الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 37
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} رَأَيْنا في الآيةِ: 35، السَّابقةِ كيفَ أَنَّ مَلَأَ مِنَ المُشَرْكِينَ قَدِ اسْتَنْكَروا في خطابهِمْ للعامَّةِ مِنْ قومِهم، إخبارَ نبيِّهِم لهم بالبَعثِ بعدَ الموتِ للحِسَابِ عَمَّا قدَّموا في الحياةِ الدنيا، فجزاءٌ وثوابٌ، أَوْ مُجازاةٌ وعقابٌ، ثمَّ تحدَّثتِ الآيةُ: 36، عَنْ تَأَكَّيدِهم لموقفِهِمْ هذا وثَباتهم عليْهِ باسْتِبْعادِهِمْ حصولَ ما يعِدُهم بِهِ رَسولُهم واعتبارِهِ أَمْرًا مُسْتحيلَ الوُقوعِ، وَهُنَا تتابعُ الآيَةُ حِكايَةَ ثباتِهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ وعنادِهِم، بحصْرِهِمُ الحياةَ في الدُّنيا فَقَطْ. لأنَّ هَذِا التركيبَ يفيدُ القَصْرَ فقدْ نَفَى بـ "إِنْ" ثُمَّ اسْتَثْنى بِـ "إِلَّا".
والضَّميرُ "هي" عائدٌ للحياةِ، فَالأَصْلُ أَنْ يُقالَ: إِنِ الحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدنيا، فوَضَعَ "هِيَ" مَوْضِعَ "حَيَاتُنا" لِأَنَّ الخَبَرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَيُبَيِّنها. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا ضَمِيرٌ لَا يُعْلَمُ مَا يُرادُ بِهِ إلَّا بِمَا يَتْلوهُ مِنْ بَيَانِهِ. وَمِنْهُ: هِيَ النَّفْسُ تَتَحَمَّلُ مَا حَمَلَتْ، وَ: هِيَ العَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ.
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا القِسْمَ ممَّا يُفَسَّرُ بِمَا بَعْدَهُ لَفْظًا وَرُتْبَةً، ونَسَبَهُ إِلَى الزَّمَخْشَرِيِّ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الكَلَامِ الذي نَقَلْناهُ عَنْهُ، ولَا تَعَلُّقَ لَهُ في ذَلِكَ. وَ "الدُّنْيَا": أَيْ: الْقَرِيبَةُ، بِمَعْنَى الْحَاضِرَةِ. وهَذا اللفظُ هوَ مُؤَنَّثُ قَوْلِكَ: "الْأَدْنَى".
قولُهُ: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} قِيلَ: أَرَادُوا بالمَوْتِ الْعَدَمَ السَّابِقَ عَلى الوُجُودِ في الحَيَاةِ الدُّنيا. أَوْ أَنَّهُم كانوا يُؤْمِنُونَ بالتَنَاسُخِ، أَيْ أَنَّهُم إِذَا ماتُوا وخرجَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسادِهِم، عادتْ لِتَحُلَّ في جَسَدٍ آخَرَ، فتَعودُ للحياةِ، وليسَ شَرطًا عِنْدَ أَرْبابِ هَذِهِ العقيدةِ أَنْ تحلَّ في جَسَدِ إِنْسانٍ، بَلْ رُبَّما حلَّتَ جَسَدَ حيوانٍ لتُعَذَّبَ فَتَنَالَ جَزَاءَ مَا اقْتَرَفَتْ في الحياةِ الدُّنْيا، أَوْ لِتَسْعَدَ في جَسَدٍ منَعَّمٍ، فيكونَ ذلكَ مكافأَةً على أعمالِها الحَسَنَةِ في حَيَاتِها الأُولَى. وهوَ قولٌ لبعضِ الفلاسِفةِ وعقيدةٌ لِبَعْضِ الطَّوَائِفِ. والقولانِ مُجافِيانِ للصَّابِ بِرَأْيِنا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يكونَ قولُهُمْ هَذَا عَلى حَدِّ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 55، مِنْ سورةِ آلِ عِمْرَانَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: { إِنِّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فالْعَطْفُ فِيهِ بِالْواوِ، وَهِيَ ـ عَلَى قَوْلٍ، لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الحَيَاةُ الَّتِي عَنَوْهَا الحَيَاةَ الَّتي قَبْلَ الْمَوْتِ، فَكَأَنَّهم قَالُوا: "نَحْيَا وَنَمُوتُ" فَلَمَّا حَكَى عَنْهَمْ قَالَ: "نَمُوتُ وَنَحْيَا" لِيَكُونَ أَوْفَقَ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا". فَفِي الآيَةِ تَقْديمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَمَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيا، نَحْيَا فِيهَا وَنَمُوتُ، كَمَا قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} الآيةَ: 43. ذَكَرَهُ النَّحَاسُ أَبو جَعْفَرٍ في تفسيرِهِ (معاني القرآنِ): (4/458)، وهوَ قولٌ لهُ وَجاهَتُهُ، فإنَّ المعروفَ أنَّ الرُّكوعَ يسبقُ السُّجُودَ في الصَّلاةِ.
وَقيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُرادَهُمْ بِقَوْلِهِم: "وَنَحْيَا" اسْتِمْرارُ حياتِهِمْ بِأَبْنَائهِمْ، مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِم. وَهُوَ كَلَامٌ مَنْطِقيٌّ، قالَهُ مُجَاهِدٌ: أَيْ نَهْلِكُ نَحْنُ وَيَبْقَى أَبْنَاؤُنَا، وَيَهِلِكُ أَبْنَاؤنَا وَيَبْقَى أَبْنَاؤُهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبو جَعْفرٍ النَّحَاسُ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِهِ "مَعَانِي القُرْآنِ": (4/458) ولمْ ينسِبْهُ لأحَدٍ. وَقالَ الكَلْبِيُّ نَحْوًا مِنْ هَذَا، ذَكَرَهُ عَنْهُ المَاوَرْدِيُّ فِي تفسيرِهِ "النُّكَتُ وَالعُيُونُ": (4/53) بِنَحْوِهِ، وَمُقَاتِلٌ في تَفْسِيرِهِ: (2/30ب).
وَقَالَ آخَرُونَ: المَعْنَى: يَمُوتُ قَوْمٌ مِنَّا وَيَحْيَا آخَرُونَ. ذَكَرهُ المَاوَرْدِيُّ في (النُّكَتُ والعيون): (4/53) وَنَسَبَهُ لِابْنِ عِيسَى. وَذَكَرَهُ البَغَوِيُّ (2/417) وَلَمْ يَنْسِبْهُ لِأَحَدٍ. وَذَكَرَه السَّمِينُ الحَلَبِيُّ فِي تفسيرِهِ: (الدُّرُّ المَصُونُ): (8/342) وَاسْتَظْهَرَهُ. فَقَدْ يَكُونُونَ عَنَوْهُ بِقَوْلِهِمْ "نَمُوتُ وَنَحْيَا". لَكِنَّ الأَقْرَبَ للصَّوابِ ـ في رَأْيِنَا، وإنْ لَمْ يرَهُ المُفَسِّرونَ، أَنَّهُمْ إِنَّما كانوا يَرَوْنَ بِأَنَّ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ إِنَّمَا هُمَا في الدُّنْيا فَقَطْ، يَنَامُونَ فَيَمُوتُونَ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُونَ فَيَعُودُونَ إِلَى الحَيَاةِ مِنْ جَديدٍ، وَهَكَذا دَوَالَيْكَ حَتَّى يَكُونَ المَوْتُ الأَخِيرُ الَّذي يَعْقُبُهُ البِلَى والفَنَاءُ وتَنْعَدِمُ الحَياةُ بَعَدَهُ. فَإِنَّ اعتبارَ النَّوْمِ مَوتًا ثَقَافَةٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ النَّاسِ مُتَرَسِّبٌ في ذاكِرَتِهِم الاجتماعيَّةِ، وَمُحَصِّلَتِهِمُ الثَّقافيَّةِ مِنَ المَوْرُوثِ عَنِ الأنبياءِ والمُرسَلِينَ عَبْرَ السِّنينَ، وَقَدْ جاءَ القُرْآنُ الكَريمُ لِيُرَسِّخَهَا بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الزُّمَرِ: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الآيةَ: 42، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أَمَّا أَنْ تَكونَ ثَمَّةَ حَيَاةٌ بعْدَ فَنَاءِ الأَجْسَادِ وَتَفَتُّتِ العِظَامِ، فَلَا، لأَنَّهُ ـ في رأْيِهِمْ، أَمْرٌ مُستحيلٌ، أَنْ تَعُودَ الأَجْسادُ إِلَى ما كانتْ عليْهِ قبلَ فنائها، وَتَرْجِعَ لَهَا الأَرْواحُ التي كانتْ تَسْكُنُها، وَتَدُبَّ الحَياةُ فيها مِنْ جديدٍ.
قولُهُ تَعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} إِنْ: نَافِيَةٌ. و "هِيَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَرْنِيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وَأَصْلُهُ: إِنِ الحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا، فَأُقِيمَ الضَّمِيرُ مُقَامَ الأُولَى لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، تجَنُّبًا للتَّكْرَارِ، وإِشْعَارًا بإغِنَائِهَا عَنِ التَّصْريحِ بِها. وَ "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. و "حَيَاتُنَا" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ مُضافٌ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرٍّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "الدُّنْيَا" صِفَةٌ لِـ "حَيَاتُنَا" مرفوعةٌ مِثْلُهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قالَ" عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنَفَةً، مَسُوقَةً لِتَقْريرِ مُعْتَقَدِهِم.
قَوْلُهُ: {نَمُوتُ} نَمُوتُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يعُودُ عَلَى جماعِةِ المُتَكَلِّمِينَ مِنْ المَلأِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُضَافِ إِلَيْهِ فِي "حَيَاتُنَا".
قولُهُ: {وَنَحْيَا}: وَ "وَنَحْيَا" الواو: للعَطْفِ، وَ "نَحْيَا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعلامَةُ رَفعِهِ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُرِ ظهورِها على الألِفِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يعُودُ عَلَى جماعِةِ المُتَكَلِّمِينَ مِنْ المَلأِ، والجملةُ معطوفةٌ على جُمْلَةِ "نموتُ" المُفَسِّرَةِ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنْ حَيَاتَهُم مَا هِيَ إِلَّا كَذَا، عَلَى كونِها في محَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُضَافِ إِلَيْهِ فِي "حَيَاتُنَا".
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. و "ما" حِجَازِيَّةٌ. و "نَحْنُ" اسْمُهَا مرفوعٌ بِها. و "بِمَبْعُوثِينَ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ زائدٌ، و "مَبْعُوثِينَ" مجرورٌ لفظًا بِحرفِ الجَرِّ الزَّائدِ، منصوبٌ محلًا على أنَّهُ خبرُ "مَا" الحِجَازِيَّ، وعَلامَةُ الجَرِّ وَالنَّصْبِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ معطوفةٌ عَلَى جْمَلَةِ قَوْلِهِ: "إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا" على كونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ {قالَ}.