الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم
نأليف: عبد القادر الأسود
الجزء: 18
المُجَلَّد: 36
سورةُ النُّور الآيةَ: 63..
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(63)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الدُّعَاءُ هَنَا مَصْدَرُ دَعَاهُ يَدْعُوهُ إِذَا نَادَاهُ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَدْعوهُ لِلْحُضُورِ.
فَيَكونَ مُضافًا للفَاعِلِ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْخِيَارِ فِي حُضُورِ الْمَجامِعِ التي يَدْعُوهَمْ إِلَيْهَا الرَّسولُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَعَلَيْهِمْ أَلَّا يَجْعَلُوا اسْتِجَابَتَهُمْ لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِذا دَعَاهُمْ لِلْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، كاسْتِجابَتِهِمْ دَعْوَةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، إِذْ لَيْسَ لَهُمْ خِيَارٌ فِي الاسْتِجَابَةِ إِلَيْها، كَمَا هُمْ مُخَيَّرُونَ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ بَعْضِهِمْ لبَعْضٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: أَمَرَ اللهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ، وَأَنْ يُبَجَّلَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، وَأَنْ يُفَخَّمَ وَيُشَرَّفَ.
فإِنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، رَسولًا مِنَ اللهِ مُلْزَمٌ بِالِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ: (24) مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ حَيْثُ قَالَ ـ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. وَقَدْ فَصَّلْنا فِي ذَلِكَ هُنَاكَ وَبَيَّنَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فلْيَرْجِعْ إِلَيْها مِنْ يُرِدِ الاسْتِزادَةَ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لَا يَكونُ إِلَّا بِدَعْوَةٍ مِنُهُ، وتَلْبِيَةُ دَعْوتِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنينَ، فَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ ـ تَعَالَى، أَنْ لَا يَنْصَرِفُوا إِلَّا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، لِأَنَّهُمْ إِنَّما يَكُونُونَ في واجِبٍ دِينِيٍّ أَلْزَمَهُمُ الشَّرْعُ الْحَنيفُ بِأَدَائِهِ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ المُبرِّدُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ إِيَّاكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضٍ لِبَعْضٍ فَتَتَبَاطَؤُونَ عَنْهُ، كَمَا يَتَبَاطَأُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ إِذَا دَعَاهُ لِأَمْرٍ، بَلْ يَجْبُ عَلَيْكُمُ الْمُبَادَرَةُ لِأَمْرِهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: "فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ". وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ رَبَّهُ مِثْلَ مَا يَدْعُو صَغيرُكمْ كَبيرَكُمْ، وَفَقِيرُكمْ غَنِيَّكُمْ يَسْأَلُهُ حَاجَةً، فَرُبمَّا تُجابُ دَعْوَتُهُ، وَرُبَّمَا لَا تُجابُ. وَإِنَّ دَعَواتِ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، مَسْمُوعَةٌ مُسْتَجَابَةٌ.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ لِحَثِّهم عَلَى تَلَقِّي هَذا التَّكْليفِ بِانْتِبَاهٍ وفَهْمٍ واهتمتمٍ، وَإنَّما الْخِطَابُ للْمُؤْمِنين الَّذين تَحَدَّثَ عَنْهُمْ اللهُ ـ تَعَالَى، مِنْ قبلُ في الآيةِ (62) السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} إِلَخْ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرادَ نَهْيُهُمْ عَنْ دُعائِهِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، عِنْدَ مُنَادَاتِهِ، لَفْظًا كَمَا كانَوا يَدْعُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنْ مِنْ حيثُ اللَّفْظِ، كَأَنْ يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَيَكونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِمَفْعُولِهِ، أَيْ: دُعَاءَكُمُ الرَّسُولَ بِمَعْنَى: لَا تُنَادُوهُ بِاسْمِهِ فَتَقُولُونَ: يَا ُمَحَّمدُ، وَلَاِبكُنْيَتِهِ فَتَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقاسِمِ، بَلْ نَادُوهُ وَخَاطِبوهُ بِالتَّوْقَيِرِ: فقولوا يَا رَسُولَ اللهِ، يَا َنَبِيَّ اللهِ. وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةُ العَدَدِ مِنَ المُفَسِّرينَ. فَقَدْ أَخرجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "دَّلَائِلُ النُّبوَّةِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا"، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ إِعْظَامًا لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ
أَيْضًا فِي الآيةِ: يَعْنِي كَدُعاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا دَعَا أَخَاهُ بِاسْمِهِ، وَلَكِنْ وَقِّرُوهُ، وَعَظِّمُوهُ،
وَقُولُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا نَبِيَّ اللهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ ابْنُ سَعِيدٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُما، أَنَّهُ قالَ أَيْضًا فِي الآيةِ: يُرِيدُ وَلَا تَصِيحُوا بِهِ مِنْ بَعِيدٍ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي الْآيَةِ: (3) مِنْ سُورةِ الْحُجُرَاتِ: {إِنَّ الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ..}.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: لَا تَقولُوا يَا مُحَمَّدُ، وَلَكِنْ قُولُوا يَا رَسُولَ اللهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، أَنَّهُما قَالَا فِي الْآيَةِ مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَدْعُوهُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ فِي تجَهُّمٍ.
