الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا
(26)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الفَاتحَةِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الآيةَ: (4). وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعامِ: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} الْآيَةَ: (73)، وَقَال مِنْ سُورَةِ غَافِر: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الْآيَةَ: (16). والْمَعْنَى فِيهَا جَمِيعًا أَنَّ الْمُلْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، وَلَا فِي قَضَائِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ، ولَكِنَّ حِكْمَتَهُ ـ سُبْحانَهُ، اقْتَضَتْ أَنْ يُنِيطَ بَعْضَ الْأُمُورِ بِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا لِيَصِحَّ التَّكْلِيفُ وَالْحِسَابُ، وَيَحِقَّ الثَّوَابُ وَالْعِقابُ، أَمَّا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْمُلْكَ كُلَّهُ لَهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ وَحْدَهُ.
وَ "الْحَقُّ": هُوَ الْخَالِصُ مِنَ الشَّوَائِبِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ذَهَبٌ حَقًّا، أَي لا شوائبَ فِيهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُتَسَمَّيْنَ بِالْمُلُوكِ لَا يَخْلُو مِنْ نَقْصٍ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُلْكِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُلْكَ الَّذي هُوَ الْمُلْكُ حَقًّا: هُوَ مُلْكُ الرَّحْمَنِ ـ جَلَّ وَعَزَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ سُورةِ غَافِر: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} الآيَةَ: (16)، لِأَنَّ الْمُلْكَ الزَّائِلَ كَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ. "مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْرابُهُ" لَهُ: (4/65).
وَ "الْمُلْكُ الْحَقُّ" ـ أَيْضًا: هُوَ الَّذي لَا يُمَاثِلُهُ مُلْكٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْهُ الْقَلِيلُ ومِنْهُ الكثيرُ، وَقَدْ يَكونُ مَحْدُودَ الْأَجَلِ، وَمَهْمَا طالَ أَجَلُهُ فَهُوَ زائِلٌ لَا مَحَالَةَ، وَأمَّا الْمُلْكُ الْكَامِلُ الذي لا حَدَّ لَهُ إِنَّمَا ولا زوالَ فَهُوَ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، وَلَكِنَّ الْعُقُولَ قَدْ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا فِي الْمُلُوكِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ، وَتَبْهَرُهُمْ بَهْرَجَةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ وَأُعْطِياتِهِمْ فَيَنْسَوْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الجلِيَّةَ الَّتِي لَا مُرْيَةِ فيها، أَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالْحَقَائِقُ مُنْكَشِفَةٌ عاريَةٌ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مِنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ، فِي شَيْءٍ مِنَ الموجودات، وَفِي ما أَخْرجَ الشَّيخانِ وغيرُهُما، مِنْ حَديثِ أبي هُرَيْرَةَ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ)). الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (2/374، برقم: 8850). وَالبُخارِيُّ: (8/135، برقم: 6519)، وَفِي: (9/142، برقم: 7382). ومُسْلِم: (8/126). وَابْنُ مَاجَةَ: (192). وَالنَّسَائيُّ فِي "الْكُبْرَى": (7645).
فيَوْمَئِذٍ لَا مَالِكَ سِوَاهُ لَا فِي الصُّورَةِ وَلَا فِي الْمَعْنَى، فَتَخْضَعُ لَهُ يومئذٍ همةتَحَقَّ عَلَيْهِ شَيْئًاالْمُلُوكُ، وَتَعْنُو لَهُ الْوُجُوهُ، وَتَذِلُّ الْجَبَابِرَةُ، وَ "الْحَقُّ" أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ لَهُ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، أَمَّا غَيْرُهُ إِذَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "لِلرَّحْمنِ". فَفي ذِكْرِ اسْمِهِ "الرَّحْمَن" الَّذي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيُعامِلُ خَلْقَهُ بالرحمةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مَلِكَ يَقْضِي غَيْرُهُ. "تَنْويرُ الْمِقْبَاسِ": (صَ: 352).
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: "الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ" وَحْدَهُ، وَالْيَوْمَ الْكُفَّارُ يُنَازِعُونَهُ فِي أَمْرِهِ. "تَفْسِيرُ مُقَاتِلٍ": (ص: 44 ب).
