المَحْمَلُ ، فسُمِّي الأسير أسيراً لشدة وَثاقه ، ثم اتُّسِعَ فيه فَسُمِّي كلُّ مأخوذٍ بالقَهْرِ أَسيراً وإن لم يُرْبَط . والأسْر: الخَلْق في قوله تعالى: { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } الإنسان : 28وأُسْرَة الرجل مَنْ يتقوَّى بهم ، والأُسْرُ احتباسُ البولِ ، رجلٌ مَأْسورٌ أذا أصابَه ذلك: وقالت العرب: " أَسَرَ قَتَبه " أي: شَدَّه . قال الأعشى:
وقَيَّدني الشِّعْرُ في بيتِه .................... كما قَيَّد الآسِراتُ الحمارا
يريد أنه بَلَغ في الشعر النهايةَ حتى صارَ له كالبيتِ لا يَبْرَح عنه .
{تُفَادُوهُمْ} قرأ نافع وعاصم والكسائي: "تُفادُوهم" وهو جوابُ الشرطِ فلذلك حُذِفَت نونُ الرفعِ، وهل القراءتان بمعنىً واحدٍ، ويكونُ معنى فاعَلَ مثلَ معنى فَعَل المجرد نحو: عاقَبْت وسافَرْت، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهورٌ ، ثم اختلف الناسُ في ذلك الفرقِ ما هو؟ فقيل : مَعْنَى فَداه أَعْطى فيه فِداءٍ من مالٍ وفاداه أعطى فيه أسيراً مثلَه وأنشد :
ولكنِّني فادَيْت أمِّي بعدما .................. عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ
بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما .............. لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ
وهذا القول يَرُدُّه قولُ العباس رضي الله عنه : " فادَيْت نفسي وفادَيْتَ عَقيلا "ومعلومٌ أنه لم يُعْطِ أسيرَه في مقابلة نفسِه ولا وَلَدِه ، وقيل : "تَفْدُوهم بالصلح وتُفادُوهم بالعِتْقِ" . وقيل:" تَفْدُوهم تُعْطوا " فِدْيَتَهم، وتُفادوهم تَطْلبون من أعدائِكم فِدْيةَ الأسيرِ الذي في أيديكم ، ومنه قول الشاعر :
قفي فادِي أسيرَكِ إنَّ قومي ............. وقومَك لا أرى لهمُ اجتماعا
والظاهرُ أن "تُفادهم" على أصله من اثنين، وذلك أن الأسيرَ يعطي المالَ والآسِرَ يعطي الإِطلاقَ ، وتَفْدُوهم على بابِه من غيرِ مشاركةٍ ، وذلك أنَّ أَحدَ الفريقين يَفْدي صاحبه من الآخر بمالٍ أو غيره ، فالفعلُ على الحقيقة من واحدٍ ، والفداءُ ما يُفْتَدَى به ، وإذا كُسِر أولُه جازَ فيه وجهان : المَدُّ والقَصْرُ فمِن المدِّ قولُ النابغة :
مَهْلاً فِداءً لكَ الأقوامُ كلُّهمُ ............. وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
ومن القَصْرِ قولُه : ... . . . . . ... فِدَىً لَكَ مِنْ رَبٍّ طَريفي وتالدي
وإذا فُتِحَ فالقصرُ فقط ، ومن العربِ مَنْ يكسِرُ " فِدى " مع لام الجر خاصةً ، نحو: فِدَىً لكَ أبي وأمي يريدون الدعاءَ له بذلك ، وفَدى وفادى يتعدَّيان لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ جر تقول: فَدَيْتُ أو فادَيْتُ الأسير بمال ، وهو محذوفٌ في الآية الكريمة . وحَسُنَ لفظ الإِتيانِ من حيثُ هو في مقابلةِ الإِخراج فيظهرُ التضادُّ المُقْبِحُ لفِعْلِهم في الإِخراج .
{ وَهُوَ مُحَرَّمٌ } هو: ضميرَ الشأنِ والقصةِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و" مُحَرَّمٌ " خبرٌ مقدمٌ وفيه ضميرٌ قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، و"إخراجُهم" مبتدأ والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعِ خبراً لضميرِ الشأن ، ولم يَحْتَجْ هنا إلى عائدٍ على المبتدأ لأنَّ الخبرَ نفسُ المبتدأ وعينُه .