وإِنْ مِنْ حَيْثُ الهَيْئَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدْعُوهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ قالَ ـ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الآيةَ: (4) مِنْ سُورةِ الحُجُراتِ، كما نَهَاهُمْ أَنْ يُلِحُّوا فِي دُعَائِهِ حتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فقَالَ في الآيَةِ الَّتي بَعْدَهَا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآيةَ: (5) مِنْ سورةِ الْحُجُراتِ. لِأَنَّ في ذَلِكَ جَلَافَةٌ لَا تَلِيقُ بِعَظَمَةِ قَدْرِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أَدَّبَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بهَذا الْأَدَبِ العظيمِ لِيبْتَعِدوا عَنْ أَذَى الْمُنَافِقين لِنَبِيِّهِ الكَريمْ ـ عليْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَكْمَلُ التَّسْليمِ. فَيكونُ الْمَعْنَى ـ بِحَسَبِ هَذا التَّأْويلِ: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَمَا جَعَلَ الْمُنَافِقُونَ دُعاءهُ بَيْنَهُمْ وَتَوَاطَؤوا عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنهُمْ مَنْ أَوَّلَ الدُّعاءَ بِأَنَّهُ دُعاءٌ مِنَ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ، علَيْهمْ إنْ هُم لمْ يَلْتَزِمُ الْأَدَبَ مَعَهُ، فَيَكونُ الْمَعْنَى لَا تحْسَبُوا دُعاءَ الرَّسولِ عَلَيْكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فإِنَّ دُعاءَهُ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مُسْتَجابٌ لَا مَحَالَةَ.
فَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الإِمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ فِي الْآيَة: لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ عَلَىَ بَعٍضٍ.
ونقل الإِمامُ القرْطُبِيُّ في تفسيرِه: (12/322) عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ في تأويلِ هَذِهِ الآيَةِ، المعنَى: لَا تَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ بِإِسْخَاطِهِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُوجِبَةٌ.
وكذلِكَ فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاس ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْويلِ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بعْضًا" يَقُولُ: دَعْوَةُ الرَّسُولِ عَلَيْكُم مُوجِبَةٌ فَاحْذَرُوها. لَكِنَّ التَّأْويلَ الْأَوَّلُ هُوَ أَلْصَقُ بِالسِّيَاقِ وَأَوْثَقُ، وَاللهُ تَعَالى أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} جِيءَ بِـ "قَدْ" هُنَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّهُمْ كانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا تَسَلَّلُوا مُتَسَتِّرِينَ بِالظَّلامِ أَوْ بغيرِهِ، لَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَلَنْ يُطْلِعَهُ أَحَدٌ عَلَى ما يفعلونَهُ، فَأَعْلَمَ اللهُ ـ تَعَالَى رَسُولَهُ بِذَلِكَ. وَكثيرًا مَا يَكونُ دُخُولُ "قَدْ" عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ للتَّحْقِيقِ، وَإِنْ كانَ الأَصْلُ فيهِ التَّقْلِيلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ "قَدْ" فِيهِ بِمَنْزِلَةِ "رُبَّ" كَما هِيَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْأَحْزابِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} الْآيةَ: (18)، وَكَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الشَّاعرِ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ...................... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ
وَالتَّسَلُّلُ: مِنَ الِانْسِلَالِ، وهُوَ الْخُرُوجِ ِخِفْيَةً، كَأَنَّما سَلُّ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. فيُقَالُ: تَسَلَّلَ فلانٌ، أَيْ تَكَلَّفَ الِانْسِلَالَ كَمَا يُقَالُ: تَدَخَّلَ إِذَا تَكَلَّفَ إِدْخَالَ نَفْسِهِ في الأَمْرِ.
وَاللِّوَاذُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللَّوْذِ، مَصْدَرُ "لَاوَذَهُ"، إِذَا لَاذَ بِهِ وَلَاذَ بِهِ الْآخَرُ. فَاللِّوَاذُ مِنَ الْمُلَاوَذَةِ، وَهِيَ أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ مَخَافَةَ مَنْ يَرَاكَ، شُبِّهَ تَسَتُّرُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ عَنِ اتِّفَاقٍ فِيَمَا بَيْنَهُم، وَتَآمُرٍ لِلِانْصِرَافِ خُفْيَةً بِلَوْذِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وكَأَنَّما سَتَرَ بعضُهُمْ بعْضًا حَينَ الخْرُوجِ، فَيَكونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَاذَ بِهِ، فَقد كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: فِي قَوْلِهِ "لِوَاذًا" قَالَ: خِلافًا.
وَ "لِوَاذًا" مَصْدَرٌ جاءَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُتَلَاوِذِينَ، يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، يَنْضَمُّ إِلَيْهِ اسْتِتَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَثْقَلُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحُضُورِ الْخُطْبَةِ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فِي الْجِهَادِ رُجُوعًا عَنْهُ، يَلُوذُ بَعْضُهم بِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لِوَاذًا" فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
وَقُرَيْشٌ تَجُولُ مِنَّا لِوَاذًا ........................... لَمْ تُحَافِظْ، وَخَفَّ مِنْهَا الْحُلُومُ
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا"، قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ (وَيَعْنِي بِالْحَدِيثِ خُطْبَةَ يومِ الجُمُعَةِ) فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ لَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ النَّبِيِّ ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي يَوْمِ الْجُمُعَة بَعْدَمَا يَأْخُذُ فِي الْخُطْبَةِ، وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْذَنُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ لِأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْطُبُ بَطُلَتْ جُمُعَتُهُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ مُقَاتِلٍ أَيْضًا أَنْهُ قَالَ: كَانَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِرُعافٍ، أَوْ أَحْدَاثٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُشِيرُ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهامَ، فَيَأْذَنُ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ. وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقينَ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ إِذا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ الْمُنَافِقُ إِلَى جَنْبِهِ يَسْتَتِرُ بِهِ حَتَّى يِخْرُجَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: "قَدْ يَعْلُمُ اللهُ الَّذينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا"، قَالَ: يَتَسَلَّلُونَ عَنْ نَبِيِّ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، وَعَن كِتَابِهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ.
وَقد صَحَّتْ وَاوُهَا لِتَحَرُّكِهَا فِي "لَاوَذَ". فَيُقَالُ، لَاوَذَ يُلَاوِذُ مُلَاوَذَةً وَلِوَاذًا.
وَلَاذَ يَلُوذُ لَوْذًا وَلِيَاذًا، فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا اتْبَاعًا لِـ "لَاذَ" فِي الِاعْتِلَالِ، فَإِذَا كَانَ مَصْدَرُ "فَاعَلَ" لَمْ يُعَلَّ، لِأَنَّ "فَاعَلَ" لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِتَهْدِيدِ أُؤلئِكَ الْمُتَسَلِّلينَ مِنَ المُنافقينَ الَّذينَ عَرَّضَتْ بِهِمُ الآيةُ: (62). السَّابِقَةُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَلِتَحْذِيرِهِمْ بِسُوءِ عَاقِيَةَ تَسَلُّلِهِمْ خِلْسةً دُونَ اسْتِئذانِ النَّبيِّ ـ صَلّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَدْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَاطَّلَعَ عَلَى تَسَلُّلِهِمْ وَتَهَرُّبِهِمْ مِنَ الْمُشارَكَةِ فيما مِنْ شأْنِهِ حِمَايَةُ الْمَدينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
الَّتي تَحْوِي أَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَذَويهِمْ.
وَتُؤَكِّدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْكَريمَةُ صِحَّةَ مَا ذَهَبْنِا إِلَيْهِ تَوًّا مِنْ تَرْجِيحِ التَّأْويلِ الْأوَّلِ لِلْجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَها عَلَى التَّأْويلِ الثَّاني، إِذْ تَتَحَدَّثُ عَنِ الْمُنافِقِينَ الَّذينَ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ لِيَتَهَرَّبوا مِنَ المُشاركَةِ في حَفْرِ الْخَنْدَقِ دُونَ الْمَدينَةِ لِحِفْظِها مِنِ اقْتِحامِ الْمُشْركينَ لَها يَوْمَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، كَمَا ذُكِرَ في أَسْبابِ النُّزُولِ.
قَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} تَفْريعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذًا" للتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، مُطَّلِعٌ عَلَى تَسَلُّلِهِمْ، وسَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى فَعْلَتِهِمُ الشَّنيعَةِ تِلْكَ.
وَمَعْنَى: "يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ" يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ ـ رَحِمَهُما اللهُ: "عَنْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالْمَعْنَى: يُخَالِفُونَ بَعْدَ أَمْرِهِ، فهُوَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ في مُعَلَّقَتِهِ الشَّهِيرَةِ:
وَتُضْحِي فَتِيتُ الْمِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا ........ نَؤُومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الكَهْفِ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الالآيةَ: (50)
أَيْ بَعْدَ أَمْرِ رَبِّهِ. وَ "أَنْ" فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِـ "يَحْذَرِ". وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ حَذِرَ زَيْدًا، وَهُوَ فِي "أَنْ" جَائِزٌ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْخَفْضِ تُحْذَفُ مَعَهَا.
وفي عائديةِ الضميرِ مِنْ "أَمْرِهِ" قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَام ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: هُوَ عائدٌ إِلَى أَمْرِ رَسُولِهِ ـ عَلَيْهِ وَآلِهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَوَجْهُهَا أَنَّ اللَّهَ
ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَدْ حَذَّرَ مِنْ مًخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" فَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَيَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنّفِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَصْحَابَهُ أَنْ يُقاتِلُوا نَاحِيَةً مِنْ خَيْبَر فَانْصَرَفَ الرِّجَالُ عَنْهُمْ، وَبَقِيَ رَجُلٌ فَقَاتَلَهُمْ، فَرَمَوْهُ فَقَتَلُوهُ، فَجِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَبَعْدَ مَا نَهَيْنَا عَنِ الْقِتَالِ؟)) فَقَالُوا: نَعَم. فَتَركَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. المُصَنَّف: (5/178).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: أَشَدُّ حَدِيثٍ سِمِعْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ فِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي أَمْرِ الْقَبْرِ.
وَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكٍ، قَالَ لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إِلَّا رَجُلٌ مُقْوٍ، فَخرَجَ رَجُلٌ عَلَى بَكْرٍ لَهُ صَعْبٍ، فَصَرَعَهُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: الشَّهِيدَ الشَّهِيدَ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلَالًا أَنْ يُنَادي فِي النَّاسِ: لَا يَدْخُلُ الْجنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمنَةٌ، وَلَا
يدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاصٍ. المُصَنَّف: (5/178).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لِأَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْعَدُوَّ: لَا يُقَاتِلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَعَمِدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَرَمَى الْعَدُوَّ وَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اسْتُشْهِدَ فُلَانٌ، فَقَالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((أَبَعْدَ مَا نَهَيْتُ عَنِ الْقِتَالِ؟)). قَالُوا: نَعَم. قَالَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاصٍ)). المُصَنَّف:
(5/178).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الهَمْدَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ في الآيَةِ: إِنِّي لَخَائِفٌ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنْ يَكونَ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ، أَوْ يُصيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".