وَفِي إِضَافَةِ الْمُلْكِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِاسْمِهِ "الرَّحْمَن" ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، مَعَانٍ عَظِيمَةٍ. ذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَاصِرِ بْنِ السَّعْدِيِّ بَعْضَهَا فِي تَفْسيرِهِ فَقَالَ: "الرَّحْمَن" الَّذي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَمَّتْ كُلَّ حَيٍّ، وَمَلَأَتِ الْكائِنَاتِ، وَعُمِّرَتْ بِهَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَمَّ بِهَا كُلُّ نَاقِصٍ، وَزَالَ بِهَا كُلُّ نَقْصٍ، وَغَلَبَتِ الأَسْماءُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ الدَّالَّةَ عَلَى الْغَضَبِ، وَسَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ وَغَلَبَتْهُ، فَلَهَا السَّبْقُ وَالْغَلَبَةُ، وَخَلَقَ هَذَا الآدَمِيَّ الضَّعيفَ، وَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ لِيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَلِيَتَغَمَّدَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَقَدْ حَضَرُوا فِي مَوْقِفِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْتَظِرُونَ مَا يَحْكُمُ فِيهِمْ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَوَالِدِيهِمْ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ؟ وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ رَحْمَتِهِ إِلَّا مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةْ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ. "تَيْسيرُ الْكَريمِ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسيرِ كَلَامِ الْمَنَّانِ": (5/581).
قولُهُ: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} وَلِأَنَّ الْمُلْكَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، وَالْأُمُورَ كُلُّهَا بِيَدِهِ، وَلَا يَدَ فَوْقَ يَدِهِ، وَلَا مَعَها، فَإِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَيَكونُ عَسيرًا على الكافرينَ لِأَنَّهُم سَيَقِفُونَ فيهِ أَمامَ مَوْلَاهُمُ العَظيمِ الَّذي رَتَعُوا فِي نِعْمَتِهِ وَكَفَرُوا بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَكَذَّبوا رُسُلَهُ، ولَمْ يَعْبَؤوا بِرِسَالَتِهِ. وَوُصِفَ ذَلِكَ الْيَوْمُ بِالْعَسِيرِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عَسِيرَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِرَبِّهِمْ وَرُسُلِهِ ورِسالاتِهِ فَإِنَّهُ سهْلٌ يَسِيرٌ عَلَيْهمِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: هُوَ عَلَى الْكافِرينَ عَسِيرٌ، وَهُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَسِيرٍ عَلَيْهِمْ. انْظُرْ "تَنْوِيرُ الْمِقْبَاسِ": (ص: 302) وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في: (8/2683) مِنْ تَفْسيرِهِ، نَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَقَالَ مُقَاتِل بْنُ سُلَيْمانَ: عَسِيرٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِشِدَّتِهِ، وَمَشَقَّتِهِ، وَيَهُونُ عَلَى الْمُؤْمِنينَ كَأَدْنَى صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَانْظُرُ "تَفْسيرُ مُقَاتِلٍ": (ص: 44 ب)، وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسيرِهِ: (8/95 ب)، دُونَ نِسْبَةٍ لأَحَدٍ. وَوَرَدَ بِهَذَا الْمَعْنى حَديثٌ مَرْفُوعٌ إِلى سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قِيلَ: لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمًا كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلَيهَا في الدُّنْيَا)). "الْمُسْنَدُ": (4/151، بِرَقَم: 11717)، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ: (2/527)، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: (6/107).
قولُهُ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} الْمُلْكُ: مَرْفوعٌ بالابْتِداء. و "يَوْمَئِذٍ" ظَرْفٌ مُضافٌ لِمِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "الْمُلْكُ". و "الْحَقُّ" صِفَةٌ لِـ "الْمُلْكُ". وَ "لِلرَّحْمَنِ" اللَّامُ: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَاسْمُ الجلالةِ "الرحمن" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ الْخَبَرُ: "الْحَقُّ"، وَ "يَومَئِذٍ" مُتَعَلِّقٌ بِـ "الْمُلْك". وَاللامُ الجارَّةُ مُتَعَلِّقةً بـ "الْحَقِّ"، أَوْ بِمَحْذوفٍ عَلَى التَّبْيِينِ، أَوْ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهً صِفَةٌ لِـ "الحق". ويَجوزُ أنَّ يتعلَّقَ "يَوْمَئِذٍ" بخَبَرٍ مَحذوفِ، وَ "الحقُّ" نعْتٌ لِلْمُلْكِ. وَ "للرحمن" عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ. وَهذِهَ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِن الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ. و "كان" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مبنِيٌّ على الفَتْحِ، وَاسْمُها ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيها جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعُودُ عَلَى "يَوْمًا"؛ أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم. و "يَوْمًا" خَبَرُها منصوبٌ بها. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَسِيرًا"، و "الْكَافِرِينَ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وَ "عَسِيرًا" صِفَةٌ لِـ "يَوْمًا" منصوبةٌ مِثلُهُ، وَجُمْلَةُ "كان" مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، عَطْفَ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ؛ لِأَنَّها فِي الْأَصْلِ جُمْلَةٌ اسْمِيَّة دَخَلَتْ "كانَ" عليْها، وَيجوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً واَيضًا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.