وهذه الجملةُ مفسِّرةٌ لهذا الضمير ، وهو أحدُ المواضعِ التي يُفَسَّرُ فيها المضمرُ بما بعدَه ، وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسَّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير ، ومِنْ شَرْطِه أن يؤتى به في مواضعِ التعظيم وأنْ يكونَ معمولاً للابتداءِ أو نواسِخه فقط ، وأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزئيها ، ولا يُتْبَعَ بتابعٍ من التوابعِ الخمسةِ، ويجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه مطلقاً خلافاً لمَنْ فصَّل: فتذكيرُه باعتبارِ الأمر والشأن ، وتأنيثُه باعتبار القصةِ فتقولُ : هي زيدٌ قائمٌ ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُحْذَفُ إلا في مواضع تُذْكر إنْ شاء الله تعالى . والكوفيون يُسَمُّونه ضميرَ المَجْهول وله أحكامٌ كثيرةٌ .
الوجهُ الثاني: أن يكونَ "هو" ضميرَ الشأنِ أيضاً ، و"مُحَرَّمٌ" خبرُه و"إخراجُهم" مرفوعٌ على أنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه . وهذا مذهبُ الكوفيين ، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول ، لأنَّ عندهم أنَّ الخبرَ المحتمِّل ضميراً مرفوعاً لا يجوزُ تقديمُه على المبتدأ فلا يُقال : "قائمٌ زيدٌ" على أن يكونَ "قائمٌ" خبراً مقدَّماً ، وهذا عند البصريين ممنوعٌ لِمَا عَرَفْتَه أنَّ ضميرَ الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، والاسمُ المشتقُّ الرافعُ لِما بعدَه من قبيلِ المفرداتِ لا الجملِ فلا يُفَسَّر به ضميرُ الشأنِ .
الثالث: أن يكونَ "هو" كنايةً عن الإِخراجِ، وهو مبتدأ و"مُحَرَّمٌ" خبرُه، و"إخراجُهم" بدلٌ منه، وهذا على أحدِ القولين وهو جوازُ إبدالِ الظاهرِ من المضمرِ قبله ليفسِّرَه ، واستدلَّ مَنْ أجازَ ذلك بقوله :
على حالةٍ لَوْ أنَّ في القومِ حاتِماً ......... على جُودِه لَضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
فحاتم بدلٌ من الضميرِ في "جودِه" .
الرابع : أن يكونَ " هو " ضميرَ الإِخراجِ المدلولَ عليه بقوله "وتُخْرِجون" و" مُحَرَّمٌ " خبره و"إخراجُهم" بدلٌ من الضميرِ المستترِ في " مُحَرَّمٌ " .
الخامس: كذلك ، إلاَّ أنَّ "إخراجُهم" بدلٌ من " هو " . وفي هذا الأخيرِ نظرٌ ، وذلك أنَّك إذا جَعَلْتَ "هو" ضمير الإِخراج المدلولِ عليه بالفعل كانَ الضميرُ مفسَّراً به نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} المائدة: 8 فإذا أَبْدَلْتَ منه " إخراجُهم " الملفوظَ به كانَ مفسَّراً به أيضاً، فيلزَمُ تفسيرُه بشيئين ، إلا أَنْ يقالَ : هذان الشيئان في الحقيقة شيءٌ واحدٌ فيُحتملَ ذلك .
السادس:أجاز الكوفيون أن يكونَ "هو" عماداً وهو الذي يُسَمِّيه البصريون ضميرَ الفصل قُدِّم مع الخبر لِما تقدَّم ، والأصلُ : وإخراجُهم هو مُحَرَّمٌ عليكم ، فإخراجُهم مبتدأ ، ومُحَرَّم خبره، وهو عِمادٌ ، فلمَّا قُدِّمَ الخبرُ قُدِّمَ معه . لأن الواوَ هنا تَطْلبُ الاسمَ ، وكلُّ موضعٍ تطلب فيه الاسمَ فالعمادُ جائزٌ وهذا عند البصريين ممنوعٌ من وجهين أحدُهما : أن الفصلَ عندهم مِنْ شرطِهِ أن يَقَعَ بين معرفَتَيْن أو بين معرفةٍ ونكرةٍ قريبةٍ من المعرفةِ في امتناع دخول أل كأَفْعَل مِنْ ، ومثلٍ وأخواتها .
والثاني: أنَّ الفصلَ عندهم لا يجوز تقديمُه مع ما اتصل به .