قوْلُهُ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: يُصيبُهُم مِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما: الْفِتْنَةُ هُنَا الْقَتْلُ. وقالَ عَطَاءٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ. وقالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: هُوَ سُلْطَانٌ جَائِرٌ يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ بِشُؤْمِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا"، قَالَ: يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَالِ، و "فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ"، قَالَ: أَنْ يُطْبَعَ عَلى قُلُوبِهِمْ. فَكَانَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَتَخَلَّفَ بَعْدَهُ إِذَا غَزَا، وَلَا تَنْطَلِقُ سَرِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلم يَجْعَلِ اللهُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَأْذَنَ لِأَحَدٍ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَإِذا كَانُوا مَعَه عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}، يَقُولُ: أَمْرِ طَاعَةٍ، و {لِمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنوهُ}، فَجَعَلَ الإِذْنَ إِلَيْهِ، يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ، فَكَانَ إِذَا جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النَّاسَ لِأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهاهُمِ، صَبَرَ الْمُؤْمِنُونَ فِي مجَالِسِهِمْ، وَأَحَبُّوا مَا أَحْدَثَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَبِمَا أَحبُّوا وَكَرِهُوا، فَإِذا كَانَ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ المُنَافِقُونَ، خَرَجُوا يَتَسَلَّلُونَ، يَلوذُ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ، يَسْتَترُ لكَيْ لَا يَرَاهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُبْصِرُ الَّذينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا
قوْلُهُ: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فِي الآخِرَةِ، وهوَ تَحْذيرٌ لهُمْ مِنْ مُخالفةِ الرَّسولِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ، وفيهِ دلالةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإيجاِبِ، فَإِنَّ تَرْتيبَ العَذَابَيْنِ ـ هَذَا وَالَّذي قَبْلَهُ، عَذَابَ الدُّنْيا وَعَذابَ الآخِرَةِ، عَلَى مُخَالَفَتِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَمَا يُعْرِبُ عَنْهُ التَّحْذيرُ عَنْ إِصَابَتِهِمَا، والرُّجوعِ بهما، أقْصِدُ عَذَابَ الدُنيا والآخِرةِ، يَفْرِضُ وُجوبَ الامْتِثالِ بِالأَمْرِ، حَتْمًا.
قولُهُ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} لَا: ناهِيَةٌ جَازِمَةٌ. وَ "تَجْعَلُوا": فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ الجازمةِ، وعلامةُ الجَزْمِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهَ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الررَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "دُعَاءَ" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ منصوبٌ بِهِ وهوَ مُضافٌ، و "الرَّسُولِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "بَيْنَكُمْ" بَيْنَ: مَنْصوبٌ عَلى الظَّرفيَّةِ الاعْتِباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ "الرَّسُولِ" وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "كَدُعَاءِ" الكافُ: اسْمَ بِمَعْنَى "مِثْل" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفعولِيَّةِ على كونِهُ الْمَفْعُولَ بِهِ الثَّانِيِ لِـ "جَعَلَ". وهُوَ مُضافٌ، و "دُعَاءِ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، ومُضافٌ، "بَعْضِكُمْ" بَعْضِ: مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "بَعْضًا" مَفْعُولٌ بِهِ للمَصْدَرِ "دُعَاءِ" مَنْصوبٌ. وَإِضَافَةُ "دُعاءَ" إِلَى "الرَّسُولِ" هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَيكونَ الْفَاعِلُ الْمُقَدَّرُ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَكُمُ الرَّسُولَ، فَالْمَعْنَى نَهْيُهُمْ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلَيْسَ لَها مَحَلَّ مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ} قَدْ: حَرْفٌ للتَّكثيرِ بِمَعْنَى: "رُبَّما". فإنَّ "قَدْ" مَعَ الفعلِ الْمُضَارِعِ تَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيلِ إِلَّا فِي أَفْعَالِ اللهِ ـ تَعَالَى، فَتَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ والتكْثيرِ ـ كما هِيَ هُنَا في هَذِهِ الآيَةِ الكريمَةِ. وَقَدْ رَدَّها بَعْضُهُمْ إِلَى التَّقْلَيلِ لَكِنْ إِلَى مُتَعَلِّقٍ العِلْمِ، يَعْني أَنَّ الفَاعِلِينَ لِذَلِكَ قَلِيلٌ، فَالتَّقْليلُ لَيْسَ فِي الْعِلْمِ بَلْ فِي مُتَعَلَّقِهِ، والأَوَّلُ أَصْوبُ، واللهُ أَعلَمُ. وَ "يَعْلَمُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. ولفظُ الجَلالَةِ "اللَّهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قوْلُهُ: {يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} يَتَسَلَّلُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والْجازمِ، وَعَلَامَةُ رَفعِهِ ثباتُ النُّونِ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهَ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الررَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "مِنْكُمْ" مِنْ: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَتَسَلَّلُونَ"، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "لِوَاذًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى قولِكَ: يَتَسَلَّلُونَ تَسَلُّلًا، أَوْ يُلاوِذُونَ لِوَاذًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ اسْمِ الْفَاعِلِ، بِمَعْنَى مُلَاوِذِينَ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ "الَّذينَ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} الفَاءُ: هِيَ الْفَصِيحَةُ؛ لِأَنَّهَا أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتمْ عِلْمَ اللهِ بالْمُتَسَلِّلِينَ، وَأَرَدْتم بَيانَ مَا هُوَ الْأَحْوَطُ لَكُمْ، فَأَقُولُ: لِيَحْذَرُوا. وَاللَّامُ: هِيَ لَاُم الْأَمْرِ. و "يحذر" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِـ
"لامِ الْأَمْرِ"، وقدْ حُرِّكَ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ في محَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. وَهَذا الوَجْهُ، هُوَ الَأشْهَرُ، وَهُوَ الَّذي لَا يَعْرِفُ النُّحاةُ غَيْرَهُ وَهُوَ أنَّ الاسْمَ الْمَوْصُولَ هُوَ الْفاعِلُ، وَجملةُ "أَنْ تَصِيبَهم" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولًا بِهِ أَيْ: فَلْيَحْذَرِ الْمُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ إِصَابَتَهُمْ فِتْنَةٌ. وَقيل: يَجُوزُ أَنْ يَكونَ الفَاعِلُ ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا، وَيَكونَ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ مَفْعُولًا بِهِ. وَقَدْ رُدَّ هذا الوجْهُ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا: أَنَّ الإِضْمَارَ هُنَا سَيَكونُ عَلَى خَلَافِ الْأَصْلِ. وَفي هَذَا الرَّدِّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإْضْمَارَ هوَ في قُوَّةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، فَلَا يُقاُل: هُوَ خِلَافُ اْلأَصْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ نحوَ قولِكَ: "قُمْ" و "لْتقم" فاعِلُهُ مُضْمَرٌ، وَلَمْ يَقُلْ أحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهُ: إِنَّههُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنَّما يكونُ اْلإِضْمَارُ خَلافَ الْأَصْلِ فِيمَا كَانَ حَذْفًا نَحْوَ قولِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} الآيةَ: (82).
وَمِنْ هَذِهِ الاعتراضاتِ الَتي ورَدَت: أَنَّ هَذَا الضَّميرَ لَا مَرْجِعَ لَهُ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا. وَقَدْ أُجِيبَ عنْهُ: بِأَنَّ الذي يَعودُ عَلَيْهِ الضَّميرُ هُوَ الاسْمُ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ: فَلْيَحْذَرِ الْمُتَسَلِّلون الْمُخَالِفينَ عَنْ أَمْرِهِ، فَيَكُونُونَ قَدْ أُمِرُوا بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ، أَيْ: أُمِرُوا بِاجْتِنابِهِمْ كَمَا يُؤْمَرُ بِاجْتِنابِ الْفُسَّاقِ. ورُدَّ عليْهِ بِأَنَّ الضَّميرَ مُفْرَدٌ، وَالَّذي يَعُودُ عَلَيْهِ جَمْعٌ، ففاتَتْ بِذَلِكَ الْمُطابَقَةُ الَّتِي تُعَدُّ شَرْطًا فِي تَفْسيرِ الضَّمَائِرِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجابَ عَنِ هَذا: بِأَنَّ الضَّميرَ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فَإِنَّما عَادَ عَلَى جَمْعٍ بِاعْتِبارِ أَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَحْذَرْ هُوَ. أَيْ: مِنْ ذِكْرِ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: "ضَرَبَني قومُكَ" وَ "ضَرَبْتُ قَوْمَكَ" أَيْ: ضَرَبَني مَنْ ثَمَّ وَمَنْ ذُكِرَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْروفَةٌ في النَّحْوِ، أَوْ يَكونُ التَّقْديرُ: فَلْيَحْذَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَسَلِّلين.
