بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا
(11)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} إِضْرَابٌ عَنْ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ بحكايةِ جِنَاياتِهِمُ السَّابقَةِ، وَانْتِقَالٌ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ بِجِنَايَةِ أُخْرَى يَرْتَكِبُونَها حينَ يُكَذِّبونَ بِالسَّاعَةِ، أَيْ بِإِنْكَارِهِمُ الْقِيَامَةَ مِنْ أَصْلِهَا، فَيُنْكِرونَ الْبَعْثَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ والنُّشُورَ مِنَ الْقُبُورِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
وفي اسْتِعْمالِ "بَلْ" إِيذانٌ بِأَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى قَدْ تَمَّتْ وَبَدَأَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى؛ وَفَصْلٍ جديدٍ مِنْ فُصُولِ كُفْرِهِمْ وتعنُّتِهِم، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ النَّملِ: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} الآيةَ: (66).
وَالسَّاعَةُ: جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ، وفي "الصِّحَاحِ" السَّاعَةُ: الْوَقْتُ الْحاضِرُ. تَقُولُ: لِتَأْتِيَني السَّاعَةَ ـ تُريدُ مِنْهُ الإِسْراعَ في الْمَجيءِ، أَيْ: حَالًا فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَالْجَمْعُ: سَاعَاتٌ، وَساعٌ. قَالَ الْقُطَامِيُّ:
وَكُنَّا كَالْحَريقِ لَدَى كِفَاحٍ .......................... فَيَخْبُو سَاعَةً وَيَهُبُّ سَاعَا
وَيُعَبَّرُ بالسَّاعةِ عَنِ الْقِيَامَةِ؛ لِتأْكيدِ مَجِيئها وَسُرْعَةِ حُضورِهَا، وَسُرْعَةِ الحِسَابِ فِيهَا، وشِدَّةِ أَهْوالهَا، وَسَاعَةٌ سَوْعاءُ، أَيْ شَديدَةٌ. كَمَا تَقُولُ عَنِ الليلة الشَّديدةِ أَهْوالُها: هي لَيْلَةٌ لَيْلَاءُ. والْمُساوعَةُ مِنَ السَّاعَةِ، كالْمُياوَمَةِ مِنَ الْيَوْمِ، فيُقالُ: عَامَلْتُهُ مُسَاوَعَةً، كَمَا يُقالُ مُياومةً مِنَ اليومِ.
قولُهُ: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} أَيْ: أَعْدَدْنَا وهَيَّأْنَا لَهُمْ نَارًا حامِيَةً عَظِيمَةً شَديدَةَ الاشْتِعالِ. بِسَبَبِ تَكْذيبِهِمْ بِهَا عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ وَضْعُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُشركينَ، وَيشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ بالسَّاعةِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فهُو دَاخِلٌ فِي زُمْرَتِهِمْ.
أَيْ: وَالْحالُ أَنَّا قَدْ أَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا سَعِيرًا، فَإِنَّ تَكْذيبَهُمْ وَعَدَمَ خَوْفِهم مِمّا أُعِدَّ لِمَنْ كَذَّب بِالسَّاعَةِ الْعَجَيبَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُون بِالسَّاعةِ فَكَيْفَ يَقْتَنِعُونَ بِهَذَا الْجَوَابِ وَكَيْفَ يُصَدِّقونَ بِتَعْجيلِ مِثْلِ مَا وَعَدَكَ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ كَذَّبُوا بِهَا فَقَصُرَتْ أَنْظَارُهُمْ عَلَى الْحُظُوظِ الدُّنْيَوَّيَةِ وَظَنُّوا أَنَّ الْكَرَامَةَ لَيْسَتْ إِلَّا بِالْمَالِ وَجَعَلُوا فَقْرَكَ ذَريعَةً لِتَكْذِيبِكَ.
وَوَضَعَ السَّاعَة مَوْضِعَ ضَمِيرِهِا فقالَ: "وأعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بالسَّاعَةِ" مُبَالَغَةً فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مُنْكِريهَا، وَكَانَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ: "وأَعْتدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بها" على اعْتِبَارِ أَنَّ السَّاعةَ قَريبَةُ الذِّكْرِ في الآيةِ.
وَ "السَّعِيرُ" كَصَرِيعٍ النَّارُ المُلْتَهِبَةُ. السَّعِيرُ: الْمَسْعُورُ، وَسَعَرَ النّارَ، والحَرْبَ، وَسَعَّرَها تَسْعِيرًا، مِنْ بابِ "مَنَعَ" يَسْعَرُهَا سَعْرًا، وَأَسْعَرَهَا إِسْعَارًا: أَوْقَدَها، وَهَيَّجَها.