السابع: وقيل في "هو" إنه ضميرُ الأمرِ ، والتقديرُ : والأمرُ مُحَرَّم عليكُم، وإخراجُهُمْ في هذا القولِ بدلٌ من"هو" وهذا خطأٌ من وجهين، أحدُهما : تفسيرُ ضميرِ الأمرِ بمفردٍ وذلك لا يُجيزه بَصْريٌّ ولا كوفيٌّ ، أمّا البصريُّ فلاشتراطه جملةً ، وأمَّا الكوفيُّ فلا بد أن يكونَ المفردُ قد انتظمَ منه ومِمَّا بعده مُسْنَدٌ إليه في المعنى نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدان .
والثاني: أنه جَعَلَ "إخراجُهم" بدلاً من ضميرِ الأمر، وقد تقدَّم أنه
لا يُتْبَعُ بتابعٍ .
الثامن: قيل "هو" فاصلةٌ ، وهذا مذهبٌ الكوفيين ، و" مُحَرَّم " على هذا ابتداءٌ ، و"إخراجُهم" خبرٌ. والمنقولُ عن الكوفيين عكسُ هذا الإِعرابُ، أي: يكونُ "إخراجُهم" مبتدأ مؤخراً ، و"مُحَرَّم" خبرٌ مقدمٌ ، قُدِّم معه الفصلُ كما مرَّ ، وهو الموافِقُ للقواعدِ ، وألاَّ يَلزَم منه الإِخبارُ بمعرفةٍ عن نكرةٍ من غير ضرورةٍ تَدْعو إلى ذلك .
التاسع: أن " هو " الضميرَ المقدَّرَ في " مُحَرَّم " قُدِّمَ وأُظْهِر وهذا ضعيفٌ جداً ، إذ لا ضرورةَ تدعو إلى انفصالِ هذا الضميرِ بعد استتارهِ وتقديمهِ ، وأيضاً فإنه يلزَمُ خُلُوُّ اسمِ المفعولِ مِنْ ضميرٍ ، إذ على هذا القولِ يكونُ "مُحَرَّم" خبراً مقدَّماً و"إخراجُهم" مبتدأ ، ولا يُوجد اسمُ فاعلٍ ولا مفعولٍ خالياً من الضمير إلا إذا رَفَعَ الظاهرَ ، ثم يبقى هذا الضميرُ لا ندري ما إعرابُه ؟ إذ لا يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ولا فاعلاً مقدَّماً .
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ محذوفةً من الجملِ المذكورة قبلَها ، وذلك أنه قد تقدَّم ذكرُ أربعةِ أشياءَ كلُّها مَحُرَّمةٌ، وهي قولُه:" تَقْتُلون أنفسَكم ، وتُخْرِجُون ، وتُظاهرون ، وتُفادون، فيكونُ التقدير: تقتلون أنفسَكم وهو مُحَرَّمٌ عليكم قتلُها ، وكذلك مع البواقي .
ويجوز أن يكونَ خَصَّ الإِخراجَ بذكر التحريمِ وإنْ كانَتْ كلُّها حَراماً ، لِما فيه من مَعَرَّة الجلاءِ والنفي الذي لا ينقطعُ شرُّه إلا بالموت والقتلِ ، وإنْ كان أعظمَ منه إلا أنَّ فيه قطعاً للشرِّ ، فالإِخراجُ من
الديارِ أصعبُ الأربعةِ بهذا الاعتبار .
والمُحَرَّمُ : الممنوعُ، فإنَّ الحرامَ هو المَنْعُ من كذا.والحَرامُ : الشيءُ الممنوعُ منه يُقَالُ: حَرامٌ عليك وحَرَمٌ عليك، وسيأتي تحقيقُه في الأنبياء.
{فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ } ما: يجوز فيها وجهان ، أحدُهما أن تكونَ نافيةً و"جزاء" مبتدأ ، و"إلاَّ خِزْيٌ" خبرُه وهو استثناءٌ مفرغٌ ، وبَطَلَ عَمَلُ "ما" عند الحجازيين لانتقاضِ النفي ب إلاَّ،وفي ذلك خلافٌ طويلٌ وتفصيلٌ منتشرٌ ، وتلخيصُه أنَّ خبرَها الواقعَ بعد "إلاَّ":جمهورُ البصريين على وجوبِ رَفْعِه مطلقاً، سواءً كان هو الأولَ أو مُنَزَّلاً منزلَته أو صفةً أو لم يكُنْ ، ويتأوَّلون قوله:
وما الدهرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بأَهْلِه .......... وما صاحبُ الحاجاتِ إلاَّ مُعَذِّبَا
على أنَّ الناصبَ لمَنْجَنوناً ومُعَذَّباً محذوفٌ ، أي : يدورُ دَوَرَانَ مَنْجَنونٍ ويُعَذَّبُ مُعَذَّباً تَعْذيباً . وأجاز يونس النصبَ مطلقاً ، وإن كان النحاسُ نَقَلَ عدمَ الخلافِ في رفع"ما زيدٌ إلا أخوك"، فإن كان الثاني مُنَزَّلاً منزلةَ الأولِ نحو: " ما أنت إلا عِمامَتك تحسيناً وإلاَّ رِداءَك ترتيباً " فأجاز الكوفيون نصبَه ، وإن كان صفةً نحو : ما زيدٌ إلا قائمٌ فأجاز الفراء نصبَه أيضاً .