ثُمَّ إِنَّ الْمُتَسَلِّلينَ هُمُ الْمُخالِفُونَ، فَلَوْ أُمِرُوا بِالْحَذَرِ عَنِ الَّذينَ يُخالِفُونَ لَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ غيرُ جائزٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُجابَ عَنْ هَذا: بِأَنَّهُ يَجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنْسانُ بِالْحَذَرِ عَنْ نَفْسِهِ مَجَازًا. يَعْنِي أَنْ لَا يُطاوِعَهَا عَلَى شَهَوَاتِها، وَمَا تُسَوِّلُهُ لَهُ مِنْ سُوءٍ. فكَأَنَّما قِيلَ: فَلْيَحْذَرِ الْمُخالِفُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَلَا يُطِيْعوَها في مَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ شهواتِها ورعوناتِها، وَلِهذَا يُقالُ: فُلانٌ أَمَرَتْهُ نَفْسُهُ بكَذا، وَأَمَرَ فلانٌ نَفْسَهُ بكَذا مِنْ فعلِ الخَيرِ، ونَهَاهَا عَنْ كَذا مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِ بِاعْتِبارِ الْمَجَازِ.
وَمِنْ هَذِهِ الاعْتِراضَاتِ أَيْضًا: أَنَّ قَوْلَهُ: "أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، يَصيرُ مُفْلَتًا ضَائِعًا؛ لِأَنَّ "يَحْذَرُ" يَتَعَدَّى لِمَفعولٍ وَاحِدٍ، وقَدَ أَخَذَهُ عَلَى زَعْمِكم، وَهُوَ "الَّذينَ يُخالِفُونَ"، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ حَتَّى يَقُولوا: إِنَّ "أَنْ تُصيبَهم فِتْنَةٌ" فِي مَحَلِّ مَفْعُولِهِ الثَّانِي فَبَقِيَ ضائعًا. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ ضَيَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلشهِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ النَّصْبِ لِاخْتِلَافِ الَفاعِلِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ الحَذَرِ غَيْرُ فَاعِلِ الْإِصَابَةِ، وَهُوَ ضَعيفٌ؛ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ يَطَّرِدُ مَعَ أَنْ وَ "أَنّ"َ. فَنَقُولُ: مُسَلَّمٌ شُرُوطُ النَّصْبِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ تَقْدِيرًا، وَإِنَّما حُذِفَتْ مَعَ "أَنْ" لِطُولِها بِالصِّلَةِ. وَالْجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها مَقُولَ القولِ لِجَوَابِ "إِذَا" الْمُقَدَّرَةِ.
