وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا
(21)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، في الآيةِ: ( مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاق}. أَيْ: لَا يَظُنُّونَ ظَنًّا قَرِيبًا، أَيْ يَعُدُّونَ لِقَاءَ اللَّهِ مُحَالًا. وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ مَقَالِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً عَلَى مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنَ ازْدِهَائِهِمْ وَغُرُورِهِمُ الْبَاطِلِ. فَقولُهُ ـ تَعَالَى، هُنا: "لَا يَرْجُونَ"، هوَ كَقَوْلِهِ في الآيَةِ: (7) مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، أَيْ: لَا يَخْشَوْنَ وَلَا يَخَافونَ، وهِيَ لُغَةُ تَهامَةَ. قَالَهُ أَهْلُ الْمَعَانِي وَالْمُفَسِّرونَ. انْظُرْ "مَعَاني القرآن" للفَرَّاءِ: (2/265). وَ "مَجازُ الْقُرْآنِ" لِأَبي عُبَيْدَةَ: (2/73). وَ "غَريبُ الْقُرْآنِ" لِابْنِ قُتَيْبَةَ: (صَ: 312). وقَدْ حَكَى الْعَلَّامَةُ أَبو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا القوْلَ فِي تَفسيرِهِ: (النُّكَتُ والعيونُ)، وَنَسَبَهُ إِلَى الإِمامِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَنَسَبَ أَيْضًا لِابْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُبَالُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِصَلْبِهِ: لَعَمْرُكَ مَا أَرْجُو إِذَا كُنْتُ مُسْلِمًا ............. عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
تَفْسيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ـ مُحَقَّقًا: (8/2676) عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَريرِ بْنِ حَازِمٍ.
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلًا ثالِثًا وَلَمْ يَنْسِبْهُ لِأَحَدٍ فقالَ بِأَنًّ مَعْنَاهَا: لَا يَأْمُلُونَ. "النُّكَتُ والعُيُونُ": (4/139). وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ كَمَا تَرَى.
وَقالَ أَبو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ فَقِيهُ الشِّيعَةِ وَمُصَنِّفُها ـ كَمَا نَعَتَهُ الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، قَالَ الطُّوسِيُّ فِي تَفْسيرِهِ الْمُسَمَّى: "التِّبْيانُ الْجامِعُ لِعُلُومِ الْقُرْآنَ": (7/482): وَإِذَا اسْتَعْمَلُوا الرَّجَاءَ مَعَ النَّفْيِ أَرَادُوا بِهِ الْخَوْفَ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: (13) مِنْ سُورَةِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {مَالَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}. وقالَ الْقُرْطُبِيُّ في تفسيرِهِ "الْجامِعُ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ": (13/19): يُرِيدُ: لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ وَلِقَاءَ اللهِ ـ تَعَالَى، أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. قالَ الشَّاعِرُ أَبو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
إِذَا لَسَعَتِ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ................. وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلِ
وَأَمَّا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ ابْنُ عَطِيَّةَ الْأَنْدَلُسِيُّ، فَقَدْ ذَهَبَ في تَفْسِيرِهِ إِلَى أَنَّ الرَّجَاءَ هُنَا هُوَ عَلى بَابِهِ؛ لِأَنَّ خَوْفَ لِقَاءِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مُقْتَرِنٌ أَبَدًا بِرَجائِهِ ـ سُبْحانَهُ. وَفِي ذِكْرِ الْكَفَرَةِ بِنَفْيِ الرَّجاءِ عَنْهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى غِبْطَةِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ رَجَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ. وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ أَبو الْقاسِمِ ابْنُ جُزِّيٍّ في تَفْسِيرِهِ المُسَمَّى: "التَسْهيلُ لِعُلومِ التَّنْزيل": (483). وَأَبُو حَيَّانَ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي تَفْسيرِهِ الْمُسَمَّى: "الْبَحْرُ الْمُحيطُ": (6/450). وَالثَّعَالِبيُّ في تَفْسيرِهِ المُسَمَّى: "الْجَوَاهِرُ الْحِسانُ فِي تَفْسيرِ الْقُرْآنِ": (4/206)، وَالْقاضِي الشَّوْكانيُّ في تفسيرِهِ المُسَمَّى: "فَتْحُ الْقَديرِ": (4/67). وقالَ تِلْميذُ ابْنِ جَريرٍ، القاضي أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ كامِلِ بْنِ خَلَفِ بْنِ شَجَرَةَ: "لا يرْجونَ": لَا يَأْمُلُونَ، فقد ذَكَرَ صاحِبُ "صُبْحِ الْأَعْشَى": (5/261)، وَصَاحِبُ "نَظْمُ السِّمْطِ فِي خَبَرِ السِّبْطِ" وغيرُهُما: أَنَّهُ وُجِدَ مَكْتُوبٌ في حَجَرٍ قَبْلَ الْبعْثَةِ بِأَلْفِ سَنَةٍ مَا صُورَتُهُ:
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ............................. شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
