الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 98
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} يُعَلِّمُ الهُر ـ تَعالى، نَبيَّهُ ـ صلَّى الهُُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أنْ يَتَعَوَّذَ بهِ مِنْ قُرْبِ الشَّيَاطينِ لِأَنَّ قرْبَهُمْ منْهُ قد يُلْحِقُ بهِ الأَذى. فـ "أَنْ يَحْضُرُونَ" معناهُ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ حُضُورِهِمْ حَوْلي فِي أَيِّ حالٍ مِنْ أَحْوالي. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ الهُْ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ" قَالَ: يَحْضُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي.
ويَشْمَلُ هَذا التعوُّذُ شَيَاطينَ الإنسِ وشياطينَ الجانِّ كما قالَ ـ تعالى، مِنْ سُورةِ النَّاسِ: {مِنْ شَرِّ الوسواسِ الخنَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ} الآيَتَانِ: (4 ـ 5).
أَخْرَجَ الأئمةُ: ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ" عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنَ الْفَزَعِ: ((بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونَ. وَقد رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا، تَخْصِيصَ حَالِ الصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَحالِ حُلولِ الأَجَلِ، بالتَّعَوذِ، لأَنَّهَا أَحْرَى الأَحْوالِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، لَا سِيَّما الحَال الأَخِيرَة وَلِذَا قِيلَ في المَأثورِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّزْعِ عِنْدَ النَّزْعِ.
وَفِي الأَمْرِ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ حُضُورِهم بَعْدَ الأَمْرِ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِهِمْ مُبَالَغَةٌ في التَّحْذيرِ مِنْهم ومِنْ مُلَابَسَتِهِمْ. فإنَّ إِعَادةَ الفِعْلِ مَعَ تَكْرِيرِ النِّداءِ "ربِّ" إِنَّمَا هوَ لإِظْهَارِ كَمَالِ العِنايةِ بالمَأْمُورِ بِهِ. وَيُسَنُّ التَّعَوُّذُ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَحُضُورِهِمْ عِنْدَ النَّوْمِ. لِما أَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ـ رَضِيَ الهُُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً، قَالَ: ((إِذَا أَخَذْتَ مَضْجِعَكَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونَ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ، وَبِالْحَرِيِّ أَلَّا يَضُرُّكَ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/57 (16689) و (6/6 (24340).
قولُهُ تَعَالى: {وَأَعُوذُ بِكَ} الواو: حرفُ عَطْفٍ، وَ "أَعُوذُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يعودُ على حضرةِ نَبِيِّنا مُحَمِّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، و "بك" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ (أَعُوذُ)، وكَافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجملةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ معطوفةٌ على جملةِ قولِهِ {أَعوذُ} مِنَ الآيةِ الَّتي قَبْلَهَا عَلى كَوْنِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قُلْ".
قولهُ: {رَبِّ}: مَنْصوبٌ عَلَى النِّداءِ، وَعَلَامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقدَّرَةٌ عَلَى مَا قَبْلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةِ تَخْفيفًا، لِانْشِغالِ المَحَلِّ بِالْحَرَكةِ المُنَاسِبةِ لِلياءِ، وَهوَ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحذوفَةُ للتَّخْفيفِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وُجُمْلَةُ النِّدَاءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القوْلِ لِـ "قُلْ". وقد كُرِّرَ للعِنايةِ بِالاسْتِعَاذَةِ.
قولُهُ: {أَنْ يَحْضُرُونِ} أَنْ: حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ، و "يَحْضُرُون" فِعْلٌ مُضَارِعٌ منصوب بـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ؛ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفاعِلِيَّةِ، وَالنُّونُ هَذِهِ للوِقايَةِ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذُوفَةُ اجْتِزاءً عَنْهَا بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقَايَةِ لِرِعَايَةِ الفَاصِلَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفعوليَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فى تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، وَالتقديرُ: وأَعُوذُ بِكَ رَبِّ مِنْ حُضُورِهِمْ إيَّايَ. واللهُ أعلمُ.