قَوْلُهُ: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يُخالِفونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والْجازمِ، وَعَلَامَةُ رَفعِهِ ثباتُ النُّونِ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهَ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الررَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "عَنْ" حرفُ جَرٍّ زائدٍ. وهُوَ ما نَحَا إِلَيْهِ سعيدٌ الأَخْفَشُ، وَأَبُو عُبَيْدَةُ، وَالزِّيادَةُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَقَدْ يَتَعَدَّى هَذَا الفِعْلُ "يُخالِفُون" بِنَفْسِهِ نَحْوَ قَوْلِكَ: خَالَفْتُ أَمْرَ زَيْدٍ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِـ "إِلَى" نَحْوَ: خَالَفْتُ إِلَى كَذَا، أَمَّا تَعَدَيهِ هَهنَا بِحَرْفِ الْمُجَاوَزِة "عَنْ" فَلِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى "صَدَّ" وَ "أَعْرَضَ"، أَيْ: صَدَّ عَنْ أَمْرِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مُخالِفًا لَهْ. أَوْ لأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ خِلَافَهُمْ إِنَّما يَقَعُ بَعْدَ أَمْرِه، كَمَا تَقُولُ: كَانَ الْمَطَرُ عَنْ رِيحِ كَذَا، وَ "عَنْ" لِمَا عَدَا الشَّيْءَ. وَ "أَمْرِهِ" مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ الزائدِ لفظًا، مَنْصوبٌ مَحَلَا عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ. والجُمْلِةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ هِيَ صِلَةُ الِاسْمِ الْمَوْصُولِ "الذينَ" فليسَ لَهَا
مَحَلَّ مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَنْ: حَرْفٌ نَاصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. وَ "تُصيبَهم" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أنْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الْمَفْعُولِيَّةِ، والميمُ علامَةُ تَذْكيرِ الجَمْعِ. وَ "فِتْنَةٌ" فَاعِلُهُ مرْفوعٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِةُ هَذِهِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْمَفْعولِيَّةِ لِـ "يَحْذَر". وَالتَّقْديرُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخالِفُونُ أَمْرَهُ إِصَابَةَ فِتْنَةٍ إِيَّاهُمْ.
قولُهُ: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَوْ: حرفُ عَطْفٍ للتَّنْويعِ، و "يُصِيبَهُمْ" مِثلُ "تُصيبَهُم" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ ولهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. وَ "عَذَابٌ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَ "أَليمٌ": صِفَةٌ لِـ "عَذابٌ" مَرْفوعَةٌ مِثْلُهُ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ قبلَها، عَلَى كونِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْمَفْعولِيَّةِ لِـ "يَحْذَر".
قرأَ الجُمُهورُ: {بَيْنَكم} بالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في مَبْحَثِ الإِعرابِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ "نَبِيِّكم" بِتَقْديمِ النُّونِ عَلَى الباءِ الْمَكْسورَةِ وبَعَدَهَا ياءٌ مُشَدَّدَّةٌ مَكسُورةٌ مَكَانَ "بَيْنَكم" الظَّرْفِ فِي قِراءَةِ الجُمْهورِ عَلى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الرَّسُولَ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ رسولٌ، وَبِإِضافَتِهِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ صَارَ أَشْهَرَ مِنَ الرَّسُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ نَعْتًا لَهُ. وَلَا يُقَالُ بِأَنَّهُ غيرُ جائزٍ لِأَنَّ هَذَا كَمَا قَرَّرْتُمْ أَعْرَفُ، وَالنَّعْتُ لَا يَكونُ أَعْرَفَ مِنَ الْمَنْعُوتِ. بَلْ إِمَّا أَقَلُّ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبةِ عَلى سَيِّدِنا "مُحَمَّدٍ" ـ علَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وإذًا فَقَدْ تَسَاوِيَا فِي التَّعْريفِ.
قرَأَ العامَّةُ: {لِواذًا} بكَسْرِ اللام، وَقَرَأَ يَزيدُ بْنُ قَطيبٍ "لَوَاذًا" بِفَتْحِها،
والْوَجْهَانِ صَحِيحَانِ. فَأَحَدُهُما: أَنْ َتكونَ مَصْدَرَ "لَاذَ" الثُّلاثيَّ، فَتَكُونُ: لاذَ لَواذًا، مِثْلَ: طافَ طَوَافًا. وَصَلَحَتْ أَنْ تَكونَ مَصْدَرَ "لَاوَذَ"، إِلَّا أَنَّ هَذا الفِعْلَ فُتِحَتْ فَاءُهُ إِتْبَاعًا لِفَتْحَةِ عَيْنِهِ وَهذا التَّعْلِيلٌ ضَعِيفٌ يَصْلُحُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ.
قرأ العامَّةُ: {يُخَالِفُونَ} مِنَ المُخالَفَةِ، وَقُرِئ "يُخَلِّفونَ" بِالتَّشْديدِ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: يُخَلِّفُونَ أَنْفسَهُم.