والثاني أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء ، و" جزاء " خبرُه ، و{ إِلاَّ خِزْيٌ } بدلٌ من "جَزَاءُ " و" مَنْ " موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، و "يفعلُ"لا محلَّ لها على الأول ، ومحلُّها الجَرُّ على الثاني .
" منكم " في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ " يفعل " فيتعلَّقُ بمحذوف أي: يفعلُ ذلك حالَ كونِه منكم .
{فِي الحياة} يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لـ "خزي" ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي : خِزْيٌ كائنٌ في الحياة ، والثاني : أن يكونَ محلُّه النصبَ على أنه ظرفٌ للخِزْي فهو منصوبٌ به تقديراً .
والجَزاءُ: المقابَلَةُ ، خيراً كان أو شراً ، والخِزْيُ : الهَوانُ ، يُقال : خَزِيَ بالكسر يخزى خِزْياً فهو خَزْيانُ ، وامرأة خَزْيا والجمع خَزايا ، وقال ابن السكيت : الخِزْيُ الوقوعُ في بَلِيَّة ، وخَزِيَ الرجلُ في نفسِه يَخْزَى خَزَايَةً إذا استحيا .
والدُّنْيا فُعْلَى تأنيثُ الأدْنى من الدُنُوِّ ، وهو القُرْب ، وألِفُها للتأنيثِ ، ولا تُحْذَفُ منها أل إلا ضرورةً كقوله :
يومَ ترى النفوسُ مَا أعَدَّتِ ............... في سَعْي دُنْيَا طالمَا قد مُدَّتِ
وياؤُها عن واو ، وهذه قاعدةٌ مطَّردةٌ ، وهي كلُّ فُعْلَى صفةً لامُها واوٌ تُبْدَلُ ياءَ نحو : العُلْيَا والدُّنْيا ، فأمَّا قولُهم : القُصْوى عند غير تميم ، والحُلْوى عند الجميع فشاذ، فلو كانت فُعْلى اسماً صَحَّتِ الواو كقوله:
أداراً بحزوى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ....... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وقد استُعْمِلَتْ استعمالَ الأسماءِ، فلم يُذْكَرْ موصوفُها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } الأنفال: 67، وقال ابنُ السراج في المقصور والممدود: والدُّنْيا مؤنثةٌ مقصورةٌ ، تُكْتَبُ بالألفِ ، هذه لغةُ نجدٍ وتميمٍ، إلا أنَّ الحجازِ وبني أسد يُلْحِقُونها ونظائرهَا بالمصادرِ ذوات الواو فيقولون : دَنْوَى مثلَ شَرْوى، وكذلك يَفْعَلون بكلِ فُعْلى موضعُ لامِها واوٌ يفتحونَ أوَّلها ويَقْلِبُون ياءَها واواً ، وأمَّا أهلُ اللغةِ الأولى فَيَضُمُّون الدالَ ويَقْلِبُون الواءَ ياءً لاستثقالِهم الواوَ مع الضمةِ .
وقُرئ : "يُرَدُّون" بالغَيْبَةِ على المشهورِ . وفيه وجهان : أحدُهما : أن يكونَ التفاتاً فيكون راجعاً إلى قوله: " أفتؤمنون " فَخَرَج من ضميرِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، والثاني : أنَّه لا التفاتَ فيه ، بل هو راجِعٌ إلى قولِه: "مَنْ يفعَل"، وقرأ الحسن "تُرَدُّون" بالخطابِ ، وفيه الوجهانِ المتقدِّمان ، فالالتفاتُ نظراً لقولِه : " مَنْ يفعل " وعدمُ الالتفات نظراً لقوله : "أفتؤمنون" .
وكذلك { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قُرِئَ في المشهورِ بالغَيْبَةِ والخطابِ ، والكلامُ فيهما كما تقدَّم .