وَهَذِهِ حِكَايَةُ مُقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِهمُ السَّفِيهَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ضَعْفِ أَحْلَامِهِمْ وسَفَهِ عُقُولِهِمْ، وَالَّتي سَاقُوهَا لِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَذِكْرِ صِفَتِهِمْ تَعْجِيبٌ مِنْ تَنَاقُضاتِ مَدَارِكِهِمْ. فَقَدْ وَصَفَهُمْ اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، هُنَا بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ لِقاءَ رَبِّهم، أَمَّا فِي الْآيَةِ: (4) السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الْمُبارَكَةِ، فَإِنَّهُ وَصَفَهُم بِـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}، وَفِي الْآيَةِ: ( مِنْهَا وَصَفَهُمْ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، بِـ {الظَّالِمُونَ}. إِذًا فَقَدْ كَذَّبَ المُشركونَ بِلِقَاءِ اللهِ ـ تعالى، في الْآخِرَةِ بِمَا فِي ذَلِكَ رُؤْيَتُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، وَرُؤْيَةُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرامِ، فِي حِينِ أَنَّهم طَلَبُوا رُؤْيَتَهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، وَنُزُولَ مَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، لِيَتَلَقُّوا الدِّينَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً، أَوْ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، دونَ رَسولٍ وسيطٍ مِنَ البَشَرِ.
قوْلُهُ: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} لَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الِاسْتِحَالَةِ وَالتَّعْجِيزِ، والْمَعْنَى: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فَنُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فيما يَدَّعِيهِ مِنْ إِرْسالِ اللهِ ـ تَعَالَى، لَهُ برسالةٍ إلَيْهِم، فَلْيَسْأَلْ رَبَّهُ وَسِيلَةً أُخْرَى لِإِبْلَاغِهم رِسالةَ رَبِّهِمْ، أَوْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ فَيُخْبِرُوهم أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، صَادِقٌ. يُريدونَ ـ لِوَقاحَتِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ مَعَ خَالِقِهِمْ وَمَوْلاهُم، أَنْ يَفْرُضُوا عَلَى اللهِ مَا يَوَدُّونَهُ وَيَشْتَهُونَ، قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤفَكونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تَفْسيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ" قالَ: أَيْ فَنَرَاهُمْ عَيَانًا أَوْ نَرَى رَبَّنَا. تَفْسيرُ ابْنِ أَبي حَاتِمٍ ـ مُحَقَّقًا: (8/2676).
قولُهُ: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} عِيَانًا فَيُخْبِرُنَا بِإِرْسَالِكَ إِلَيْنا. تَعَنُّتًا وتَعْجيزًا، وهَذا كَمَا حاءَ في سُورَةِ الْإِسْراءِ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} الآياتِ: (91 ـ 93) وَنَظَائِرِهَا.
قولُهُ: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} لأَنَّهُمْ إِنَّما سَأَلُوا اللَّهَ ما سَأَلوهُ تَعَنُّتًا منهمْ وَشَطَطًا، فَإِنَّ اللَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لا تَرَاهُ عَيْنٌ ولا يُدْرِكُهُ بَصَرٌ، فَقَدْ جَاءَ فِي الآيَةِ: (103) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعامِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُرَى إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، قالَ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: (22) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُبارَكَةِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ}، يُرِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، وَتَضْرِبُ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ. قَالَ عَطِيَّةُ العَوفِيُّ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَلْقَى الْمُؤْمِنَ بِالْبُشْرَى، فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ الْكَافِرُ تَمَنَّاهُ فَلَمْ يَرَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا.
قولُهُ: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} الْعُتُوُّ: أَشَدُّ الْكُفْرِ، وَشَرُّ التَّعَالي وَالْكِبْرِ، وَأَفْحَشُ الظُّلْمِ وَأَسْوَأُ الْجِبْرِ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، في قَوْلِهُ ـ تَعَالَى: "وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبيرًا" أَنَّ الْمَعْنَى: شِدَّةُ الْكُفْرِ. أَخْرَجَهُ عنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: الْعُتُوُّ في كِتَابِ اللهِ التَّجَبُّرُ. تَفْسيرُ ابْنِ أَبي حَاتِمٍ ـ مُحَقَّقًا: (8/2676).
