لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا
(14)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} أَيْ: لَا تَقْتَصِرُوا عَلَى سُؤالِ ثُبُورٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ ثَمَّةَ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ هُنَا، والتَّقْديرُ: يُقَالُ لَهُمْ: "لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا .."، أَيْ: إِنَّهُم دَعَوْهُ ـ سُبْحانَهُ مَقُولًا لَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَذلكَ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَذَا لِتَنْبِيهِهِمْ عَلَى خُلُودِ عَذَابِهمْ في النَّارِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُجابُونَ إِلَى مَا يَدْعُونَهُ وَمَا يَسْأَلونَ، وَلَا يَنَالُونَ مَا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنَ الْهَلَاكِ الْمُنَجِّي مِنَ العذابِ، أَوْ يَكونُ الْآيةُ تَصْويرًا لِحَالِهِمْ، وَتَمْثيلًا لَهُ بِحَالِ مَنْ يُقالَ لَهُمْ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ قَوْلٌ وَلَا خِطَابٌ على وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، أَيْ: دَعَوْهُ حَالَ كَوْنِهِمْ مُسْتَحِقّينَ أَنْ يُقَالَ لَهُم ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ هذا الكَلَامُ مُسْتَأْنَفًا وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَكَأَنَّما قِيلَ: فَمَاذَا يَكُونُ عِنْدَ دُعائِهِمُ الْمَذْكورِ آنِفًا؟ فَقِيلَ: يُقالُ لَهُمْ ذَلِكَ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِمَّا عَلَّقُوا بِهِ آمَالَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ المُنْجِيِ مِنَ العَذابِ، وَتَنْبِيهًا لهمْ عَلَى أَنَّ عَذَابَهُمْ الْمُلْجِئَ لَهُمْ إِلَى سُؤالِ الْهَلَاكِ هو أَمْرٌ أَبَدِيٌّ، وَلَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} وَصْفُ الثُّبُورِ بِالْكَثْرَةِ لِكَثْرَةِ النِّدَاءِ بِهِ، فيَجوزُ أَنْ يَعْنِي هَذَا عَدَمَ حُصُولِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَمَا كانَ ثَمَّةَ مُبَرِّرٌ لِتَكْرَارِ النِّداءِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ التَّكْرَارِ اليَأْسُ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ، فَيَعُودونَ إِلَى التَّحَسُّرِ وَتَمَنِّي أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ لِيَتَخَلَّصُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى الدُّعاءِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَذابٍ. كَمَا قالَ ـ تَعَالى، فِي الْآيَةِ: (36)، مِنْ سُورَةِ فَاطِر: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، وَحِينَ لا يُجابونَ إلى ما سَأَلُوا مِنْ هلاكٍ وفناءٍ، يَلْجَؤُونَ إلى مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ لِيَتوَسَّطَ لهم عندَ رَبِّهُ بأنْ يقضي عليهِم ويُنْهِي حَياتَهُمْ لتنتهي مأساتُهمْ وَيَتَخَلَّصُونَ مِنَ العَذَابِ الشَّديدِ، ولكنَّ مالكًا لا يملكُ لنفسِهِ ضَرًّا ولا نَفعًا ليستطيعَ أَنْ يُسَاعِدَهُم، وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللهُ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُف: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ، قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} الآيةَ: (77).
ولمَّا كانَ إِبْليسُ أَشَدَّ الْخَلْقِ مَعْصِيَةً للهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ يلبَسُ حُلَّةً مِنَ النَّارِ يومَ القيامَةِ، ثُمَّ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ بعدِهِ. فَقد أخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنٌ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْبَعْثِ) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى حِلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجبَيْهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرَّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادي: يَا ثُبُورَاهُ وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ، وَيَقُولُونَ: وَاثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُم: "لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا".
وإِنَّما كانَتْ كَثْرةُ السُّبُورِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، لَا بِحَسَبِ كَثْرَتِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ مَا يَدْعُونَهُ ثُبُورٌ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَكِنَّهُ كُلَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ دُعَاءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدْعِيَةِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يدْعونَ بِها صَارَ ثُبُورًا مُغَايِرًا في شِدَّتِهِ وَطُولِ مُدَّتِهِ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ثُبُورٍ. وَلِأنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ وَأَلْوَانٌ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا ثُبُورٌ في شِدَّتِهِ وَفَظَاعَتِهِ وَيجوزُ أنْ يكونَ سَبَبَ تَعَدُّدِهِ تَجَدُّدُهُ فَإِنَّهُم كُلَّمَّا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بُدِّلُوا جُلودًا غَيْرَهَا كَمَا قالَ ـ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} الآيةَ: (56) مِنْ سورةِ النِّساءِ، واللهُ أعلمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} لَا: ناهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَدْعُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بها، وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لِأنَّهُ مِنَ الأفْعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالْفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. و "الْيَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَدْعُوا". وَ "ثُبُورًا" مَفْعُولُه مَنْصوبٌ بِهِ. وَ "وَاحِدًا" صِفَةُ "ثبورًا" مَنْصوبٌ مِثْلُهُ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الْنَّصْبِ، عَلَى كَوْنِها مَقُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، والتقديرُ: فَيُقَالُ لَهُمْ: "لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا"، وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضميرِ الفَاعِلِ في قولِهِ: "دَعَوْا"، وَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لًا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "ادْعُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النونِ مِنْ آخِرِهِ لِأنَّهُ مِنَ الأفْعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالْفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. وَ "ثُبُورًا" مَفْعُولُه مَنْصوبٌ بِهِ. وَ "كثيرًا" صِفَةُ "ثبورًا" مَنْصوبٌ مِثْلُهُ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "لَا تَدْعُوا" ولها مثلُ إِعْرابِها.