والسُّعْرُ بالضَّمّ: الحَرُّ، أَيْ حَرُّ النَّارِ، كَالسُّعَارِ كَغُرَابٍ. السُّعْرُ بِالضَّمِّ، والسُّعُرُ بِضَمّتَيْنِ: الْجُنُونُ. وَالسُّعْرُ أيْضًا ـ بالضَّمِّ: الْجُوعُ. يُقَالُ سُعِرَ الرَّجُلُ، فَهُوَ مَسْعُورٌ إِذَا اشْتَدَّ جُوعُهُ وَعَطَشُه.
والسَّعِرُ ك "كَتِفٍ": هُوَ الْمَجْنُون، وَيُجْمَعُ عَلَى سَعْرَي، مِثْلُ كَلِبٍ وكَلْبَي.
وَالسِّعْرُ بِالْكَسْرِ: هُوَ ما يَقُومُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَيُجْمَعُ على أَسْعَارٍ. وَأَسْعَرُوا وسَعَّرُوا تَسْعِيراً بِمَعْنًى وَاحِدٍ: أَيْ اتَّفّقُوا عَلَى سِعْرٍ. وَأَسْعَرَ الشَّيْءَ وَسَعَّرَهُ: إِذا بَيَّنَهُ وَفِي الْحَديثِ الشَّريفِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: غَلَا السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ، سَعِّرْ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّزَّاقُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مَالٍ)). أَخْرَجَهُ الأَئمَّةُ: أَحْمَدٌ في مُسْنَدَهِ: (3/286، برقم: 14103). وَالدَّارِمِيُّ برقم: (2545). وَأَبُو دَاوُدَ: (3451). وَابْنُ مَاجَةَ برقم: (2200). وَالتِّرْمِذِيّ برقم: (1314). أَيْ أَنَّ اللهَ هُوَ الذي يُرْخِصُ الأَشياءَ ويُغْلِيها فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّسْعِيرُ. وَفلانٌ مِسْعُرُ حَرْبٍ: أَيْ مُوقِدُ نَارِ الحَرْبِ وَفِي الْحَديثِ الشَّريفِ قولُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وَأَمَّا هَذَا الْحَيُّ مِنْ هَمْدَانَ فأَنْجَادٌ بُسْلٌ مَسَاعيرُ غَيْرُ عُزلٍ)). وَالْمِسْعَرُ ـ أَيْضًا: الطَّوِيلُ مِنَ الأَعْنَاقِ. قالَ الشَّاعِرُ الرَّاعي النُّمَيْرِي عَلَى المُتقارَبِ:
وَحَارَبَ مِرْفَقُهَا دَفَّهَا ................................ وسامَى بها عُنُقٌ مِسْعَرُ
والسُّعَارُ كَ "غُرَابِ": الجُوعُ أَوْ شِدَّتُهُ وَلَهِيبُهُ
قولُهُ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} بَلْ: حَرْفُ عَطْفٍ وَإِضْرَابٍ، أُضْرِبَ بِهَا عَنْ تَوْبِيخِهِمْ بِحِكَايَةِ جِنَايَاتِهِمُ السَّابِقَةِ، وَانْتُقِلَ مِنْهُ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ بِحِكَايَةِ جِنَايَاتِهِمُ الْأُخْرَى، لِلتَّخَلُّصِ إِلَى بَيَانِ مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ فُنُونِ الْعَذَابِ. و "كَذَّبُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الْجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكُونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالْفَاعِلِيَّةِ. و "بِالسَّاعَةِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَذَّبُوا"، وَ "السَّاعَةِ" مَجْرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أَوْ هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ} الوَاوُ: ، وَ "أَعْتَدْنا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، وَ "نَا" التَّعْظِيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و "لِمَنْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعْتَدْنَا"، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ بِمَعنى "الَّذي"، مَبْنِي عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كَذَّبُوا" عَلَى كونِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} كَذَّبَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ جَوازًا تَقديرُهُ (هو) يعودُ عَلَى "مَنْ". وَ "بِالسَّاعَةِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَذَّبَ"، وَ "السَّاعَةِ" مَجْرورٌ بحَرْفِ الْجَرِّ. و "سَعِيرًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ "مَنْ" الْمَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.