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ في تَفسيرِهِ: "عَتَوْا" أَيْ: تكبَّروا وَعَلَوْا فِي الْأَرْضِ. تَفْسيرُ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيمانَ: (ص: 44 أ).
وَعُتُوُّهُمْ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فإِنَّهمْ إِذَا لَمْ يَكْتَفُوا بِالْمُعْجِزَاتِ التي جاءَ بِهَا سيِّدُنا مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَالَّتي مِنْها هَذَا الْقُرْآنِ. فَكَيْفَ يَكْتَفُونَ بِالْمَلَائِكَةِ؟ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّمْيِّيزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ؟ وَإذًا فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُعْجِزَةٍ يُقِيمُهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مَلَكٌ بُرْهانًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، مِنْ كوْنِهِ مَلَاكًا مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ. وَلَيْسَ لهم طَلَبٌ مُعْجِزٌ بَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا مُعْجِزَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامً.
قالوا: وَقَدْ نَزَلَتِ هَذِهِ الآيَةُ الكَريمةُ في عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغيرَةَ، وَمِكْرَزِ بْنِ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ، وَعَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أَبي قَيْسٍ الْعَامِرِيِّ، وَبَغيضِ بْنِ عَامِرِ بْنِ هِشَامٍ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ} الوَاوُ: عاطفةٌ، أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَ "قَالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الفتْحِ. وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ باِلْفاعِليَّةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ مَعْطوفةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، في الْآيَةِ: ( مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الْمُبَارَكَةِ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاق}، عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مٌسْتَأْنَفَةً، وَفِي الْحالَيْنِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرابِ. قَوْلُهُ: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لَا: نَافِيَةٌ. وَ "يَرْجُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعلامَةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الْجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالْفَاعِلِيَّةِ. و "لِقَاءَنا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ "الَّذِينَ" فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} لَوْلَا: حَرْفٌ للتَّحْضِيضٍ بِمَعْنَى "هَلَّا". وَ "أُنْزِلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، (مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ)، وَمَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. وَ "عَلَيْنَا" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُنْزِلَ"، والْهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "الْمَلَائِكَةُ" مَرْفوعٌ بالنِّيَابَةِ عنْ فاعِلِهِ، وَالْجُمْلَةُ التَّحْضِيضِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِها مَقُولَ "قالَ".
قولُهُ: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أَوْ: حَرْفٌ للعَطْفِ. وَ "نَرَى" فِعْلٌ مُضارِعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنْ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِها على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى الْمُتَكَلِّمينَ مِنَ المُشْرِكينَ، وَ "رَبَّنَا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "نَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أُنْزِلَ" عَلَى كَوْنِهَا منصوبةً بِـ "قَالَ".
قولُهُ: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} لَقَدِ" اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَ "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقيقِ. و "اسْتَكْبَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الْجَمَاعَةِ، وَوَاوُ الجماعَةِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَالْأَلِفُ هي الفارقةُ، وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ واقعةٌ جَوَابًا للْقَسَمِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وُجُمْلَةُ الْقَسَمِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِدَرْءِ شُبهاتِ الْمُشْرِكينَ وَتَخرُّصاتِهِمْ وَتَعَنُّتاتِهِمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمِ، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} الواوُ: للْعَطْفِ، وَ "عَتَوْا" فِعْلٌ مَاضٍ مبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعَةِ، وَالضَّمُّ مُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذوفةِ لِالْتِقاءِ السَّاكنينِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَالأَلِفُ هِيَ الْفَارِقَةُ، وَ "عُتُوًّا" مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُوليَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فهوَ مَصْدَرٌ، وَقَدْ صَحَّ هَذا الْمَصْدَرُ هُنَا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، بَيْنَمَا أُعِلَّ بالياءِ فِي الآية: ( مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ فَقِيلَ: {عِتِيًّا} لِتَوَاخِي رُؤُوسِ الْفَوَاصِلِ. وَ "كَبِيرًا" صِفَةٌ لِـ "عُتُوًّا" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "اسْتَكْبَرُوا" عَلَى كَوْنِها جَوَابَ الْقَسَمِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.